التفاسير

< >
عرض

ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَٰتِ وَٱلنُّورَ ثْمَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ
١
-الأنعام

اللباب في علوم الكتاب

قَالَ كَعْبُ الأحْبارِ - رضي الله عنه -: هذه الآيةُ [الكريمة] أوَّلُ آية في التوراة، وآخرُ آية في التوراة قوله تعالى: { ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِي ٱلْمُلْكِ } [الإسراء: 111] الآية الكريمة.
قال ابنُ عَبَّاس - رضي الله عنهما -: فَتَحَ اللَّهُ بالحَمْدِ، فقال: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ }، وخَتَمَهُمْ بالحَمْدِ، فقال: "وقَضَى بَيْنهُمْ بالحقِّ"، وقيل:
{ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [الزمر:75].
فقوله: "الحمدُ لِلَّهِ" فحمدَ اللَّهُ نَفْسَهُ تعليماً لعباده، أي: احمدوا اللَّهَ الذي خَلَقَ السَّمواتِ والأرْضَ خصهما بالذِّكر؛ لأنَّهما أعْظَمُ المَخْلُوقََات فيما يرى العِبَادُ، وفيهما العبرةُ والمنافعُ للعباد.
واعلم أنَّ المَدْحَ أعَمُّ من الحَمْدِ، والحَمْدُ أعَمُّ من الشكرِ؛ لأنَّ المْدْحَ يَحْصُلُ للعاقلِ وغيرِ العاقلِ، فكما يُمْدَحُ الرَّجُلُ العاقلُ بفضله، كذلِك يُمْدَحُ اللُّؤلُؤُ لحُسْنِ شَكْلِهِ، ولَطَافَةِ خِلْقَتِهِ، ويُمْدَحُ اليَاقُوتُ لِصَفَائهِ وصَقَالتِهِ.
وأمَّا الحمْدُ فلا يحصلُ إلاَّ للفاعل المُخْتَارِ على ما يَصْدُرُ عنه من الإنعام، وإنَّما كونُ الحَمْدِ أعم من الشُّكْر؛ فلأنَّ الحَمْد عبارة عن تعظيم الفاعل لأجل ما صدر عنه من الإنعام، سواء كان ذلك الإنعام واصلاً إليك أو إلى غيرك.
وأمَّا الشُّكْرُ فهو عِبَارةٌ عن تعظيمه لأجل إنعام وصل إليكَ، وإذا عُرِفَ ذلك، فإنَّمَا لَمْ يَقُلْ: المَدْحُ لله تبارك وتعالى لأنَّا بَيَّنَّا أنَّ المَدحَ كما يَحْصُلُ للفاعل المختار، فقد يَحْصُلُ لغيره.
وأمَّا الحَمْدُ فلا يَحْصُلُ إلا للفاعل المختار، وإنَّما لم يَقُلْ: "الشُّكر لِلَّهِ" لِمَا بَيَّنَّا أنَّ الشُّكْرَ عبارة عن تعظيم بسبب إنعام صدر منه، فيكون المطلوب الأصلي، وقبول النعمة إليه، وهذه دَرَجَةٌ حقيرةٌ.
وقوله: "الحَمْدُ لِلَّهِ" يَدُلُّ على أنَّ العَبْدَ حَمَدَهُ لأجل كونه مستحقاً للحمدِ، لا لخصوص كونه - تعالى - أوْصَلَ النِّعْمَةَ إليه فَيَكُونُ الإخلاصُ.
