التفاسير

< >
عرض

وَحَسِبُوۤاْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ثُمَّ تَابَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ
٧١
-المائدة

اللباب في علوم الكتاب

قرأ حمزةُ والكسائيُّ وأبو عمرو "تَكونُ" برفع النون، والباقون بنصبها، فمنْ رفع فـ "أنْ" عنده مخفَّفةٌ من الثقيلة، واسمها ضميرُ الأمرِ والشأنِ محذوفٌ، تقديرُه، أنهُ، و"لاَ" نافية، و"تَكُونُ" تامة، و"فِتْنَةٌ" فاعلها، والجملةُ خبر "أن"، وهي مفسِّرةٌ لضميرِ الأمرِ والشأن، وعلى هذا، فـ "حَسِبَ" هنا لليقين، لا للشكِّ؛ ومن مجيئها لليقين قولُ الشاعر: [الطويل]

2020- حَسِبْتُ التُّقَى والْجُودَ خَيْرَ تِجَارةٍ رَبَاحاً إذَا مَا المَرْءُ أصْبَحَ ثَاقِلا

أي: تيقَّنْتُ؛ لأنه لا يليقُ الشكُّ بذلك، وإنما اضْطُرِرْنَا إلى جعلها في الآية الكريمة بمعنى اليقين؛ لأنَّ "أن" المخففةَ لا تقع إلا بعد يقينٍ، فأمَّا قوله: [البسيط]

2021- أرْجُو وَآمُلُ أنْ تَدْنُوْ مَوَدَّتُهَا وَمَا إخَالُ لَدَيْنَا مِنْكَ تَنْوِيلُ

فظاهرُه: أنها مخفَّفةٌ؛ لعدم إعمالها، وقد وقعت بعد "أرْجُو" و"آمُلُ" وليسا بيقينٍ، والجوابُ من وجهين:
أحدهما: أنَّ "أنْ" ناصبةٌ، وإنما أُهْمِلَتْ؛ حَمْلاً على "مَا" المصدريَّة؛ ويَدُلُّ على ذلك أنها لو كانت مخفَّفةً، لفُصِلَ بينها وبين الجملة الفعليةِ بما سنذكره، ويكون هذا مثل قولِ الله تعالى:
{ { لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ ٱلرَّضَاعَةَ } [البقرة: 233]؛ وكقوله: [البسيط]

2022- يَا صَاحِبَيَّ فَدَتْ نَفْسِي نُفُوسَكُمَا وَحَيْثُمَا كُنْتُمَا لُقِّيتُمَا رَشَدَا
أنْ تَحْمِلا حَاجَةً لِي خَفَّ مَحْمَلُهَا تَستْوَجِبَا نِعْمَةً عِنْدِي بِهَا وَيَدَا
أنْ تَقْرَآنِ عَلَى أسْمَاءَ وَيْحَكُمَا مِنِّي السَّلامَ وألاَّ تُشْعِرا أحَدَا

فقوله: "أنْ تَقْرآنِ" بدلٌ من "حَاجَة"، وقد أهْمَلَ "أنْ"؛ ومثلُه قوله: [مجزوء الكامل]

2023- إنِّي زَعِيمٌ يَا نُوَيْـ ـقَةُ إنْ نَجَوْتِ مِنَ الرَّزَاحِ
وَنَجَوْتِ مِنْ وَصَبِ الْعَدْوْ وِ مِنَ الغُدُو إلى الرَّوَاح
أنْ تَهْبِطِينَ بِلاَدَ قوْ مٍ يَرْتَعُونَ مِنَ الطِّلاحِ

وكيفما قُدِّر فيما ذكرته من الأبيات، يلزم أحد شذوذَيْنِ قد قيل باحتمال كلٍّ منهما: إمَّا إهمالُ "أنْ"، وإمَّا وقوعُ المخفَّفة بعد غير علمٍ، وعدمُ الفصل بينها، وبين الجملة الفعليَّة.
والثاني من وجهي الجواب: أنَّ رجاءَهُ وأملَهُ قويَا حتَّى قربا من اليقينِ، فأجراهما مُجْراهُ في ذلك.
وأما قول الشاعر: [الخفيف]

