التفاسير

< >
عرض

فَتَرَى ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَىٰ أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى ٱللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِٱلْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَىٰ مَآ أَسَرُّواْ فِيۤ أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ
٥٢
وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ أَهُـۤؤُلاۤءِ ٱلَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ
٥٣
-المائدة

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { فَتَرَى ٱلَّذِينَ }: الجمهورُ على "تَرَى" بتاء الخطاب، و"الذين" مفعُول، فإن كانت الرُّؤيَة بَصَرِيَّةً أو عرفانية - فيما نقله أبُو البقاء وفيه نظر - فتكون الجُمْلَة من "يُسَارِعُون" في محلِّ نصبٍ على الحال من الموصُول، وإن كانت قَلْبِيَّةً، فيكون "يُسَارِعُون" مفعولاً ثانياً.
وقرأ النَّخْعِي، وابن وثَّاب "فَيَرَى" باليَاء وفيها تَأويلان:
أظهرهما: أنَّ الفاعِل ضمير يَعُود على الله تعالى، وقيل: على الرَّأي من حيث هُو: و"يُسَارِعون" بحالتها.
والثاني: أن الفاعل نفس الموصُول، والمفعول هو الجملة من قوله: "يسارعون"، وذلك على تأويل حذْفِ "أنْ" المصدريَّة، والتقدير: ويرى القوم الذين في قُلُوبهم مَرَضٌ أن يُسَارِعُوا، فلما حُذِفَتْ: "أنْ" رُفِعَ الفِعْلُ؛ كقوله: [الطويل]

1980- ألاَ أيُّهَذَا الزَّاجِرِي أحْضُرُ الوَغَى .....................

فصل
أجاز ابْنُ عطيَّة حذف "أن" المصدريّة، إلا أنَّ هذا غير مَقِيسٍ؛ إذ لا تُحْذَفُ "أن" عند البصريين إلا في مواضع مُحفُوظة.
وقرأ قتادةُ والأعْمش: "يُسْرِعُونَ" من أسْرَعَ. و"يَقُولُون" في محل نَصْب [على الحالِ من فاعل "يُسَارِعُون"، و"نَخْشَى" في محل نَصْبٍ بالقَوْل، و"أنْ تُصِيبنَا" في محلِّ نَصْبٍ] بالمفعُول أي: "نَخْشَى إصابَتَنَا"، والدَّائرة صفة غَالِبة لا يذكر موصُوفها، والأصل: دَاوِرَة؛ لأنَّها من دار يَدُور.
قال الواحدي: الدَّائرة من دَوَائِر الزَّمن، كالدَّولة والدَّوَائِل تَدُولُ قال الشاعر: [الرجز]