فصل في بيان لفظ الحمد
قوله: "الحَمْدُ" لفظٌ مفردٌ محلًّى بالألف واللام، فيفيد أنَّ هذه الماهية للهِ، وذلك يَمْنَعُ من ثبوت الحَمْدِ لغير اللهِ، وهذا يقتضي أنَّ جميع أقْسَامِ الحَمْدِ والثناء والتعظيم ليس إلاَّ للَّهِ تبارك وتعالى، فإن قيل: إنَّ شُكْرَ المُنْعِمِ واجب مِثلَ شُكْرِ الأسْتَاذِ على تعليمه، وشُكرِ السلطانِ على عَدْلِه، وشكر المُحْسِن على إحسانه، قال عليه الصلاة والسلام:
"مَنْ لم يَشْكُرِ النَّاسَ لَمْ يَشْكُرِ اللَّهَ" فالجوابُ أنَّ المَحْمُودَ والمَشْكُورَ في الحقيقة هو اللَّهُ تعالى؛ لأنَّ صدور الإحسان من [قلب] العَبْدِ يتوقف على حُصُول داعية الإحسان في قلب العبد، وحصول تلك الدَّاعية في القلب ليس من العَبْدِ، وإلاَّ لافْتَقَرَ في حصولها إلى داعيةٍ أخْرَى، ولَزِمَ التَّسلسُلُ، بل حصولها ليس إلاَّ من اللَّهِ تعالى، فتلك الدَّاعِيةُ عند حصولها يجب الفعلِ، وعند زوالها يَمْتَنِعُ الفِعْلُ فيكون المحسنُ في الحقيقة لَيْسَ إلاَّ اللَّه تبارك وتعالى، فيكون المُسْتَحِقُّ لكُلِّ حَمْدٍ في الحقيقةِ هو اللَّه تعالى.
وأيضاً فإنَّ إحْسَانَ العَبْدِ إلى الغَيْرِ لا يَكْمُلُ إلاَّ بواسطة إحْسَانِ اللهِ تعالى؛ لأنَّه لولا أنَّ اللَّهَ - تعالى - خَلَقَ أنواع النِّعَمِ، وإلاَّ لم يقدر الإنسانُ على إيصالِ تلك الحِنْطَةِ والفواكه إلى الغَيْرِ، فظهر أنَّه لا محسن في الحقيقة إلاَّ اللَّهُ تعالى، ولا مُسْتَحِقَّ للحمد في الحقيقة إلا الله، فلهذا قال: "الحمد لله".
فصل في بيان قوله: "الحمد لله" بالألف واللام
وإنَّما قال: "الحَمْدُ للَّهِ" ولم يقل: أحْمَدُ اللَّهَ؛ لأنَّ الحَمْدَ صفةُ القلب، فرُبَّمَا احْتَاجَ الإنسان إلى أن يذكر هذه اللَّفْظَة حال كونه غافلاً عند اسْتِحْضَارِ معنى الحَمْدِ، فلو قال وقت غَفْلَتِهِ: أحْمَدُ الله [تبارك وتعالى] كان كَاذِباً، واسْتَحقَّ عليه الذَّنْب والعِقَاب حيثُ أخبر عن وجود شيءٍ لم يُوجَدْ، فإذا قال: الحَمْدُ لله، فمعناه أنَّ ماهيَّةَ الحَمْدِ مُسْتَحِقَّةٌ لِلَّهِ عزَّ وجلَّ، وهذا حقٌّ وصدقٌ، سواء كان معنى الحَمْدِ حَاضراً في قَلْبِهِ، أو لم يَكُنْ، وكان الكلام عِبَادَةً شَرِيفةً وطاعةً، وظَهرَ الفَرْقُ، واللَّهُ أعلمُ.
فصل
هذه الكلمة مذكورة في أوائل خَمْسَةٍ، أوَّلهَا سورةُ "الفاتحة"
{ ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِين } [الفاتحة:2].
وثانيها: هذه السورة { ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ } [الأنعام: 1] والأول أعَمُّ، لأنَّ العالمَ عبارةٌ عن كل موجود سوى اللَّه تعالى.
وقوله:{ ٱلْحَمْدُُ للَّهِ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ } لا يَدْخُلُ فيه إلاَّ خَلْقُ السماوات والأرض، والظُّلُمَات والنور، ولا يدخل فيه سَائِرُ الكائنات، فكان هذا بَعْض الأقسام الداخلة تحت التَّحْمِيدِ المذكور في سورة "الفاتحة".
