التفاسير

< >
عرض

وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَآبَّةٍ وَهُوَ عَلَىٰ جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَآءُ قَدِيرٌ
٢٩
وَمَآ أَصَـٰبَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ
٣٠
وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي ٱلأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ
٣١
-الشورى

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ... } الآية قد تقدم الكلام على دلالة خلق السموات والأرض والحيوانات على وجود الإله الحكيم.
فإن قيل: كيف يجوز إطلاق لفظ الدابَّة على الملائكة؟!.
فالجواب: فيه وجوه:
الأول: أنه قد يضاف الفعل إلى جماعة، وإن كان فاعله واحداً منهم كما يقال: "بَنُو فُلاَنٍ فَعَلُوا كََذَا"، وإنما فعله واحدٌ منهم ومنه قوله:
{ يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ } [الرحمن:22].
الثاني: أن الدابة عبارة عما فيه الروح والحركة، والملائكة لهم الروح والحركة.
الثالث: لا يبعد أن يقال: إنه تعالى خلق في السموات أنواعاً من الحيوانات يمشون مشي الأناس على الأرض. وروى العبَّاس ـ (رضي الله عنه) ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال:
"فوق السماء السابعة بحر (بين) أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض، ثم فوق ذلك ثمانية أوعالٍ بين رُكَبِهِنَّّ وأَظلاَفِهِنَّ كما بين السَّمَاءِ والأرْضِ، ثُمَّ فَوْقَ ذَلِك العَرْش..." الحديث.
قوله: "وَمَا بَثَّ" يجوز أن تكون مجرورة المحل عطفاً على "السموات" أو مرفوعته عطفاً على "خلق"، على حذف مضاف أي وخلق ما بثَّ. قاله أبو حيان. وفيه نظر؛ لأنه يئول إلى جره بالإضافة "لِخَلق" المقدر فلا يعدل عنه.
قوله: "إذَا يَشَاءُ"إذَا" منصوبة "بجَمْعِهِمْ" لا "بِقَدِيرٍ"، قال أبو البقاء: لأن ذلك يؤدي إلى أن يصير المعنى: وهو على جمعهم قدير إذا يشاء، فتتعلق القدرة بالمشيئة وهو محال. قال شهاب الدين: وَلاَ أدري ما وجه كونه محالاً على مذهب أهل السنة، فإن كان يقول المعتزلة، وهو القدرة تتعلق بما لم يشأ الله مشى كلامه، ولكنه مذهب رديء لا يجوز اعتقاده. ونقول: يجوز تعلق الظرف به أيضاً. قال الزمخشري: "إذا" تدخل على المضارع كما تدخل على الماضي, قال تعالى:
{ وَٱلْلَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ } [الليل:1] ومنه: "إذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ"، والمقصود أنه تعالى خلقها لا لعجز ولا لمصلحة ولهذا قال:{ وهو على جمعهم إذا يشاء قدير }، يعني الجمع والحشر والمحاسبة.
فصل
احتج الجبَّائيُّ بقوله: إذا يشاء قدير على أن مشيئة الله تعالى محدثةٌ، قال: لأن كلمة "إذا" ظرف لما (لم) يستقبل من الزمان وكلمة "يَشَاءُ" صيغة المستقبل فلو كانت مشيئته تعالى قديمة لم يكن لتخصيصها بذلك الوقت المستقبل فائدة، ولما دل قوله: "إذَا يَشَاءُ" على التخصيص علمنا أن مشيئته تعالى محدثة.
وأجيب: بأن هاتين الكلمتين كما دخلتا على المشيئة فقد دخلتا أيضاً على لفظ "القَدِير" فلزم على هذا أن تكون قدرته صفة محدثة، ولما كان هذا باطلاً فكذا القول في المشيئة.
قوله: { وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } قرأ نافع وابن عامر بما كسبت بغير فاء، والباقون بالفاء "فما" في القراءة الأولى الظاهر أنها موصولة بمعنى الذي، والخبر الجار من قوله "بما كسبت".
وقال قوم منهم أبو البقاء: إنها شرطية حذفت منها الفاء، قال أبو البقاء: كقوله تعالى:
{ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } [الأنعام:121]
وقول الآخر:

4382ـ مَـنْ يَفْعَـل الحَسَنَاتِ اللهُ يَشْكُرُهَا ...........................

