التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى ٱلْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوۤاْ آمَنَّا وَٱشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ
١١١
-المائدة

اللباب في علوم الكتاب

من قال: إنهم كانُوا أنْبِيَاء، قال: المُرَادُ هذا الوَحْيُ الذي يُوحَى إلى الأنبياء، ومن قال: إنَّهُمْ ما كانوا أنْبِيَاء، قال: المُرَادُ بذلك: الوَحْيُ والإلْهَام، كقوله: { { وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ } [القصص: 7] وقوله: { { وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَىٰ ٱلنَّحْلِ } [النحل: 68]، وإنما ذُكِرَ هذا في مَعْرضِ تَعْدِيدِ النِّعَمِ؛ لأنَّ صَيْرُورة الإنْسَان مقبُولَ القَوْل عِنْدَ النَّاسِ، محبوباً في قُلوبِهِم من أعْظَمِ نِعَمِ اللَّه - تبارك وتعالى - على الإنسان، وذكر - تبارك وتعالى - إنَّما ألْقَى ذلك الوحي في قلوبهم فآمَنُوا وأسْلَمُوا، وإنَّما قدَّم ذِكْرَ الإيمان على الإسْلام؛ لأنَّ الإيمان صِفَةُ القَلْبِ والإسلام عبارةٌ عن الانْقِيادِ والخُضُوع في الظَّاهِرِ، يعني: آمَنُوا بِقُلُوبِهِم وانْقَادُوا بِظَواهِرِهِم.
فإن قيل: إنَّه تعالى ذكر في الآية:
{ { ٱذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَىٰ وَالِدَتِكَ } [المائدة: 110] أنَّ جميعَ ما ذكر اللَّهُ - تعالى - من النِّعَمِ مُخْتَصٌّ بعيسى - عليه الصَّلاة والسَّلام -، وليس لأمِّهِ بشيء منها تَعَلُّقٌ.
فالجوابُ: كُلّ ما حَصَلَ لِلْوَلَدِ من النِّعَمِ الجَلِيلَةِ، والدَّرَجَات العالِيةَ، فهو حَاصِلٌ للأمِّ على سبيلِ التضمّنِ والتَّبع، قال - تبارك وتعالى -:
{ { وَجَعَلْنَا ٱبْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً } [المؤمنون: 50]، فجعلهما معاً آيَةً واحِدَةً؛ لشِدَّةِ اتِّصَال كُلِّ واحدٍ مِنْهُما بالآخر.
رُوِي أنَّهُ - تعالى - لمَّا قال لعيسى:
{ { ٱذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَىٰ وَالِدَتِكَ } [المائدة: 110] من لِبْسِ الشَّعْرِ وأكْلِ الشَّجَرِ، لم يَدَّخِرْ شَيْئاً لِغَد، ويقول مع كل يومٍ رِزْقُهُ، ولم يَكُنْ له بَيْتٌ فَيُخَرَّب، ولا وَلدٌ فَيَمُوت، أيْنَمَا أمْسَى باتَ.
قوله تعالى: { أَنْ آمِنُواْ بِي }: في "أنْ" وجهان:
أظهرهما: أنها تفسيرية؛ لأنها وردت بعد ما هو بمعنى القولِ، لا حروفه.
والثاني: أنها مصدريَّةٌ بتأويلٍ متكلَّف، أي: أوْجَبْتُ إليهم الأمر بالإيمان، وهنا قالوا "آمَنَّا" ولم يُذْكَر المُؤمنُ به، وهناك
{ { آمَنَّا بِٱللَّهِ } [آل عمران: 52] فذكره، والفرق أنَّ هناك تقدَّم ذكرُ الله تعالى فقط، فأُعيدَ المؤمَنُ به، فقيل: "بالله" وهنا ذُكِرَ شيئان قبل ذلك، وهما: { أَنْ آمنُوا بِي وَبِرَسُولِي }، فلم يُذْكَر؛ ليشمل المذكورين، وفيه نظرٌ، وهنا قال "بأنَّنَا" وهناك قال "بِأنَّا" بحذف "نَا"، وقد تقدَّم غيره مرة: أنَّ هذا هو الأصل، وإنما جِيءَ هنا بالأصل؛ لأنَّ المُؤمنَ به متعدِّدٌ، فناسَبَه التأكيد.