2024- عَلِمُوا أنْ يُؤمَّلُونَ فَجَادُوا قَبْلَ أنْ يُسْألُوا بأعْظَمِ سُؤلِ

فالظاهرُ أنها المخفَّفة، وشَذَّ عدمُ الفصْلِ، ويحتملُ أن تكون الناصبة شذَّ وقوعُها بعد العلْمِ، وشذَّ إهمالُها، ففي الأوَّلِ شذوذٌ واحدٌ، وهو عدم الفصلِ، وفي الثاني شذوذَانِ: وقوعُ الناصبةِ بعد العلمِ، وإهمالُها حَمْلاً على "مَا" أختِها.
وجاءَ هنا على الواجب - عند بعضهم - أو الأحسنِ - عند آخرين - وهو الفصلُ بين "أن" الخفيفةِ وبين خبرها، إذا كان جملة فعليةً متصرفةً غير دعاءٍ، والفاصلُ: إمَّا نفي كهذه الآية، وإمَّا حرفُ تنفيس؛ كقوله تعالى:
{ { عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَىٰ } [المزمل: 20]، ومثله: "عَلِمْتُ أنْ سوْفَ تقُومُ"، وإمَّا "قَدْ"؛ كقوله تعالى: { { وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا } [المائدة: 113]، وإمَّا "لَوْ" - وهي غريبةٌ -؛ كقوله: { { وَأَلَّوِ ٱسْتَقَامُواْ } [الجن: 16] { { أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ٱلْغَيْبَ } [سبأ: 14]. وتحرَّزْتُ بالفعلية من الاسمية؛ فإنها لا تحتاج إلى فاصل؛ كقوله تعالى: { { وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [يونس: 10]، وكقوله: [البسيط]

2025- فِي فِتْيَةٍ كَسُيُوفِ الهِنْد قَدْ عَلِمُوا أنْ هَالِكٌ كُلُّ مَنْ يَحْفَى ويَنْتَعِلُ

وبالمتصرِّفةِ من غيرِ المتصرِّفة؛ فإنه لا تحتاج إلى فاصلٍ؛ كقوله تعالى: { { وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَىٰ } [النجم: 39] { { وَأَنْ عَسَىۤ أَن يَكُونَ } [الأعراف: 185]، وبغير دعاءٍ من الواقعةِ دعاءً؛ كقوله تعالى:"أنْ غَضِبَ اللَّهِ" [النور: 9] في قراءة نافعٍ.
ومَنْ نصب "تَكُونَ" فـ "أنْ" عنده هي الناصبة للمضارعِ، دخلت على فعلٍ منفيٍّ بـ "لاَ"، و"لاَ" لا يمنعُ أن يعملَ ما قبلها فيما بعدها من ناصبٍ، ولا جازم، ولا جارٍّ، فالناصبُ كهذه الآية؛ والجازم كقوله تعالى:
{ { إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ } [الأنفال: 73] { { إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ ٱللَّهُ } [التوبة: 40]، والجارُّ نحو: "جِئْتُ بِلا زادٍ".
و"حَسِبَ" هنا على بابها من الظَّنِّ، فالناصبة لا تقعُ بعد علْم، كما أنَّ المخففة لا تقع بعده غيرِه، وقد شَذَّ وقوعُ الناصبةِ بعد يَقِينٍ، وهو نصٌّ فيه كقوله: [البسيط]

2026- نَرْضَى عَنِ النَّاسِ إنَّ النَّاسَ قَدْ عَلِمُوا ألاَّ يُدانِيَنَا مِنْ خَلْقِهِ بَشَرُ