1981- يَرُدُّ عَنْكَ القَدَرَ المَقْدُورَا أوْ دَائِرَاتِ الدَّهْرِ أنْ تَدُورَا

يعني بدور الدَّهر: هو الدَّائِرة من قَوْم إلى قَوْم.
فصل
المُرَاد بقوله تعالى { ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } هم المُنَافِقُون يعني: عبد الله بن أبَيّ وأصحابه - لعنهم الله - "يُسَارِعُون [فيهم" أي: في] مودَّة اليَهُود ونَصَارى نَجْران؛ لأنَّهم كانوا أهل ثرْوَة، وكانوا يُعِينُونَهُم على مُهِمَّاتِهِم، ويُقْرِضُونَهُم.
ويقول المَنَافِقُون: إنَّما نُخَالِطُهم لأنّا نَخْشَى أن تُصِيبنَا دَائِرَةٌ قال ابن عباس - رضي الله عنهما - والزَّجَّاج: أي: نَخْشَى ألا يَتِمَّ الأمْرُ - لمحمَّد - عليه الصلاة والسلام -، فيدُور الأمْر كما كان قبل ذلك. وقيل: نَخْشَى أن يدُور الدَّهْر علينا بِمَكْرُوه من جَدْب أو قَحْط، فلا يُعْطُون المِيَرة والقَرْض.
قوله: { فَعَسَى اللَّهُ أن يَأتِيَ بِالفتْحِ }، "أن يَأتِي" في محلِّ نَصْبٍ إمَّا [على] الخبر لـ "عسى"، وهو رأي الأخْفَش، وإمَّا على أنَّهُ مَفْعُول به، وهو رأيُ سيبوَيْه لئلاَّ يلزم الإخْبَار عن الجُثَّةِ بالحدَثِ في قولك: "عَسَى زَيْدٌ أن يَقُوم".
وأجاز أبو البقاء أن يكون "أنْ يأتِي" في محلِّ رفعٍ على البَدَلِ من اسْمِ "عسى"، وفيه نظر.
فصل
قال المُفَسِّرُون - رحمهم الله -: عسى من اللَّه واجِب؛ لأنَّ الكَرِيم إذا طَمِعَ في خَيْر فعله، وهو بِمَنْزِلَةِ الوَعْدِ؛ لتعلُّق النَّفْسِ به ورَجَائِها له، قال قتادةُ ومُقَاتِل: فَعَسَى اللَّه أن يَأتِي بالقَضَاء الفَصْل من نَصْر مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وعلى آله وسلَّم - على من خَالَفَهُ.
وقال الكَلْبِي والسُّدِّيُّ: فتح "مَكَّةَ"، وقال الضَّحَّاك: فتح قُرَى اليَهُود مثل خَيْبَر وفدك.
{ أوْ أمْر مِنْ عِنْدِه }.
قال السُّدِّي: هي الجِزْيَة، وقال الحَسَن: إظْهَار أمر المُنَافِقِين والأحبار بأسْمَائهم والأمر بِقَتْلِهِم، وقيل: الخَصْبُ والسَّعَة للمُسْلِمِين، وقيل: إتْمَام أمْر محمَّد - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم -، وقيل: { هذا عذابٌ أليم }.
وقيل: إجْلاء بَنِي النَّضِير، "فَيُصْبِحُوا" أي: هؤلاء المُنَافِقِين { عَلى مَا أَسَرُّوا في أنْفُسِهِم } مِنْ مُوالاة اليَهُود ودسِّ الأخْبَار إليْهم "نَادِمِين" وذلك لأنهم كانوا يشكُّون في أمْرِ رسُول اللَّه - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم -، ويقولون: الظَّاهِر أنَّهم لا يتمُّ لهم أمْر، وأن الدولة والغلبَة تصير لأعْدَائه.
