التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحُكْمَ وَٱلنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ ٱلطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى ٱلْعَالَمينَ
١٦
وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ ٱلأَمْرِ فَمَا ٱخْتَلَفُوۤاْ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ
١٧
ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مِّنَ ٱلأَمْرِ فَٱتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ ٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ
١٨
إِنَّهُمْ لَن يُغْنُواْ عَنكَ مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ ٱلظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلْمُتَّقِينَ
١٩
-الجاثية

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ ٱلْكِتَابَ } يعني التوراة { وَٱلْحُكْمَ وَٱلنُّبُوَّةَ } والمراد بهذه الآية أنه تعالى بين أنه أنعم بنعم كثيرة على بني إسرائيل مع أنه حصل بينهم الاختلاف على سبي البغي والحسد، والمقصود منه أن يبين أن طريقة قومِهِ كطريقة مَنْ تَقَدَّم. واعلم أن المراد بالكتاب التوراة أما الحكم، فقيل: المراد به العِلْم والحُكْمُ. وقيل: المراد العلم بفصل الحكومات. وقيل: معرفة أحكام الله وهو علم الفقه. وأما النبوة فمعلومة { وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ ٱلطَّيِّبَاتِ } الحَلاَلاَت، يعني المَنَّ والسَّلْوى { وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى ٱلْعَالَمينَ }. قال المفسرون: على عالَمِي زمانهم, قال ابن عباس ـ (رضي الله عنهما) ـ لم يكن أحد من العالمين أكرم على الله ولا أحبَّ إليه منهم.
ثم قال: { وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ ٱلأَمْرِ } قال ابن عباس ـ (رضي الله عنهما) ـ يعني العلم بمَبْعَثِ محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وما بين لهم من أمره وأنه يهاجر من تِهامةَ إلى يثربَ، ويكون أنصاره من أهل يثربَ. وقيل: المراد بالبيِّنات المعجزات القاهرة على صحة نبوتهم والمراد معجزات موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ.
ثم قال تعالى: { فَمَا ٱخْتَلَفُوۤاْ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ } وتقدم تفسير هذا في سورة "حم عسق". والمراد من ذكر هذا الكلام التعجب من هذه الحالة؛ لأن حصول العلم يوجب ارتفاع الخلاف، وههُنَا صار مجيء العلم سبباً لحصول الاختلاف؛ وذلك لأنهم لم يكن مقصودهم من العلم نفس العلم، وإنما مقصودهم طلب الرِّيَاسَةِ والتَّقَدُّم، فيجوز أنه علموا ثم عاندوا. ويجوز أن يريد بالعلم الإدلة التي توصل إلى العلم، والمعنى أنه تعالى وضع الدلائل والبينات التي لو تأملوا فيها لعرفوا الحقَّ، لكنهم اختلفوا وأظهروا النزاع على وجه الحسد، ثم قال: { إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بِيْنَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } والمعنى أنه لا ينبغي أن يغتر المُبْطِل بِنعَم الدنيا، فإنها وإن ساوت نِعَمَ المحقّ أو زادت عليها، فإنه سيرى في الآخرة ما يسوؤه وذلك كالزجر لهم. ولما بين تعالى أنهم أعرضوا عن الحق بغياً وحسداً، أمَرَ رسوله بأن يَعْدِلَ عن تلك الطريقة، وأن يتمسَّك بالحقّ وأن لا يكون له غَرَض سوى إظهار الحق فقال: { ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مِّنَ ٱلأَمْرِ } أي جعلناك يا محمد على سنة وطريقة بعد موسى "مِنَ الأَمْر" من الدِّين { فَٱتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ ٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } يعني مراد الكافرين وأديانهم الخبيثة. قال الكلبي: إن رؤساءَ قريشٍ قالوا للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو بمكة ارجع إلى دين آبائك فهم كانوا أفْضَلَ منْك وأسَنّ، فأَنْزَل الله تَعَالَى هذه الآية.
قوله: "عَلَى شَرِيعةٍ" هو المفعول الثاني لجَعَلْنَاك والشريعة في الأصل ما يرده الناس من الماء في الأنهار، ويقال لذلك الموضع شريعة، والجمع شرائع قال:

4443ـ وَفِي الشَّرَائِع مِنْ جَيْلاَن مُقْتَنَصٌرَثُّ الثِّيابِ خَفِيُّ الشَّخْصِ مُنْسَرِبُ

فاستعير ذلك للدين، لأن العباد يردون ما يحيى به نفوسهم.
قوله: { إِنَّهُمْ لَن يُغْنُواْ عَنكَ مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً } أي إن اتبعت أهواءهم { وَإِنَّ ٱلظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ } والمعنى إنك لو ملت أديانهم الباطلة لصرت مستحقاً للعذاب وهم لا يقدرون على دفع عذاب الله عنك، وإنَّ الظالمين يتولى بعضهم بعضاً في الدنيا وأما في الآخرة، فلا ولي لهم ينفعهم في إيصال الثوب، وإزالة العقاب، وأما المتقون المهتدون فالله وليهم وناصرهم.