وليس لقائلٍ أن يقول: العلمُ هنا بمعنى الظَّنِّ؛ إذ لا ضرورة تدعو إليه، والأكثرُ بعد أفعالِ الشكِّ النصبُ بـ "أنْ"، ولذلك أُجْمِع على النصْب في قوله تعالى: { { أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتْرَكُوۤاْ } [العنكبوت: 2]، وأمَّا قوله تعالى: { { أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ } [طه: 89] فالجمهورُ على الرفع؛ لأن الرؤية تقعُ على العلْمِ.
والحاصل أنه متى وقَعَتْ بعد علْمٍ، وجبَ أن تكونَ المخفَّفةَ، وإذا وقعت بعد ما ليس بعلمٍ ولا شكٍّ، وجَبَ أن تكونَ الناصبةَ، وإن وقعت بعد فعْلٍ يحتملُ اليقينَ والشك جاز فيها وجهان باعتباريْنِ: إنْ جعلناه يقيناً، جعلناها المخففةَ ورفعنا ما بعدها، وإن جعلناه شكّاً جعلناها الناصبةَ ونصبْنَا ما بعدها، والآيةُ الكريمةُ من هذا الباب، وكذلك قوله تعالى:
{ { أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ } [طه: 89] وقوله: { { أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتْرَكُوۤاْ } [العنكبوت: 2] لكن لم يُقرأ في الأولى إلا بالرفعِ، ولا في الثانية إلا بالنصْب، لأن القراءة سنةٌ متبعة، وهذا تحريرُ العبارة فيها، وإنما قلنا ذلك؛ لأن بعضهم يقول: يجوزُ فيها بعد أفعال الشكِّ وجهان، فيوهمُ هذا أنه يجوزُ فيها أن تكونَ المخفَّفةَ، والفعلُ قبلها باقٍ على معناه من الشكِّ، لكن يريد ما ذكرتُه لك من الصلاحيةِ اللفظيةِ بالاعتبارين المتقدمَيْن، ولهذا قال الزمخشريُّ: "فإنْ قلْتَ: كيف دخَلَ فعلُ الحُسْبَانِ على "أن" التي هي للتحْقِيق؟ قلْتُ: نَزَّل حسبانَهم؛ لقوَّته في صدورِهِمْ منزلةَ العلْمِ" والسببُ المقتضي لوقوعِ المخفَّفةِ بعد اليقين، والناصبةِ بعد غيره، وجواز الوجهَيْن فيما تردَّد بين الشَّكِّ واليقينِ: ما ذكروه، وهو "أن" المخفَّفة تَدُلُّ على ثباتِ الأمر واستقراره؛ لأنها للتوكيدِ كالمشدَّدة، والعلمُ وبابُه كذلك، فنَاسَبَ أنْ تُوقِعَها بعد اليقين للملاءمةِ بينهما، ويدلُّ على ذلك وقوعُها مشدَّدةً بعد اليقين؛ كقوله تعالى: { { وَيَعْلَمُونَ أَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْحَقُّ ٱلْمُبِينُ } [النور: 25] { { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [البقرة: 106] { { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } [البقرة: 107] إلى غير ذلك، والنوعُ الذي لا يدلُّ على ثبات واستقرارٍ تقع بعده الناصبة؛ كقوله تعالى: { { وَٱلَّذِيۤ أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي } [الشعراء: 82] { { نَخْشَىٰ أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ } [المائدة: 52] { { فَخَشِينَآ أَن يُرْهِقَهُمَا } [الكهف: 80] { { ءَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ } [المجادلة: 13] إلى غير ذلك، والنوعُ المحتملُ للأمرين تقع بعده تارة المخففةُ، وتارةً الناصبةُ؛ كما تقدَّم من الاعتبارَيْنِ، وعلى كلا التقديرين، أعني: كونها المخففةَ أو الناصبةَ، فهي سادَّةٌ مسدَّ المفعوليْنِ عند جمهورِ البصْريين، ومسدَّ الأولِ، والثاني محذوفٌ عند أبي الحسن، أي: حَسِبُوا عدمَ الفتنةِ كائناً أو حاصلاً، وحكَى بعض النحويِّين أنه ينبغي لِمَنْ رفع أن يَفْصِلَ "أنْ" من "لاَ" في الكتابة؛ لأنَّ الهاء المضْمَرة حائلةٌ في المعنى، ومن نصب، لم يَفْصِلْ لعدمِ الحائل بينهما، قال أبو عبد الله: "هذا ربَّما ساغَ في غير المُصْحفِ، أمَّا المُصْحَفُ، فلَم يُرْسَمْ إلا على الاتِّصَال". انتهى، وفي هذه العبارة تجوُّزٌ؛ إذ لفظُ الاتصالِ يُشْعِرُ بأنْ تُكْتَبَ "أنلا" فتوصل "أنْ" بـ "لاَ" في الخطِّ، فينبغي أن يقال: لا تُثْبَتُ لها صورةٌ، أو تُثْبتُ لها صورةٌ منفصلة.
