التفاسير

< >
عرض

وَمِنَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَىٰ أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ ٱللَّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ
١٤
-المائدة

اللباب في علوم الكتاب

قوله سبحانه: { وَمِنَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَىٰ } الآية.
في قوله: { وَمِنَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ } خمسَة أوْجه:
أظهرها: [أنَّ "مِنَ"] مُتعلِّق بقوله: "أخَذْنَا"، والتَّقدير الصَّحيح فيه أنْ يُقال: تقديره: وأخْذَنا مِن الذين قالُوا: إنَّا نَصَارى ميثاقَهُمْ، فَتُوقعُ "الَّذِين" بعد "أخَذْنَا" وتُؤخر عنهم "ميثاقَهُمْ"، ولا يجُوز أن تُقدِّر: "وأخَذْنَا مِيثاقَهُمْ" مِن "الَّذين" فيتقدَّم "ميثاقُهم" على "الذيِن قَالُوا".
وإن كان ذَلِكَ جَائِزاً من حيث كَوْنِهمَا مَفْعُولَيْنِ، كلٌّ منهما جَائِز التَّقْديم والتَّأخير؛ لأنَّه يلزم عَوْدُ الضَّمير على مُتَأخِّر لَفْظاً ورتْبة وهو لا يجُوز إلا في مَوَاضِع مَحْصُورة، نصَّ على ذَلِك جماعة منهم مَكِّي وأبُو البَقَاء.
والثاني: أنَّهُ متعلِّق بمَحْذُوف على أنَّهُ خبر لمُبْتَدأ مَحْذُوف، قامت صِفَتُهُ مقامَهُ، والتَّقْدِير: { وَمِنَ الَّذِين قالُوا إِنَّا نَصَارى قَوْمٌ أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ }، فالضَّمير في "مِيثَاقَهُم" يعودُ على ذلك المَحْذُوف.
والثالث: خَبرٌ مقدَّم - أيضاً - ولكن قَدَّرُوا المُبْتدأ مَوْصُولاً حُذِف، وبقيت [صِلَتُه] والتقدير: ومِن الَّذِين قالوا: إنَّا نَصَارَى مَنْ أخذْنَا ميثَاقَهُم فالضمير في "مِيَثاقَهُم" عائد على "مِنْ"، والكوفِيُّون يُجِيزُونَ حذفَ الموصول، وقد تقدم لنا معهم البَحْثُ في ذلك، ونقل مَكِّي مذهب الكُوفيِّين هذا، [وقدَّره عندهم: "ومن الذين قالوا إنَّا نصارى من أخذنا"]، وهذا التَّقدير لا يُؤخَذُ مِنْه أنَّ المحذوف مَوْصُولٌ فقط، بل يَجُوز أن تكون "مِنْ" المُقَدَّرة نكرةٌ موصُوفَةٌ حذفت وَبقِيَت صِفَتُها، فيكون كالمَذْهَبِ الأوَّل.
الرابع: أن تتعلَّق "من" بـ "أخذنا" كالوجه الأوَّل، إلا أنَّه لا يلْزَمُ فيه ذلك التَّقْدير، وهو أن توقع "من الَّذين" بعد "أخذنا" وقبل: "مِيثَاقَهُم"، بل يجُوزُ أن يكون التَّقْدير على العَكْسِ، بمعنى: أنَّ الضَّمير في "مِيثاقَهُم" يعود على بَني إسْرائيل، ويكون المَصْدَرُ من قوله: "مِيثَاقَهُم" مصدراً تشبيهيًّا، والتَّقْدير: أخذنا من النَّصَارى مِيثَاقاً مثل مِيثاق بَنِي إسْرَائيل، كقَوْلك: أخَذْتُ من زيد ميثاقَ عَمْرو، أي [ميثاقاً مثل ميثاق عمرو]، وبهذا الوَجْه بدأ الزَّمَخْشَري، فإنَّه قال: أخَذْنَا من النَّصَارى مِيثَاق من ذكر قَبْلَهم من قَوْم مُوسَى، أي: مِثْل مِيثَاقِهم بالإيمَان باللَّه والرُّسُل.
والخامس: أن "مِن الَّذين" معطوفٌ على "مِنْهُم" في قوله: { وَلاَ تَزَال تطَّلِعُ على خَائِنَةٍ مِنْهُم } أي: من اليَهُود [والمعنى: ولا تزال تَطَّلِع على خَائِنَةٍ من اليَهُودِ]، ومن الذين قالوا إنَّا نَصَارَى، ويكون قوله: "أخَذْنَا مِيثَاقَهُم" على هذا مُسْتأنفاً، وهذا يَنْبَغِي ألاَّ يَجُوز لِوَجْهَيْن:
أحدهما: الفَصْلُ غير المُغْتَفَر.
والثاني: أنَّه تهيئَةٌ للعامِل في شيء، وقَطْعه عنه، وهو لا يَجُوز.
فصل
إنما قال: { وَمِنَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَىٰ } ولم يقل: "ومن النَّصارى"؛ لأنَّهم سمُّوا أنْفُسَهم بهذا الاسْمِ ادَّعاءً لِنُصْرة الله، بِقَوْلهم لعيسى:
{ { نَحْنُ أَنصَارُ ٱللَّهِ } [آل عمران: 52]، وليسوا مَوْصُوفِين بِهِ.
قال الحسن: فيه دَلِيلٌ على أنَّهُم نَصَارى بتَسْمِيَتِهِم لا بتَسْمِيَة اللَّه وقيل: أراد بِهِم اليَهُود والنَّصارى، فاكْتَفَى بذكر أحدهما، والصَّحيح الأوَّل، والمراد بـ "مِيثَاقَهُم" أنَّه مكتُوب في الإنْجِيل أن يُؤمِنُوا بِمُحَمَّدٍ - عليه الصلاة والسلام - { فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ } وذلك الحَظُّ هو الإيمانُ بمحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وتنكير "الحَظّ" يدلُّ على أنَّ المراد به حَظٌّ واحد، وهو الإيمانِ بِمُحَمَّد، وإنما خَصَّ هذا الواحد بالذِّكْر مع أنَّهُم تَرَكُوا كثيراً ممَّا أمرهم به، لأنَّ هذا هو المُهِمُّ الأعْظَم.
وقوله: { فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ } بالأهواء المختلفة والجِدَال في الدِّين، فقيل: بَيْن اليَهُود والنَّصَارى، وقيل: بين فِرَقِ النَّصَارى، وأن بعضهم يُكَفِّر بَعْضاً إلى يوم القِيَامة.
وقوله: { وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ ٱللَّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } وعيد لهم.
قوله: "بَيْنَهُمْ" فيه وجهان:
أحدهما: أنَّه ظَرْف لـ "أغْرَيْنَا".
والثاني: أنَّهُ حال من "العَدَاوَةِ"، فيتعلَّق بِمَحْذُوف، ولا يَجُوز أن يَكُون ظَرْفاً لِلْعَدَاوةَ؛ لأنَّ المصدر لا يتقدَّم مَعْمُولُه عليه.
و{ إلَى يَوْمِ القِيَامَةِ } أجاز فيه أبُو البَقَاء أن يتعلَّق بـ "أغْرَيْنَا"، أو بـ "العَدَاوة" أو بـ "البَغْضَاء" أي: أغرينا إلى يَوْمِ القيامة [بينهم العداوة والبغضاء، أو أنهم يتعادون إلى يوم القيامة] أو يتباغضُون إلى يومِ القيامة.
وعلى ما أجَازَهُ أبو البَقَاء أن تكون المَسألَةُ من باب الإعْمَال، ويكون قد وجد التَّنَازع بين ثلاثةِ عوامِلٍ، ويكون من إعْمَال الثَّالِث للحَذْفِ من الأوَّل والثَّاني، وتقدَّم تَحْرِير ذلك.
و"أغْرَيْنَا" من أغْرَاه بكذا أي: ألزمه إياه، وأصْلُه من الغِرَاء الذي يُلْصَقُ به، ولامُهُ وَاوٌ [فالأصلُ] أغْرَوْنَا، وإنما قلبت الواوُ ياءً؛ لوقوعها رابعَةٌ [كـ "أغْوَيْنَا"،]، ومنه قولهم: سَهْمٌ مغروٌّ أي: معمول بالغِرَاء، يقال: غَرِيَ بكذا يغْرى غَرًى وغرَاء، فإذا أريد تَعْدِيته عُدِّي بالهمزة، فقيل: أغْرَيْتُه بكذا.
والضمير في "بَيْنَهُم" يحتمل أن يعُود على { الَّذين قَالُوا: إِنَّا نصارى }، وأن يعود على اليَهُود المتقدمين الذِكْر، وبكلٍّ قال جماعَةٌ كَمَا [قَدَّمْنَا] وهذا الكلامُ مَعْطُوفٌ على الكلام قَبْلَه من قوله: { وَلَقَدْ أخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ } أي: ولقد أخَذَ الله ميثاقَ بني إسْرَائيل، وأخَذْنا من الَّذين قالوا.