قوله تعالى: "فَيُصْبِحُوا" فيه وجهان:
أظهرهما: أنَّه منصوب عَطْفاً على "يأتي" المَنْصُوب بـ "أنْ"، والذي يُسَوِّغُ ذلك وُجُود "الفَاء" السَّبَبِيَّة، ولولاَهَا لم يَجُزْ ذلك؛ لأن المعطُوف على الخبر خبر، و"أنْ يَأتِي" خبر "عَسَى"، وفيه راجعٌ عائِدٌ على اسْمِهَا.
وقوله: "فَيُصْبِحُوا" ليس فيه ضَمِيرٌ يَعُود على اسْمِهَا، فكان من حَقِّ المسألة الامْتِنَاع، لكن "الفَاء" للسببِيَّة، فجعلت الجُمْلَتَيْن كالجملة الواحِدة، وذلك جَارٍ في الصِّلة نحو: "الذي يطير فيَغْضَبُ زَيْدٌ الذُّبابُ".
والصِّفة نحو: "مررت بِرَجُلٍ يَبْكِي فَيَضْحَكُ عَمْرو"، والخبر نحو: "زيدٌ يبكي فيضحَكُ خالد"، ولو كان العَاطِفُ غير "الفَاء" لم يجُزْ ذلك.
والثاني: أنه منْصُوب بإضْمَار "أنْ" بعد الفَاءِ في جواب التَّمَنِّي قالوا: "لأن "عَسَى" تَمَنٍّ وتَرَجٍّ في حَقّ البَشَر".
{ على ما أسَرُّوا } متعلِّق بـ "نَادِمِين"، و"نَادِمِين" خَبر "أصْبَح".
قوله تعالى: "ويَقُولُ": قرأ أبُو عمرو، والكُوفِيُّون بالواو قَبْلَ "يَقُول" والباقُون بإسْقَاطِها، إلا أنَّ أبا عمرو نَصَب الفِعْلَ بعد "الوَاوِ"، وروى عنه عَلِيُّ بن نَصْر: الرَّفع كالكُوفِيِّين، فتحصَّلَ فيه ثلاث قراءات: "يَقُولُ" من غير واو ["ويقول" بالواوِ والنَّصْب،] "ويقول" بالواو والرَّفع، فأمَّا قِرَاءة من قرأ "يَقُول" من غير واوٍ فهي جُمْلَة مُسْتأنَفَةٌ سِيقَتْ جواباً لِسُؤالٍ مُقَدَّر، كأنه لمَّا تقدَّم قوله تعالى: { فَعَسَى ٱللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِٱلْفَتْحِ } إلى قوله "نَادِمِين"، سأل سَائِلٌ فقال: ماذا قال المُؤمِنُون حِينَئِذٍ؟ فأجيب بِقَوْله تعالى: { وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } إلى آخره، وهو واضح، و"الواو" سَاقِطَةٌ في مصاحِفِ "مَكَّةَ" و"المدينَةِ" و"الشَّام"، والقارئُ بذلك هو صاحِبُ هذه المصاحِف، فإن القَارِئين بذلك ابن كَثِير المَكِّي، وابنُ عَامِر الشَّاميُّ، ونافع المدنِي، فقراءتُهُمْ موافقة لَمصَاحِفِهم [وليس في هذا أنهم إنما قرأوا كذلك لأجل المصحف فقط، بل وافقت روايتهم مصاحفهم] على ما تَبيَّن غير مَرَّة، وأما قِرَاءة "الواو" والرَّفع فواضحةٌ أيْضاً؛ لأنَّها جملة ابْتُدِئَ بالإخْبَارِ بِهَا، فالواو اسْتِئنَافِيَّة لمجرَّدِ عَطْفِ جُمْلة على جُمْلة، و"الواو" ثابِتَةٌ في مصاحِفَ "الكُوفَة" و"المشرق"، والقارىءُ بذلك هو صَاحِبُ ذلك المُصْحف، والكلام كما تقدَّم أيضاً.