وهذا ليس مذهب الجمهور، إنما قال به الأخفش وبعض البغداديِّين، وأما قوله: "إنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ" فليس جواباً للشرط، إنما هو جواب لقسم مقدر حذفت لامه الموطِّئة قبل أداة الشرط.
وأما القراءة الثانية، فالظاهر أنها فيها شرطية. وقال أبو البقاء: إنَّه ضَعيفٌ ولا يلتفت إلى ذلك. ويجوز تكون موصولة، والفاء داخلة في الخبر تشبيهاً للموصول بالشرط بشروط مذكورة في هذا الكتاب. وقد وافق نافع وابن عامر مصاحفهما، فإن الفاء ساطقة من مصاحف المدينة والشام، وكذلك الباقون، فإنها ثابتة في مصاحف مكَّة والعراق.
فصل
اختلفوا فيما يحصل في الدنيا من الآلام والأسقام، والقَحط، والغَرَق، والمصائب هل هي عقوبات على ذنوب سلفت أم لا؟ فمنهم من أنكر ذلك لوجوه:
الأول: قوله تعالى:
{ ٱلْيَوْمَ تُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَـسَبَتْ } [غافر:17] بيّن تعالى أن ذلك إنما يحصل يوم القيامة وقال تعالى: { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ } [الفاتحة:3] أي يوم الجزاء، وأجمعوا على أن المراد منه يوم القيامة.
الثاني: مصائب الدنيا يشترك فيها الزنديق، والصِّدِّيق، فيمتنع أن يكون عقوبة على الذنوب، بل حصول المصائب (للصالحين) والمتقين أكثر منه للمذنبين، ولهذا قال ـ عليه الصَّلاة والسَّلام ـ:
"خُصَّ البَلاَءُ بالأَنْبِيَاءِ ثُمَّ الأَمْثَل فالأَمْثَلِ" .
الثالث: أن الدنيا دار تكليف، فلو حصل الجزاء فيها لكانت دار تكليف ودار جزاء معاً وهو محالٌ. وقال آخرون: هذه المصائب قد تكون أَجزيةً على ذنوب متقدمة لهذه الآية، ولما روى الحسن قال: لما نزلت هذه الآية قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ "والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا مِنْ خَدْشِ عُودٍ ولا عَثْرةِ قَدَمٍ وَلاَ اخْتِلاَجِ عِرْقٍ إلاَّ بِذَنْبٍ وَمَا يَعْفُو اللهُ عَنْهُ أَكْثَرُ" .
قال علي بن أبي طالب: "أَلا أُخْبِرُكُمْ بأَفْضَلِ آيَةَ في كِتَابِ اللهِ حَدَّثَنا بِهَا رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ: { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فبمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوعَنْ كَثِيرٍ } (قال): وَسَأفسِّرُها لَكَ يَا عَلِيُّ مَا أَصَابَكُمْ مِنْ مَرَضٍ أَوْ عُقُوبَةٍ أَوْ بَلاَءٍ في الدُّنْيَا فبمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ واللهُ عَزَّ وجَلَّ أَكْرَمُ مِنْ أَنْ يُثْنِيَ عَلَيْكُمْ العُقُوبَةَ في الآخِرَةِ، وَمَا عَفَا اللهُ عَنْهُ في الدُّنْيَا، فَالله أَحْلَمُ مِنْ أنْ يَعُودَ بعد عَفْوِهِ" . وتمسكوا أيضاً بقوله تعالى بعد هذه الآية: { أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا } وذلك تصريح بأن ذلك الاهلاك بسبب كسبهم. وأجاب الأولون بأن حصول هذه المصائب يكون من باب الأمتحان في التكليف، لا من باب العقوبات، كما في حق الإنبياء والأولياء. ويحمل قوله: { بما كسبت أيديكم } على أن الأصلح عند إتيانكم بذلك الكسب إنزال هذه المصائب عليكم.
فصل
هذه الآية تقتضي إضافة الكسب إلى اليد، والكسب لا يكون باليد بل بالقدرة القائمة باليد فوجب أن يكون المراد من لفظ اليد هاهنا القدرة، وإذا كان هذا المجاز مشهوراً مستعملاً كان لفظ اليد الوارد في حق الله تعالى يجب حمله على القدرة تنزيهاً لله تعالى عن الأعضاء.
قوله: { وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ } أي قد يترك الكثير بفضله ورحمته قال الواحدي ـ بعد أن روى حديث عليٍّ المتقدم ـ: وهذه أرجى آية في كتاب الله؛ لأن الله تعالى جعل ذنوب المؤمنين صنفين، صنف كفَّر عنهم بالمصائب، وصنفٌ عَفَا عنه في الدنيا، وهو كَرَمٌ لا يرجع في عفوه فهذه سنة الله مع المؤمنين. وأما الكافر، فإنه لا يعجل له عقوبة ذنبه حتى يوافي (رَبَّهُ) يوم القيامة.
ثم قال: { وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ } أي بفائتين "في الأرض" هرباً، أي لا تُعْجِزونَنِي حيث ما كنتم ولا تَسْبِقُونِي { وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ } والمراد به من يعبد الأصنام، بين أنه لا فائدة فيها ألبتة بل النّصير هو الله تعالى، فلا جرم هو الذي يحْسُنُ عِبَادَتُهُ.