فصل
اختَلَفُوا في الفِتْنَةِ فقِيلَ: هِيَ العَذَابُ أي: وظنُّوا ألا يكون عذابٌ، وقيل: هي الابْتِلاءُ والاخْتِبَارُ بالقَحْطِ، والوَبَاء، والقَتْلِ والعَدَاوَةِ، والبَغْضَاءِ فيما بَيْنَهُم، وكُلُّ ذلك قد وقعَ بِهِم، وكُلُّ واحدٍ من المُفَسِّرين حَمَل الفِتْنَةَ على واحدٍ من هذِهِ الوُجُوه.
واعلم أنَّ حُسْبَانَهُمْ ألاَّ تقع فِتْنَةٌ يحتمل وجهين:
إمَّا أنهم كانوا يَعْتقدُون أنَّ الواجِبَ عليْهِم في كل رَسُول جَاءَ بِشَرْعٍ آخَر؛ أنَّه يجب عَلَيْهِم قَتْلُه وتَكْذِيبُه.
وإمَّا أنهم وإن اعْتَقَدُوا في أنْفُسِهِم كَوْنهم مُخْطِئِين في ذلك التَّكْذِيب والقَتْلِ، إلاَّ أنَّهُم كانوا يَقُولُون:
{ { نَحْنُ أَبْنَاءُ ٱللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ } [المائدة: 18] وكانوا يعتقدون أنَّ نُبُوَّةَ أسْلاَفهم وآبَائِهم تَدْفَعُ عَنْهُم العذاب الذي يَسْتَحِقُّونَهُ بِسَببِ ذلِكَ القَتْلِ والتَّكْذِيب.
قوله تعالى: { ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ } أي: فَعَمُوا عن الحقِّ فلم يُبْصِرُوا "وصَمُّوا" بعد مُوسَى { ثُمَّ تاب اللَّه عَلَيْهِم } ببعْثَ عيسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - وقيل: عَمُوا وَصمُّوا في زَمَان زَكريَّا، ويحيى، وعيسى - عليهم الصلاة والسلام -، ثم تاب اللَّهُ على بعضهم، حيْثُ آمَنَ بعضُهُم به ثمَّ عمُوا وصمُّوا كثيرٌ منهم في زَمَانِ مُحَمَّدٍ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم -، بأنْ أنْكَرُوا نُبُوَّتَه ورِسَالَتَهُ، وإنَّما قال "كثيرٌ مِنْهُم"؛ لأنَّ أكثرَ اليهُود وإنْ أصَرُّوا على الكفر بمُحَمَّدٍ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم -، إلاَّ أنَّ جَمْعاً آمَنُوا به كَعَبْدِ اللَّه بن سلام وأصحَابِه.
وقيل: عَمُوا حين عَبَدُوا الْعِجْلَ، ثمَّ تَابُوا عَنْهُ فَتَابَ اللَّهُ عَلَيْهِم، ثمَّ عَمُوا وصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُم بالتعَنُّتِ، وهو طَلَبُهُم رُؤيَةَ اللَّهِ جَهْرَةً، ونُزُولَ الملائِكة.
وقال القَفَّال: ذَكَرَ اللَّهُ تعالى في سُورةِ بَنِي إسْرائيل ما يجُوزُ أنْ يكُونَ تَفْسيراً لِهَذِه الآية، فقالَ تعالى:
{ { وَقَضَيْنَآ إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي ٱلْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي ٱلأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ ٱلدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ ٱلْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً } [الإسراء: 4، 5، 6]، فهذا في معنى "فَعَمُوا وصمَّوا" ثم قال تعالى { { فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ ٱلأَخِرَةِ لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ ٱلْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً } [الإسراء: 7] فهذا في معنى قوله "فَعَمُوا وصَمُّوا".
قوله تعالى: { ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ } في هذا التركيب خمسة أوجه:
أحدها: أنَّ الواوَ علامةُ جمع الفاعلِ، كما يَلْحق الفعل تاءُ التأنيث؛ ليدلَّ على تأنيثِ الفاعل، كـ"قَامَتْ هِنْدٌ"، وهذه اللغة جاريةٌ في المثنى وجمع الإناث أيضاً، فيقال: "قَامَا أخَواكَ، وقُمْنَ أخَوَاتُكَ"؛ كقوله: [الطويل]