قال الواحدي -رحمه الله -: وحَذْف "الواو" هاهنا كإثباتها، وذلك أنَّ في الجُمْلَة المعطُوفَة ذكراً من المَعْطُوف عليْهَا، فإن الموصُوفين بِقَوْله تعالى "يُسَارِعُونَ فِيهِمْ"، هم الَّذِين قال فيهم المُؤمِنُون: { أهولاءِ الَّذِين أقْسَمُوا باللَّه }، فلما حَصَل في كل وَاحِدَة من الجُمْلَتَيْن ذكر من الأخْرَى حسن العَطْفُ بالواوِ وبِغَيْرِ الواو، ونَظِيرُه قوله تعالى:
{ { سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ } [الكهف: 22] لما كان في كلِّ واحدةٍ من الجُمْلَتيْن ذِكْر ما تقدَّم، عنى ذلك أن حَذْفَ الواوِ وذكرهَا جائِزٌ.
وأمَّا قِرَاءة أبي عَمْرو فهي الَّتِي تَحْتَاج إلى فَضْل نظر.
واخْتَلَفُوا في ذلك على ثلاثةِ أوجُه:
أحدُهَا: أنه منصُوب عَطْفاً على "فَيُصْبِحُوا" على أحد الوَجْهَيْن المذكُوريْن في نَصْب "فَيُصْبِحُوا"، وهو الوجهُ الثَّاني، أعْني: كَوْنَهُ مَنْصُوباً بإضْمَار في جواب التَّرَجِّي بعد "الفَاء"، إجراءً للتَّرَجِّي مُجْرَى التَّمَنِّي، وفيه خلافٌ بين البَصْرِيِّين والكوفيِّين، فالبَصريُّون يَمْنَعُونَهُ، والكوفِيُّون يجيزُونَهُ مستدِلِّين على ذلك بقراءة نَافِع { لَعَلَّهُ يَزَّكَّىٰ أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ ٱلذِّكْرَىٰ } [عبس: 3، 4] بِنَصبِ "تَنْفَعَهُ" وبقراءة عَاصِم في رواية حَفْصٍ: { لَّعَـلِّيۤ أَبْلُغُ ٱلأَسْبَابَ أَسْبَابَ ٱلسَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ } [غافر: 36، 37] بنصب "فأطَّلِع"، وسيأتي الجوابُ عن الآيتين في مَوْضِعِه.
وهذا الوجه - أعني: عَطْفَ "ويقُول" على "فَيُصْبِحوا" - قاله الفَارِسيُّ وجماعة، ونقله ابن عطيَّة، وذكره أبو عَمْرو بن الحَاجِب.
قال شهاب الدِّين أبُو شَامة بعد ذِكْرِه الوجهَ المُتقدِّم: "وهذا وجه جَيِّد أفادنيهِ الشَّيْخ أبو عَمْرو بن الحَاجِب، ولم أره لِغَيْره، وذكروا وُجُوهاً كلها بعيدة مُتعسِّفة" انتهى.
قال شهاب الدِّين: وهذا - كما رأيت - مَنْقُول مَشْهُود عن أبي عَلِيّ الفارسيِّ، وأمَّا ما استجاد به هذا الوجْهَ فإنما يتَمشَّى على قَوْل الكُوفيِّين، وهو مرْجوحٌ كا تقرَّر في علم النَّحْو.
الثاني: أنه منصُوب عَطْفاً على المصدر قبْله، وهو الفَتْح كأنَّه قيل: { فَعَسَى اللَّهُ أنْ يَأتي بِالفَتْح }، وبأن يقول، أي: { ويقول الَّذِين آمَنُوا }، وهذا الوجْه ذكره أبُو جعفر النَّحَّاس، ونَظَّرُوه بقوْل الشاعر: [الوافر]