وثالثها: سورةُ الكَهْفِ:
{ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي أَنْزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ ٱلْكِتَابَ } [الكهف:1].
وهذا أيضاً تحميدٌ مخصوصٌ بنوع خاصٍ من النعمة وهي نعمة العلم والمعرفَةِ والهِدايَةِ والقرآن، وبالجملة النعمُ الحاصلةٌ بِسَبَب بَعْثَةِ الرُّسُلِ عليهم الصلاة والسلام.
ورابعها: سورة "سبأ":
{ ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي لَهُ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } [الآية:1].
وهذا أيضاً تحميدٌ على كَوْنِهِ مَالِكاً لِكُلِّ ما في السَّمواتِ والأرضِ، وهو قِسْمٌ من الأقسام الدَّاخِلَةِ في قوله:
{ ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [الفاتحة:2].
وخامسها: سورةُ "فاطر"
{ ٱلْحَمْدُ للَّهِ فَاطِرِ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } [الآية: 1].
وهو أيضاً قِسْمٌ من الأقسام الدَّاخِلَةِ تحتَ قوله تبارك وتعالى:
{ ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [الفاتحة:2].
فإن قيل: ما الفرقُ بين الخالق وبين الفاطرِ والرَّبِّ؟ وأيضاً لم قال هَاهُنا: "خَلَق السَّمواتِ والأرْضَ" بصيغة فعل الماضي، وقال في سورة "فاطر": "الحَمْدُ للَّهِ فاطر السَّمواتِ" بصيغة اسم الفاعل؟.
فالجواب عن الأول، أنَّ الخَلْقَ عبارة عن التَّقديرِ، وهو في حقِّ الله - تعالى - عبارةٌ عن علمه النَّافِذِ في جميع الكُلِّيات والجزئيات، وأمَّا كونُه فاطراً فهو عبارةٌ عن الإيجاد والإبداع، فكونه تعالى خالقاً إشارة إلى صفة العلم، وكونه فاطراً إشارة إلى صفة القدرة، وكونه تعالى رَبًّا ومُرَبياً مُشْتَمِلاً على الأمْرَيْنِ فكان ذلك أكمل.
وأمَّا الجَوابُ عن الثَّاني، فالحق أن الخَلْقَ عبارة عن التَّقدير، وهو في حقِّ الله - تعالى - عبارةٌ عن علمه بالمَعْلُومَاتِ، والعلم بالشيء يصحُّ تقدُّمُهُ على وجود المَعْلُومِ؛ لأنه لا يمكن أن يعلم الشيء قَبَلَ وجوده، وأمَّا إيجادُ الشيء، فإنَّه لا يَحْصُل إلاَّ حالَ وجوده.
فصل في قوله: "الحمد لله"
قوله: "الحَمْدُ للَّهِ" فيه قولان:
الأول: المرادُ احْمَدُوا اللَّهَ، وإنَّما جاء على صِفَةِ الخَبَرِ لوجوه:
أحدها: أن قوله: "الحَمْدُ للَّهِ" يفيد تَعْظِيم اللفظ والمعنى، ولو قال: "احمدوا" لم يحصل مجموع هاتين الفَائدتَيْنِ.
وثانيهما: أنه يُفيدُ كونه - تعالى - مُسْتحقّاً للحَمْدِ سَوَاءً حَمِدَهُ حَامدٌ أو لم يَحْمَدْهُ.
وثالثها: أنَّ المَقْصُودَ منه ذِكْرُ الحُجَّة فَذكْرُهُ بصيغة الخَبَرِ أوْلَى.
والقول الثاني: أن المراد منه تعليم العِبَادِ، وهو قولُ أكثره المفسرين.
