التفاسير

< >
عرض

وَأَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَٰنِهِمْ لَئِن جَآءَتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا ٱلآيَٰتُ عِندَ ٱللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ
١٠٩
وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَٰرَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ
١١٠
-الأنعام

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { وَأَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ } الآية الكريمة.
لما طَعَنُوا في النُّبُوة بِمُدَارسة العُلمَاء، حتى عَرَف التَّوْراة والإنجيل، ثم جعل السُّور والآياتِ بِهَذا الطَّريق، وأجاب اللَّه - تعالى - عن هذه الشُّبْهَة، ذكر في هذه الآية شُبْهَة لَهُم أخْرَى، وهي أنَّ هذا القرآن العَظيم لَيْس من جِنْس المُعْجِزاتِ البَيِّنَة، ولو أنَّك يا محمَّد جِئْتَنا بِمُعْجِزَة وبيِّنَة بَاهِرة، لآمَنَّا بك وحلفوا على ذلك، وبالغُوا على ذلك تَأكيد الحَلْف.
قال الواحدي: إنَّما سُمِّي اليمين بالقَسَم؛ لأن اليَمين مَوْضُوعة لِتَأكيد الخَبَر الَّذِي يُخْبرُ به الإنْسَان: إمَّا مُثْبِتاً للشَّيء، وإمَّا نافياً، ولما كان الخبر يَدْخله الصِّدْق والكذِب، احَتَاج المُخبر إلى طريق به يُتَوسَّل إلى تَرْجِيح جَانِب الصِّدْق على جَانِب الكَذب، وذلك هو الحَلْف، ولما كانت الحَاجَةُ إلى ذَكْر الحَلف، إنَّما تَحْصُل عن انْقِسام النَّاس عند سَمَاع ذلك الخبر إلى مُصدِّق به ومُكذِّب به, سَمُّوا الحَلْف بالقَسَم، وبنُوا تِلْك الصِّيغَة على "أفْعَل" وقالُوا: أقسم فلانٌ يقسم إقساماً، وأرَادُوا: أنه أكَّد القَسَم الذي اخَتَاره، وأحَال الصِّدْق إلى القَسَم الذي اختارَه بواسِطَة الحَلْفِ واليَمِين.
قوله: "جَهْد أيْمَانِهِم" تقدم الكلام عَلَيه في "المائدة".
وقرأ طَلْحَة بن مُصَرِّف: "ليُؤمَنَنْ" مَبْنياً للمفعول مؤكّداً بالنون الخفيفة، ومَعْنَى "جهد أيمانهم": قال الكَلْبِيُّ ومُقَاتِل: إذا حلف الرَّجُل باللَّه جَهْد يَمِينه، وقال الزَّجَّاج: بالَغُوا في الأيْمَان.
فصل في سبب النزول
قال مُحَمَّد بن كَعْب القُرظي:
"قالت قُرَيش: يا مُحَمَّد إنَّك تُخْبِرنا أنَّ مُوسَى - عليه الصَّلاة والسلام - كانت معه عَصاً يَضْرِب بها الحجر، فَيَنْفَجِر منه الماءُ اثْنَتي عَشْرَة عَيْناً، وتُخْبِرُنا: أنَّ عيسَى كان يُحْيِي الموْتَى، وأن صَالِحاً أخَرْج النَّاقَة من الجَبَل؛ فأتِنَا أنْتَ أيْضاً بآيةٍ، لِنُصَدِّقَك. فقال - عليه الصلاة والسلام -: ما الذي تُحِبُّون؟ قالوا: تَجْعل لنا الصَّفَا ذَهَباً، أو ابْعث لنا بَعْض مَوتَانا حتى نَسْأله عنك؛ أحقُّ ما تَقُول، أمْ بَاطِلٌ، أو أرنا الملائكة يَشْهَدُون ذَلِك، فقال رسُول الله صلى الله عليه وسلم: فإن فَعَلْت بَعْضَ ما تَقُولُون، أتصدِّقُونَنِي؟ قالوا: نَعَمْ واللَّه، لأن فعلْت، لنتَّبِعَنَّكَ، فقام - عليه الصلاة والسلام - يدعو فَجَاءَهُ جِبْريل - عليه الصلاة والسلام - وقال: إن شئْت، كان ذَلِك ولَئِنْ كان، فلم يصَدَّقوا عنده، لنُعَذَّبَنهُمْ، وإن شئت تركتهُم حتى يَتُوب تَائِبُهم، فقال - عليه الصلاة والسلام - بل حتَّى يَتُوب تَائِبُهم، فأنْزَل الله - تعالى - الآية الكريمة" .
وقيل: لما نزل قوله - تعالى -: { { إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ } [الشعراء:4]، أقْسَم المُشرِكُون باللَّه، لئن جَاءَتْهُم آية، ليُؤمِنُنَّ بها، فنزلت الآية الكريمة.