1982- للبْسُ عَبَاءَةٍ وتَقَرَّ عَيْنِي أحَبُّ إليَّ مِنْ لُبْسِ الشُّفُوفِ

وقول الآخر: [الطويل]

1983- لَقَدْ كَانَ في حَوْلٍ ثَوَاءٍ ثَوَيْتُهُ تَقَضِّي لُبانَاتٍ وَيَسْأمَ سَائِمُ

وهذا مردودٌ من ثلاثةِ أوْجُه:
أحدها: أنه يُؤدِّي ذلك إلى الفَصْل بين أبْعَاض الصِّلةِ بأجْنَبِيٍّ، وذلك لأنَّ الفَتْحَ على قول مَؤوَّل بـ "أن" والفعل تقديره: أن يَأتِي بأن يفتح، وبأنْ يقول، فيقعُ الفصلُ بقوله "فَيُصبِحُوا" وهو أجنبي؛ لأنَّه مَعْطُوف على "يأتي".
الثاني: أن هذا المصْدر - وهو الفَتْح - ليس يُرادُ به انحلاله لحرفٍ مصدري وفعل، بل المراد به مَصْدَر غير مُرادٍ به ذلك، نحو: يُعْجِبُنِي ذكاؤك وعِلْمُك.
الثالث: أنه وإن سُلِّمَ انحِلاله لحرف مَصْدري وفعل، فلا يكون المعنى على: "فعسى اللَّه أن يأتي بأنْ يقولَ الذين آمنوا"، فإنه نابٍ عنه نُبُوّاً ظاهراً.
الثالث - من أوجُه نَصْب "ويقول" -: أنه منصوبٌ عَطْفاً على قوله: "يَأتي" أي: فَعَسَى اللَّه أن يَأتِي ويقول، وإلى هذا ذهب الزَّمَخْشَرِي، ولم يَعْتَرِض عليْه بِشَيْء.
وقد رُدَّ ذلك بأنَّهُ يلزَمُ عَطفُ ما لا يجُوزُ أن يكُون خبراً على ما هُوَ خَبَر، وذلك أن قوله: "أن يأتي" خبر "عَسَى" وهو صحيحٌ؛ لأن فيه رابطاً عائِداً على اسم "عَسَى" [وهو ضمير الباري تعالى، وقوله: "ويقول" ليس فيه ضمير يعود على اسم "عسى"] فكيف يَصِحُّ جعلُهُ خبراً؟ وقد اعتذر من أجاز ذَلِك عنه بثلاَثَةِ أوْجُه:
أحدها: أنه من بَابِ العَطْف على المَعْنَى، والمعنى: فَعَسى أنْ يأتي الله بالفَتْح، وبقولِ الذين آمَنُوا، فتكون "عَسَى" تامَّة؛ لإسنادها إلى "أنْ" وما في حَيِّزهَا، فلا تحتاجُ حينئذٍ إلى رابطٍ، وهذا قرِيبٌ من قولهم: "العطْفُ على التَّوهُّم" نحو:
{ { فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ } [المنافقون: 10].
الثاني: أنَّ "أنْ يَأتِيَ" بَدَلٌ من اسْمِ الله - تعالى - لا خبر، وتكون "عَسَى" حينئذٍ تامَّة، وكأنه قِيل: فعسَى أن يَقُول الذين آمَنُوا، وهذان الوَجْهَان مَنقُولان عن أبِي عَلِيٍّ الفارسيّ، إلا أنَّ الثَّاني لا يَصحُّ؛ لأنهم نَصُّوا على أن "عَسَى" و"اخْلَوْلَق" و"أوْشَكَ" من بين سَائِر أخَوَاتِهَا يجُوزُ أن تَكُون تامّةً، بشرط أن يكُون مَرْفُوعُها: "أنْ يَفعل"، قالوا: ليُوجَدَ في الصُّورة مُسْندٌ ومُسْنَدٌ إليه، كما قالوا ذَلِكَ في "ظَنّ" وأخواتها: إنَّ "أنْ" و"أنَّ" تسدُّ مَسدَّ مَفْعُوليها.
والثالث: أن ثَمَّ ضميراً مَحْذُوفاً هو مُصَحِّحٌ لوُقُوع "وَيَقُول" خبراً عن "عَسَى"، والتقدير: ويقول الذين آمَنُوا به، أي: بِاللَّه، ثم حذف للعلْم به، ذكر ذلك أبو البقاء.
وقال ابن عطيَّة بعد حكايته نَصْبَ "ويقُولَ" عَطْفاً على "يَأتيَ": "وعندي في مَنْع "عسى الله أنْ يقُول المُؤمِنُون" نظرٌ؛ إذ اللَّه - تعالى - يُصَيِّرهم يقولون ذلك بِنَصْرهِ وإظْهَارِ دينه".
قال شهاب الدِّين: قول ابن عطيَّة في ذلك، قول أبِي البَقَاء في كونه قدَّره ضَمِيراً عائداً على اسم "عَسَى" يَصِحُّ به الرَّبط، ويعضُ النَّاس يكثرُ هذه الأوْجُه، ويُوصِلُهَا إلى سَبْعَة وأكثر، وذلك باعْتِبَار تَصْحيح كُلِّ وَجْه من الأوَّجُه الثلاثة التي تقدَّمت، ولكن لا يَخْرج حاصلها عن ثلاثة، وهو النَّصْب: إما عطفاً على "أنْ يَأتِي"، وإما على "فَيُصْبِحُوا"، وإمَّا على "بالفَتْح" وقد تقدم تَحقِيقُهَا.