قوله:{ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ } فيه ثلاث سؤالات:
السؤال الأول: قوله: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ } جار مجرى قولك: "جاءني الرَّجُلُ الفَقِيهُ" فإن هذا يدلُّ على وجود رَجُلٍ آخر ليس بفقيه، وإلاَّ لم يكن لِذِكْرِ ذلك فَائِدةٌ، وكذا هاهنا قوله: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْض } يوهم أن هناك إلهاً لم يَخْلُق السماوات والأرض، وإلاَّ فأيُّ فائدة في ذِكْرِ هذه الصِّفَةِ.
والجواب: أنا بَيَّنَّا أن قوله: "الله" جِارٍ مجرى اسم العلم، فإذا ذكر الوصف لاسم العلم لم يكن المقصود من ذكر الوَصْفِ التمييز، بل تعريف كون ذلك المُسَمَّى مَوْصُوفاً بتلك الصِّفَةِ.
مثاله: إذا قلنا: الرَّجُلُ اسمٌ للمَاهِيَّةِ، فيتناول الأشخاص الكثيرين، فكان المقصود هاهنا من ذِكر الوصفِ تَمْييز هذا الرجل عن سَائِرِ الرجال بهذه الصفة.
أمَّا إذا قلنا: زيدٌ العالم، فلفظُ "زيد" اسم عَلَمٍ، وهو لا يُفيد إلا هذه الذَّات المُعَيَّنَة؛ لأنَّ أسماء الأعلام قائمة مَقَامَ الإشَارَاتِ، فإذا وَصَفْنَاهُ بالعلمية امتنع أنْ يكون المقصودُ منه تَمْييز ذلك الشخص عن غيره، بل المقصود منه تعريف كون ذلك المُسمى مَوْصُوفاً بهذه الصفة ولما كان لفظ "الله" من باب أسماء الأعلام لا جَرَم كان الأمر على ما ذكرناه.
السؤال الثاني: لم قَدَّمَ "السَّمَاء" على "الأرضِ" مع أنَّ ظاهر التنزيل يَدُلُّ على أنَّ خَلْقَ الأرْضِ مُقدَّمٌ على خَلْقِ السماءِ.
فالجواب: أنَّ السَّمَاءَ كالدَّائرة، والأرْض كالمركز، وحُصُولُ الدَّائرة يوجبُ تعيين المَرْكَزِ، ولا يَنْعَكِسُ، فإنَّ حصول المَرْكَزِ لا يوجبُ تعيين الدَّائرةِ لإمْكَانِ أنْ يُحيطَ بالمركز الوَاحِدِ دَوَائِرُ لا نهاية لها، فلمَّا تَقَدَّمت السماءُ على الأرضِ بهذا الاعتبارِ، وجب تقديم ذِكْرِ السماءِ على الأرض، وعلى قوله من قالَ: إنَّ السمواتِ مَخْلُوقَةٌ قَبْلَ الأرضِ، وهو قول قتادَةَ، فالسُّؤال زائدٌ.
السؤال الثالث لم ذكر السماء بصيغة الجَمْعِ، والأرض بصيغة الواحدِ، مع أنَّ الأرضِينَ أيضاً كثيرةٌ لقوله:
{ { وَمِنَ ٱلأَرْضِ مِثْلَهُنَّ } [الطلاق:12]؟.
فالجوابُ: أنَّ السَّماءَ جَارِيَةٌ مجرى الفاعل، والأرض مجرى القابل، فلو كانت السَّمَاءُ واحدةً لتَشَابَهَ الأمرُ، وذلك يخلُّ بمصَالِحِ هذا العَالَمِ، فإذا كانت كثيرةٌ اخْتَلَفَتِ الاتِّصَالاَتُ الكَوْكَبِيَّةُ، فحَصَلَ بسببها الفُصُولُ الأرَبعة، وسائر الأحوال المختلفة، وحَصَلَ بسبب تلك الاختلافات مصالح [هذا] العالم.
أمَّا الأرض فهي قابلة للأثَرِ، والقَابِلُ الوَاحدُ كافٍ في القبول.