2027-................... وَقَدْ أسْلَمَاهُ مُبْعَدٌ وحَمِيمُ

وقوله: [الطويل]

2028- ولَكِنْ دِيَافِيٌّ أبُوهُ وأمُّهُ بِحَوْرَانَ يَعْصِرْنَ السَّليطَ أقَارِبُهْ

واستدلَّ بعضُهم بقوله - عليه السلام -: "يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ ملائِكَةٌ" ، ويعبِّر النحاة عن هذه اللغةِ بلغةِ "أكَلُونِي البَرَاغِيثُ"، ولكنَّ الأفصحَ ألاَّ تلحقَ الفعلَ علامةٌ، وفرَّق النحويُّون بين لحاقِهِ علامةَ التأنيث، وعلامةَ التثنية والجمع؛ بأنَّ علامةَ التأنيث ألزمُ؛ لأن التأنيث في ذاتِ الفاعلِ بخلافِ التثنيةِ والجمعِ؛ فإنه غيرُ لازمٍ.
الوجه الثاني: أنَّ الواوَ ضميرٌ عائدٌ على المذكورينَ العائد عليهم واو "حَسِبُوا"، و"كَثِيرٌ" بدلٌ من هذا الضمير، كقولك: "إخْوَتُكَ قَامُوا كَبِيرُهُمْ وصَغِيرُهُمْ" ونحوه. والإبْدَال كَثيرٌ في القُرْآنِ قال تعالى:
{ { ٱلَّذِيۤ أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ } [السجدة: 7].
وقال تعالى:
{ { وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ مَنِ ٱسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } [آل عمران: 97].
الوجه الثالث: أن الواو ضمير أيضاً، و"كَثِيرٌ" بدلٌ منه، والفرقُ بين هذا الوجه والذي قبله: أن الضمير في الوجْهِ الأوَّلِ مفسَّرٌ بما قبلَه وهم بنو إسْرائِيلَ، وأمَّا في هذا الوجه، فهو مفسَّرٌ بما بعده، وهذا أحدُ المواضع التي يُفَسَّر فيها الضميرُ بما بعده، وهو أن يُبْدَلَ منه ما يفسرهُ، وهي مسألةُ خلافٍ، وقد تقدَّم تحريرها.
الوجه الرابع: أن الضمير عائدٌ على مَنْ تقدَّم، و"كَثِيرٌ" خبر مبتدأ محذوف، وقدَّره مكي تقديرين: أحدهما: قال: "تقديرُه العُمْيُ والصُّمُّ كثيرٌ منهم"، والثاني: العَمَى والصَّمَمُ كثيرٌ منهم؛ ودلَّ على ذلك قوله: { ثُمَّ عَمُوا وصمُّوا }، فعلى تقديره الأوَّل: يكون "كَثِيرٌ" صادقاً عليهم و"مِنْهُمْ" صفة لـ "كَثِير"؛ وعلى التقدير الثاني: يكون "كَثِيرٌ" صادقاً على العَمَى والصَّمَمِ لا عليهِمْ، و"مِنْهُمْ" صفةٌ له بمعنى أنه صادرٌ منهم، وهذا الثاني غيرُ ظاهرٍ، وقدَّره الزمخشريُّ فقال: "أولَئِكَ كَثِيرٌ منهم".
الوجه الخامس: أنَّ "كَثيرٌ" مبتدأ والجملةُ الفعليَّة قبله خبرٌ، ولا يُقالُ: إنَّ الفعلَ متى وقع خبراً، وجبَ تأخيرُه؛ لأنَّ ذلك مشروطٌ بكونِ الفاعل مستتراً؛ نحو: "زَيْدٌ قَامَ"؛ لأنه لو قُدِّم، فقيل: "قَامَ زَيْدٌ"، لألبس بالفاعل، فإن قيلَ: وهذا أيضاً يُلْبِس بالفاعلِ في لغة "أكَلُونِي البَراغيثُ"، فالجواب: أنها لغةٌ ضعيفةٌ لا نبالي بها، وضعَّفَ أبو البقاء هذا الوجه بمعنًى آخَرَ، فقال: "لأنَّ الفعل قد وقَعَ في موضِعِه، فلا يُنْوَى به غيرُه"، وفيه نظرٌ؛ لأنَّا لا نُسَلِّم أنه وقع موقعه، وإنما كان واقعاً لو كان مجرَّداً من علامةٍ، ومثلُ هذه الآيةِ أيضاً قوله تعالى:
{ { وَأَسَرُّواْ ٱلنَّجْوَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ } [الأنبياء: 3].