قوله - تعالى -: { جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ } في انتصَابِه وجهان:
أظهرهما: أنَّه مصدر مؤكدٌ ناصبُهُ "أقْسَمُوا" فهو مِنْ مَعْناه، والمعنى: أقْسَمُوا إقسامَ اجتهادٍ في اليَمِين.
والثاني: - أجازه أبو البقاء وغيره - أنه منصُوب على الحَالِ كَقَوْلهم: "افعل ذلك جَهْدَك" أي: مُجْتَهِداً، ولا يُبَالي بِتَعْرِيفه لَفْظاً، فإنه مُؤوَّل بِنَكِرة على ما تقدَّم ذكره، والمعنى هُنَا: "وأقسموا بالله مجتهدين في أيمانهم".
قوله تعالى: "إنَّهُم لمَعَكُمْ" هذه الجُمْلَة لا مَحَلَّ لها من الإعراب، فإنها تَفْسِيرٌ وحكاية لِمَعْنَى القَسَم لا لألْفَاظِهِم؛ إذ لو كانَت حِكَاية لألْفَاظِهِم لَقِيلَ: إنَّا مَعَكُم، وفيه نَظَرٌ؛ إذ يجُوز لك أن تقول: "حَلَفَ زيد لأفْعَلَن" أو "ليفْعَلَنَّ"، فكما جَازَ أنْ تقول: ليفعلن جاز أن يقال: "إنَّهُمْ لَمَعكُم" على الحِكَاية.
فإن قيل: الفائدة في أنَّ المؤمنين يقولون هذا القول: هو أنَّهم يتعجَّبُون من حال المُنَافِقِين، عندما أظهروا المَيْل إلى مُوالاة اليَهُود والنَّصَارى، وقالوا: إنَّهم كانوا يُقسِمُون باللَّه جَهْدَ أيْمانهم أنَّهُم مَعَنَا ومن أنْصَارنا، والآن كيف صاروا مُوالِين لأعْدَائِنَا مُحِبِّين للاختلاط بهم والاعتضاد بهم؟
قوله تعالى: { حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ } فيها أوجه:
أحدها: أنَّها جملة مُسْتَأنَفَة، والمقصُود بِهَا الإخْبَار من البَارِي - تعالى - بذلك.
الثاني: أنها دُعَاءٌ عليهم بذلك، وهو قولُ الله - تعالى - نحو:
{ { قُتِلَ ٱلإِنسَانُ مَآ أَكْفَرَهُ } [عبس: 17].
الثالث: أنها في محلِّ نَصْبٍ؛ لأنَّها من جملة قوْلِ المُؤمنين، ويحتمل معنييْن كالمَعْنَيَيْن في الاسْتِئْنَاف، أعني: كونَهُ إخْبَاراً أو دُعَاءً.
الرابع: أنَّها في محلِّ رفع على أنَّها خبر المُبْتدأ، وهو "هؤلاء"، وعلى هذا فيحتمل قوله "الَّذين أقْسَمُوا" وَجْهَيْن:
أحدهما: أنَّه صفة لاسْم الإشارة، والخبر: "حَبِطَتْ أعْمَالُهُمْ".
والثاني: أن "الَّذِين" خَبَر أوَّل، و"حَبِطَتْ" خبر ثانٍ عند من يُجِيزُ ذلك، وجعل الزمخْشَرِيّ "حَبِطَت أعمَالهم" مفهمة للتَّعجُّب.
قال: وفيه معنى التَّعجُّب كأنَّه قيل: "ما أحَبَطَ أعْمَالَهُم ما أخْسَرَهُمْ"، وأجاز مع كونه تعجُّباً أن يكون من قولِ المؤمنين، فيكون في محلِّ نَصْب، وأن يكون من قَوْلِ الباري - تعالى - لكنَّه أوَّل التَّعَجُّبَ في حقِّ الله - تعالى - بأنه تَعْجِيبٌ، قال: "أوْ مِنْ قول الله - عز وجلَّ - شهادة لهم بِحُبُوطِ الأعْمَال، وتعْجِيباً من سُوءِ حالِهِمْ" والمعنى: ذهب ما أظْهَرُوه من الإيمان، وبطل كُلُّ خَيْرٍ عَمِلُوه؛ لأجل أنَّهم الآن أظْهرَوا مُوالاة اليَهُود والنَّصَارى فأصْبَحوا خَاسِرِين في الدُّنْيَا والآخرة، [أمَّا في الدُّنْيا فلذهَاب ما عَمِلُوا ولم يَحْصُل لهم شيء من ثَمَرتِهِ، وأمَّا في الآخرة] فلاسْتِحْقَاقِهم اللَّعْن والعذاب الدائم، وقرأ أبُو واقد والجرَّاح "حَبَطت" بفتح "الباء"، وهما لُغَتَان، وقد تقدَّم ذلك.
وقوله تعالى: "فأصْبَحُوا" وجه التسبب في هذه الفاء ظاهر.