قوله: { وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَاتِ وَٱلنُّور }.
"جَعَلَ" هنا تتعدَّى لمعفول واحد؛ لأنها بمعنى "خَلَقَ"، هكذا عِبَارةُ النحويين، ظاهرها أنهما مُتَرَادِفَانِ، إلاَّ أنَّ الزَّمخْشَرِيَّ فَرَّقَ بينهما فقال: "والفَرقُ بين الخَلْقِ والجَعْلِ أنَّ الخَلْقَ فيه معنى التقدير، وفي الجَعْلُ معنى التَّصْييرِ كإنشاء شيء من شيء أو تَصْييرِ شيء شيئاً، أو نَقْلِهِ من مكان إلى مكان، ومن ذلك
{ { وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا } [الأعراف: 189]، { وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَاتِ وَٱلنُّورَ }؛ لأنَّ الظُلمَاتِ من الأجْرَامِ المُتَكَاثِفَةِ، والنُّور مِنَ النَّارِ".
وقال الطَّبَرِيُّ: "جَعَلَ" هنا هي التي تتصَرَّفُ في طَرَفِ الكلام، كما تقول: "جَعَلْتُ أفعل كذا".
فكأنه قال: "جَعَلَ إظلامها وإنارتها"، وهذا لا يُشبه كلام أهل اللسان، ولكونها عند الزمخشري لَيْست بمعنى "خَلَقَ" فسَّرها هُنا بمعنى "أحدث" و "أنشأ".
وكذا الراغب جعلها بمعنى "أوْجَدَ".
ثم إنَّ أبَا حيَّان اعْتَرَضَ عليه هنا لمَّا اسْتَطْرَدَ، وذكر أنها تكون بمعنى صَيَّر ومثل بقوله:
{ { وَجَعَلُواْ ٱلْمَلاَئِكَةَ ٱلَّذِينَ هُمْ عِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ إِنَاثاً } [الزخرف:19]. فقال وما ذكر من أن جعل بمعنى صَيَّر في قوله { { وَجَعَلُواْ ٱلْمَلاَئِكَة } [الزخرف:19] لا يصحُّ؛ لأنهم لم يُصَيِّروهم إناثاً وإنما ذكرَ بعضُ النحويين أنها هنا بمعنى "سمَّى".
قال شهابُ الدين: ليس المُرَادُ بالتصيير التصيير بالفعل، بل المُراد التصيير بالقول، وقد نصَّ الزمخشري على ذلك، على ما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى، وقد ظهر الفرقُ بين تخصيص السَّمواتِ والأرض بالخَلْقِ، والظُّلُمَاتِ والنور بالجَعْل بما ذكره الزمخشري.
فصل
قال أبو العباس المقري: ورد لفظ الجَعْل في القرآن على خمسة أوجه:
الأول: بمعنى "خلق" قال تعالى: { وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَاتِ وَٱلنُّورَ }، وقوله
{ { وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا } [فصلت:10]، وقوله: { { جَعَلَ ٱللَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ خِلْفَةً } [الفرقان:62].
والثاني: بمعنى "بعث" قال تعالى:
{ { وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيراً } [الفرقان:35].
والثالث: بمعنى "قدره" قال تعالى
{ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً } [الزمر:8] وقوله تعالى: { { وَجَعَلُواْ ٱلْمَلاَئِكَةَ ٱلَّذِينَ هُمْ عِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ إِنَاثاَّ } [الزخرف:19] وقوله تعالى: { { أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِٱلَّذِي خَلَقَ ٱلأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً } [فصلت: 9] أي تقولون.
الرابع: بمعنى "بَيّن" قال تعالى:
{ { إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً } [الزخرف:3] أي: بَيَّنَّاه بحَلالِه وحَرَامِهِ.