والجمهورُ على "عَمُوا وصَمُّوا" بفتح العين والصاد، والأصل: عَمِيُوا وصَمِمُوا؛ كَشَرِبُوا، فأعِلَّ الأولُ بالحذفِ، والثَّاني بالإدغامِ، وقرأ يحيى بن وثَّاب وإبراهيم النخعي بضم العين والصاد وتخفيف الميم من "عَمُوا"، قال الزمخشريُّ: "على تقدير عَمَاهُمُ الله وصَمَّهُمْ، أي: رَمَاهُمْ وضَرَبَهُمْ بالعَمَى والصَّمَمِ؛ كما يقال: نَزَكْتُهُ إذا ضَرَبْتَهُ بالنَّيْزَكِ، وركَبْتُهُ إذا ضَرَبْتَهُ بِرُكْبَتِكَ"، ولم يعترضْ عليه أبو حيان -رحمه الله -، وكان قد قال قبل ذلك بعد أن حكى القراءة: "جَرَتْ مَجْرَى زُكِمَ الرجُلُ، وأزْكَمَهُ الله، وحُمَّ وأحَمَّه الله، ولا يقال: زَكَمَهُ الله ولا حَمَّهُ؛ كما لا يقال: عَمَيْتُهُ ولا صَمَمْتُه، وهي أفعالٌ جاءت مبنيَّةً للمفعول الذي لم يُسَمَّ فاعلُه، وهي متعدِّيةٌ ثلاثيةٌ، فإذا بُنيتْ للفاعلِ، صارتْ قاصرةً، فإذا أردت بناءَها للفاعلِ متعدِّيةً، أدخَلْتَ همزة النقْلِ، وهي نوعٌ غريبٌ في الأفعال". انتهى، فقوله: "كمَا لا يُقَالُ عَمَيْتُهُ ولا صَمَمْتُهُ" يقتضي أن الثلاثيَّ منها لا يتعدَّى، والزمخشريُّ قد قال على تقدير: "عَمَاهُمُ الله وصَمَّهُمْ" فاستعملَ ثلاثيَّةُ متعدِّياً، فإن كان ما قاله أبو حيان صحيحاً، فينبغي أن يكون كلام الزمخشريِّ فاسداً أو بالعكس.
وقرأ ابن أبي عَبْلة "كَثِيراً" نصباً؛ على أنه نعتٌ لمصدر محذوف، وتقدم غيرَ مرَّة أنه عند سيبويه حالٌ، وقال مكي: "ولو نَصَبْتَ "كَثِيراً" في الكلام، لجازَ أن تجعله نعتاً لمصدر محذوف، أي: عَمى وصَمَماً كثيراً"، قلت: كأنه لم يطَّلِعْ عليها قراءةً، أو لم تَصِحَّ عنده؛ لشذُوذها.
وقوله: "فَعَمُوا" عطفَه بالفاء، وقوله: { ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ } عطفه بـ "ثُمَّ"، وهو معنى حسنٌ؛ وذلك أنهم عَقِيبَ الحُسْبَانِ، حصل لهم العمى والصَّمَمُ من غير تَرَاخٍ، وأسند الفعلين إليهم، بخلافِ قوله:
{ { فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَىٰ أَبْصَارَهُمْ } [محمد: 23]، لأنَّ هذا فيمن لم يَسْبِقْ له هدايةٌ، وأسند الفعل الحسنَ لنفسِه في قوله: { ثُمَّ تَابَ الله عَلَيْهِمْ }، وعطف قوله: "ثُمَّ عَمُوا" بِحَرْفِ التراخِي؛ دلالةً على أنهم تمادَوْا في الضَّلال إلى وقْتِ التوبة.
فصل في معنى العمى والصّمم
المُرَادُ بهذا العمى والصّمم الجَهْلُ والكُفْرُ، وإذا كان كذلِكَ فنقول: فَاعِلُ هذا الجَهْلِ إمَّا أن يكون هو اللَّهُ - تعالى - أو العَبْدُ.
فالأول: يُبْطِلُ قول المُعْتَزِلَةِ.
والثاني: بَاطِل؛ لأنَّ الإنسان لا يَخْتَارُ ألْبَتَّةَ تَحْصِيلَ الجَهْلِ والكُفْرِ لِنَفْسِهِ.
فإن قيل: إنَّمَا اختاروا ذلك؛ لأنَّهُمْ ظَنُّوا أنَّهُ علمٌ.
قلنا: هذا الجَهْلُ يسبقه جَهْلٌ آخَر، إلاَّ أنَّ الجهالات لا تتَسَلْسَلُ، بل لا بد من انْتِهائِهَا إلى الجَهْلِ الأوَّل، ولا يجوز أنْ يَكُون هو العَبْدُ لِما ذَكَرْنَا فوَجَب أن يكون فاعله هو اللَّهُ تعالى.
ثُمَّ قال تعالى: { وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } أي: مِنْ قَتْل الأنْبيَاء وتكْذِيب الرُّسُلِ المقصود منه التَّهْدِيد.