التفاسير

< >
عرض

وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْكِتَٰبِ ءَامَنُواْ وَٱتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأَدْخَلْنَٰهُمْ جَنَّٰتِ ٱلنَّعِيمِ
٦٥
وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَآءَ مَا يَعْمَلُونَ
٦٦
-المائدة

اللباب في علوم الكتاب

وقد تقدَّم الكلام على نَظِير قوله: "وَلَوْ أنَّ".
واعلم أنَّهُ تعالى لما بالغَ في ذَمِّهِمْ وتهجين طريقهِم، بيَّن أنهم لو آمَنُوا بِمُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - واتقَوْا لكفَّرنَّا عنهم سَيِّئَاتِهِمْ، ولأدْخلْنَاهُمْ جَنَاتِ النَّعِيم.
فإن قيل: الإيمانُ وحدهُ سبب مسْتَقِلٌّ [باقتضاء تكفير] السَّيِّئَاتِ، وإعْطَاء الحَسَناتِ، فلم ضمَّ إلَيْه شَرْطٌ آخر وهُو التَّقْوَى.
فالجوابُ: أنَّ المُراد كَوْنه آتياً الإيمان لِغَرَض التَّقْوى، والطَّاعة لا لغرضٍ آخر من الأغْرَاض العَاجِلَة كما يفعله المُنَافِقُون.
قوله تعالى: { وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنجِيلَ } الآية لما بيَّن تعالى في الآية الأولى أنَّهُم لو آمَنُوا لفَازُوا بسَعَادة الآخِرة، بيَّن في هذه الآية أيْضاً، أنَّهُمْ لو آمَنُوا لفَازُوا بسَعَادةِ الدُّنْيَا ووجدُوا طَيِّبَاتِهَا وخَيْرَاتِها، وفي إقَامَةِ التَّوْرَاةِ والإنْجِيل ثلاثةُ أوْجُه:
أحدها: أن يعملوا بما فيهما من الوَفَاءِ بالعُهُودِ، ومن الإقْرَار باشْتِمَالهما على الدَّلائل الدَّالَّة على بَعْثَةِ محمَّدٍ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم -.
وثانيها: أنَّ المراد إقامَةُ أحْكَامِهِمَا وحُدُودِهمَا، كما يُقَال: أقامَ الصَّلاة إذا قام بِحُدُودِهَا وحُقوقِهَا، ولا يُقَال لمن لم يُوَفِّ بشَرَائِطها أنَّهُ أقَامها.
وثالثها: [أنَّ المراد] جعلوهما نصْبَ أعيُنِهِم، لئلاَّ يَزِلُّوا في شَيْء من حدُودِهِمَا.
وقوله تعالى: { وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ } يعني: القُرْآن وقيل: كتب أنبياء بني إسرائيلَ مثل كُتُبِ شُعَيْبٍ، وكتاب حَيقُوق، وكتاب دَانْيَال، فإنَّ هذه الكتب مملوءة من البشَارَة بِمَبْعَثِ محمَّدٍ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم -.
قوله تعالى: { لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ }: مفعولُ الأكْلِ هنا محذوفٌ اقتصاراً، أيْ: لوُجِدَ منهم هذا الفعلُ، و"منْ فوقِهِمْ" متعلِّقٌ به، أي: لأكَلُوا من الجهَتَيْنِ، وقال أبو البقاء: "إنَّ "مِنْ فوْقِهِمْ" صفةٌ لمفعول محذوفٍ، أي: لأكَلُوا رِزْقاً كَائِناً مِنْ فَوْقِهِمْ".
فصل
اعلم أنَّ اليهود لما أصَرُّوا على تَكْذِيب سيِّدنا محمَّدٍ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - أصابَهُمُ القَحْطُ والشِّدَّةُ، وبلغُوا إلى حيث قالوا: { يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ }، فبيَّن اللَّه لَهُمْ أنَّهُم لو تركوا ذَلِك الكُفْر لانْقَلَب [الأمر] وحصل الخَصْبُ والسَّعَة.
قوله تعالى: { لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم }.
قيل: المراد منه المُبالغُة في شرْحِ السَّعَةِ والخَصْب، والمعنى: لأكلوا أكلاً مُتَّصِلاً كثيراً، كما يُقال: "فلان في الخَيْرِ مِنْ فَوْقِهِ إلى قَدَمِهِ" يريدُ كَثْرَةَ الْخَيْرِ عنده؛ قالَهُ الفَرَّاءُ.
وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: المراد { مِنْ فَوْقِهِمْ } نُزُول المَطَرِ، و{ وَمِنْ تَحتِ أرْجُلِهِمْ } خرُوج النَّبَات كقوله تعالى:
{ { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْقُرَىٰ آمَنُواْ وَٱتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ } [الأعراف: 96]، وقيل: الأكل من فَوْقٍ كَثْرَة الأشْجَار المُثْمِرة، ومن تَحْتِ الأرْجُل الزُّروع المغلة، وقيل: يَرْزُقُهم الله تعالى الجِنَانَ البَالِغَةَ الثِّمَار ما يَنْزِلُ مِنْهَا من رُؤوس الشَّجر، ويلتقطون ما تساقَطَ على الأرض مِنْ تَحْت أرجلهم، وهذا إشارة إلى ما جَرَى على اليَهُود من بَني قُرَيْظَة وبني النَّضِير، من قطع نَخِيلهِمِ، وإفساد زُرُوعهم وقوله تعالى: "مِنْهُمْ" خبر مقدَّم، و"أمَّةٌ" مبتدأ، و "مُقْتَصِدَةٌ" صفتُها، وعلى رأي الأخفشِ يجوز أن تكون "أمَّة" فاعلاً بالجار، وقوله: { مِنْهُمْ أمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ } تنويعٌ في التفصيل، فأخبر في الجملة الأولى، بالجارِّ والمجرور، ووصف المبتدأ بالاقتصادِ، ووصف المبتدأ في الجملة الثانية بـ "مِنْهُمْ"، وأخبر عنه بجملة قوله: "سَاءَ ما يَعْمَلُون"، وذلك لأنَّ الطائفة الأولى ممدوحةٌ، فوُصفوا بالاقتصاد، وأخبر عنهم بأنَّهم من جملة أهل الكتاب؛ فإنَّ الوصف ألزمُ من الخبر؛ فإنهم إذا أسلموا، زالَ عنهم هذا الاسمُ، وأما الطائفة الثانية، فإنهم وصفوا بكونهم من أهْلِ الكتاب؛ فإنَّ الوصفَ ألزمُ، وهم كفَّار فهم منهم، وأخبر عنهم بالجملة الذَّمِّيَّة، فإنَّ الخبر ليس بلازمٍ، وقد يُسْلِمُ منهم ناسٌ، فيزول عنهم الإخبارُ بذلك.
فصل
المُراد بالأمَّة المُقْتَصِدَة: مؤمِنُو أهْلِ الكِتَاب، كعَبْدِ اللَّهِ بنْ سلام من اليَهُود والنَّجَاشِيِّ من النَّصَارى، "مُقْتَصِدَة" أي: عادِلَةٌ غير غَالِية ولا مقصِّرة، والاقتصادُ في اللُّغَة: الاعتِدَال في العمل من غير غُلُوِّ ولا تَقْصِير.
وقيل: المُرَاد بالأمَّةِ المقْتَصِدَةِ: كُفَّارُ أهل الكتاب الذين يكنون عُدُولاً في دينهِم، ولا يكون فيهم عِنَادٌ شديدٌ ولا غِلْظَةٌ، كما قال تعالى:
{ { وَمِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ } [آل عمران: 75].
قوله تعالى: { وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَآءَ مَا يَعْمَلُونَ }، وفيه معنى التعجُّبِ، كأنَّه قيل [كثير] منهم ما أسْوَأ عَمَلَهم.
والمراد بهم: الأجْلاف المُبْغِضُون، مثل كَعْبِ بن الأشْرفِ وأصحابه و"سَاءَ" هذه يجوزُ فيها ثلاثةُ أوجه:
أحدها: أن تكون تعجباً؛ كأنه قيل: ما أسوأ عملهُمْ، ولم يذكُرِ الزمخشريُّ غيره، ولكن النحاة لمَّا ذكروا صيغَ التعجُّبِ لم يَعُدُّوا فيها "سَاءَ"، فإن أراد من جهةِ المعنى، لا من جهة التعجُّب المبوبِ له في النحوِ فقريبٌ.
الثاني: أنها بمعنى "بِئْسَ" فتدلُّ على الذَّمِّ؛ كقوله تعالى:
{ { سَآءَ مَثَلاً ٱلْقَوْمُ } [الأعراف: 177].
وقال البَغَوِي: بئس ما يَعْمَلُون، بِئْس شَيْئاً عملهم.
قال ابن عبَّاس - رضي الله عنهما -: عملوا بالقَبِيحِ مع التَّكْذِيب بالنَّبِيِّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم -.
وعلى هذين القولين فـ "سَاء" غيرُ متصرِّفة، لأن التعجُّب وباب المدح والذمِّ لا تتصرَّفُ أفعالُهما.
الثالث: أن تكون "سَاء" المتصرِّفة؛ نحو: سَاءَ يَسُوءُ، ومنه:
{ { لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ } [الإسراء: 7] { { سِيئَتْ وُجُوهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } [تبارك: 27]، والمتصرِّفةُ متعديةٌ؛ قال تعالى: { { لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ } [الإسراء: 7] فإن قيل فأيْنَ مفعولُ هذه؟ قيل: هو محذوفٌ، تقديرُه: ساء عَملُهُم المؤمنين، والَّتِي بمعنى "بِئْسَ" لا بدَّ لها من مميِّز، وهو هنا محذوفٌ، تقديره: سَاءَ عَمَلاً الذي كَانُوا يَعْمَلُونَهُ.