الخامس: بمعنى "صَيَّرَ" قال تعالى:
{ { وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً } [الإسراء: 46] أي: صيرنا، وقوله { { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ ٱلْحَاجِّ } [التوبة:19]، وقوله { { وَجَعَلَ بَيْنَ ٱلْبَحْرَيْنِ } [النمل:61]، وقوله: { { إِنَّا جَعَلْنَا فِيۤ أَعْناقِهِمْ } [يس:8].
فإن قيل: لِم وَحًّد النُّورَ، وجمعَ الظُّلمَاتِ. فالجواب من وجوه:
أحدها: إنْ قُلْنَا: إنَّ الظُّلُمَاتِ هي الكُفْرُ، والنُّور هو الإيمان فظاهرٌ؛ لأنَّ الحقَّ واحِدٌ، والباطِلُ كثيرٌ.
وإنْ قٌلنا: إنَّ الظُّلْمَة الكيفية المحسوسة، فالنُّور [عبارة] عن تلك الكَيْفِيَّةِ الكَامِلَةِ القَويَّةِ وكذلك الظُّلْمةُ الكاملة القوية، ثمَّ إنَّها تقبلُ التَّناقٌص قليلاً [قليلاً] وتلك المَرَاتِبُ كثيرة، فلهذا عَبَّرَ عن الظُّلُمَاتِ بصيغة الجَمْعِ.
وثانيها: أنَّ النُّور من جِنْسٍ واحِدٍ، وهو النار، والظُّلُمَاتُ كثيرة، فإنَّ مَا مِن جرْمٍ إلاَّ وله ظِلٌّ وظُلْمَةٌ.
وثالثها: أنَّ الصِّلَةَ التي قبلها تقدمَّ فيها جَمْعٌ ثُمَّ مفردٌ، فعطفت هذه عليها كذلك، وقَدْ تقَدَّمَ في "البقرة" الحِكْمَةُ في جَمْع السماوات، وإفراد الأرض.
فإنْ قيل: لِمَ قُدِّمت الظُّلُمات [على النور] في الذكر؟.
فالجوابُ: لأنه مُوَافِقٌ في الموجودِ؛ إذا الظُّلمة قَبْلَ النُّور عِنْدَ الجمهور.
فصل في المراد بالظلمات والنور
قال الوَاقِدِيُّ: كُلُّ مَا في القرآنِ من الظُّلُمَاتِ والنُّورِ هو الكُفْرُ والإيمان، إلاَّ في هذه الآية، فإنَّهُ يُريُد به اللَّيْلَ والنَّهَارَ.
وقال الحسنُ: المُرَادُ الكُفْرُ والإيمان.
ونقل الوَاحِدِيُّ عن ابن عبَّاس معناه.
وقيل: المرادُ بالظُّلمات الجَهْلُ، وبالنُّور العِلْمُ.
وقال قتادة: يعني الجَنَّةَ والنَّار.
وقيل: معناها خَلْقُ السموات والأرض، وقد جَعَلَ الظلمات والنُّور؛ لأنه خلقَ الظُّلْمَة والنُّور قبل السمواتِ والأرضِ.
قال قتادة: خلق الله السَّمواتِ قَبْلَ الأرض، وخَلَقَ الظُّلْمَةّ قَبْلَ النُّورِ، والجنَّة قبل النَّار.
وروى عبد الله بن عمرو بن العَاص أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:
"إن الله خَلَقَ خَلْقَهُ في ظُلْمَةٍ، ثُمَّ ألْقَى عَلَيْهِم مِنْ نُورِهِ، فَمَنْ أصَابَهُ مِنْ ذَلِكَ النُّورِ اهْتَدَى، ومَنْ أخْطأهُ ضَلَّ" .
قوله تعالى: { ثْمَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ }.
"ثُمَّ" هذه ليست للتَّرْتِيبِ الزَّمَاني، وإنِّما هي للتَّراخي بين الرُّتبتينِ، والمُرَادُ اسْتِبْعَادُ أنْ يَعْدِلوا به غيره مع ما أوضحَ من الدِّلالاتِ، وهذه عطفٌ: إمَّا على قوله: "الحمدُ لله"، وإمَّا على قوله: "خَلَقَ السَّمواتِ".
قال الزمخشري: "فإن قلت فما معنى "ثم"؟ قلت: استبعاد أنْ يَعْدِلُوا به بعد وضوح آيَاتِ قُدْرَتِهِ، وكذلك "ثُمَّ أنْتُم تَمْتَرُونَ" استبعاد لأنْ يمتروا فيه بعدما ثبتَ أنَّهُ مُحْييهمْ، ومُميتُهُمْ وباعثهم".
وقال ابن عطية: "ثُمَّ" دَالَّةٌ على قُبْحِ فِعْلِ الذين كَفَرُوا، فإنَّ خلْقَهُ للسموات والأرض وغيرهما قد تَقَرَّرَ، وآيَاتُهُ قَدْ سَطَعَتْ، وإنْعَامُه بذلك قد تَبيَّنَ، ثمَّ مع هذا كُلِّهِ يَعْدِلُون به غيره.
قال أبو حيَّان: ما قَالاَهُ من أنَّها للتَّوْبيخ والاسْتِبْعَادِ ليس بصحيح؛ لأنها لم تُوضع لذلك، والاسْتِبعَادُ والتَّوْبِيخُ مُسْتَفَادٌ من الَسِّيَاقِ لا من "ثُمَّ"، ولم أعلم أحداً من النحويين ذكر ذلك، بل "ثمَّ" هنا للمُهْلَةِ في الزَّمَانِ، وهي عَاطِفَةٌ جملةً اسميةً [على جملةٍ اسميةٍ] يعني على "الحَمْدُ للِّهِ".
ثُمَّ اعترض على الزمخشري في تَجْوِيزِه أن تكون معطوفةً على "خَلَقَ" [لأنَّ "خَلَقَ"] صِلَةٌ، فالمعطوف عليها يُعطى حكمها، ولكن ليس ثم رابطٌ يعودُ [منها] على الموصول.
ثُمَّ قال: "إلاَّ أنْ يكون على رَأي من يَرَى الرَّبْطَ بالظَّاهِرِ كقولهم: "أبو سعيدٍ الذي رَوَيْتُ عن الخدري" وهو قليلٌ جداً لا ينبغي أنْ يُحْمَلَ عليه كتابُ اللِّهِ".
قال شهابُ الدين: إنَّ الزمخشري إنَّما يريدُ العَطْفَ بـ "ثم" لتراخي ما بين الرتبتين، ولا يريدُ التَّرَاخي في الزَّمَانِ كما قد صَرَّحَ به هو، فكيف يلزمه ما ذكر من الخُلُوِّ عن الرابط؟.
وكيفَ يتخيل كونها لِلمُهْلَة في الزمان كما ذكر أبو حيان.
قوله: "بِربِّهمْ" يجوز أن يتعلَّق بـ "كَفَرُوا"، فيكون "يَعْدلُون" بمعنى يَمِيلُون عنه، من العُدُولِ، ولا مفعول له حينئذٍ، ويجوز أنْ يتعلَّقَ بـ "يَعْدِلُون" وقدِّم للفَوَاصِلِ، وفي "الباء" حينئذٍ احتمالان:
أحدهما: أن تكون بمعنى "عن" و"يَعْدلون" مِنَ العدول أي: يعدلون عن ربهم إلى غيره.
والثاني: أنها للتعدية ويعدلون من العَدْلِ وهو التسوية بين الشَّيْئَيْنِ، أي: ثُمَّ الذين كفروا يُسَوونَ بربِّهم غَيْرَه من المَخْلُوقِينَ، فيكون المَفْعُولُ محذوفاً.
وقيل معنى الآية كقول القائل "أنْعَمْتُ عليكم بكذا، وتَفَضَّلْتُ عليكم بكذا، ثُم تكفرون نعمتي".