واخْتَلَفُوا في المُرَاد بالآية.
فقيل: ما تقدَّم من جعل الصَّفَا ذهباً.
وقيل: هي الأشْيَاء المذْكُورة في قوله - تبارك وتعالى -:
{ { لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ ٱلأَرْضِ يَنْبُوعاً } [الإسراء:90].
وقيل: إن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كان يُخْبِرُهم: بأنَّ عذاب الاسْتِئْصال كان يَنْزِل بالأمَمِ المَاضِية الذين كذَّبُوا أنْبِيَاءَهُم، فالمُشْرِكون طَلَبُوا مِثْلَها.
قوله: "إنَّما الآيَاتُ عِنْد اللَّه" ذكروا في لَفْظِةِ "عِنْد" وجوهاً:
فقيل: معناه: أنه - تبارك وتعالى - هو المُخْتَصُّ بالقُدْرَة على أمْثَال هذه الآيات دون غَيْره؛ أن المُعجِزَات الدَّالَّة على النُبُّوَّات، شرطها أن لا يَقْدِر على تَحْصيلها أحَد إلى الله - تعالى -.
وقيل: المُراد بالعِنديَّة: أن العِلْم بأن إيجاد هذه المُعْجِزَات، هل يَقتضي إقْدَام هؤلاء الكُفَّار على الإيمان أم لا؟ ليْس إلا عِنْد اللَّه، كقوله:
{ { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ ٱلْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ } [الأنعام:59].
وقيل: المراد: أنَّها وإن كانت مَعْدومة في الحالِ، إلا أنَّه - تعالى - متى شَاءَ، أوْجَدَها، فَهِي جَارِيَةٌ مُجْرى الأشْيَاء الموضُوعة عِنْد اللَّه، يُظْهِرهَا متى شاء، وليْس لكُم أنْ تَتَحَكَّموا في طَلَبِها، ولَفْظ "عند" على هذا؛ كما قي قوله:
{ { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ } [الحجر:21].
قوله: "وَمَا يُشْعِرُكُم"ما": استِفْهَامِيَّة مُبْتَدأ، والجملة بَعْدَها خَبْرُهَا، وفاعل "يُشْعِر" يعود عَلَيْها، وهي تتعدى لاثْنَيْن.
الأوَّل: ضمير الخطاب.
والثاني: مَحْذُوف، أي: وأيُّ شَيءْ يدرِيكُم إيمانُهم [إذا جَاءَتْهُم الآيَات التي اقْترَحُوها.
قال أبو علي: "مَا" استِفْهَام، وفَاعِل "يُشْعِرُكُم" ضمير "مَا" والمعنى: وما يُدْرِيكم إيمانهم؟ فحذف المَفْعُول، وحذف المفعُول كَثِير].
والمعنى أي: بِتَقْدير أنْ تَجِيئَهم هَذِه الآيَات، فهم لا يُؤمِنُون.
وقرأ العامَّة: انها بِفَتْح الهَمْزة، وابن كثيرٍ وأبُو عَمْرو، وأبُو بَكْر بخلاف عنه بِكَسْرِها.
فأمَّا قراءة الكَسْر: فَوَاضِحَة اسْتجودها النَّاس: الخَلِيل وغيْره، لأن معناها: اسْتِئْنَاف إخْبَار بعدم إيمان من طُبع على قَلْبِه، ولو جَاءَتْهُم كلُّ آيَة.
قال سيبويه: سَألْتُ الخَلِيل عن هذه القراءة يعني: قِرَاءة الفَتْح فَقُلْت: ما مَنَع أن يكُون كقولك: ما يُدْرِيك أنّه لا يَفْعل؟ فقال: لا يَحْسُن ذلك في هذا المَوْضِع، إنَّما قال: "ومَا يُشْعِرُكم" ثم ابْتِدأ؛ فأوْجَب، فقال: "إنَّها إذا جَاءَت لا يُؤمِنُون" ولو فتح, فقال: { وما يُشْعِرُكُم أنَّها إذا جَاءَتْ لا يُؤمِنُون }، لكان عُذْراً لهم، وقد شرح النَّاس قَوْل الخَلِيل، وأوْضَحُوه، فقال الواحدي وغيره: لأنَّك لو فَتَحْت "أنّ" وجَعَلْتَها الَّتِي في نَحْو: بَلَغَنِي أنَّ زيداً مُنْطَلِق، لكان عُذْراً لمنَ أخبر عَنْهُم أنَّهم لا يُؤمِنُون؛ لأنَّه إذا قال القَائِل: "إنَّ زَيْداً لا يُؤمِن" فقلت: وما يُدْرِيك أنَّه لا يُؤمِن؟ كان المَعْنَى: أنه يُؤمِن، وإذا كان كذلك، كان عُذْراً لمن نفي عنه الإيمان، وليس مُرادُ الآية الكريمة، إقامة عُذْرهم، ووجود إيمانهم.
وقال الزَّمَخْشَري: "وقُرِئ "إنَّها" بالكَسْر؛ على أنَّ الكلام قد تمَّ قبْله بِمَعْنَى: "مَا يُشْعِرُكُم ما يَكُون مِنْهُم" ثمَّ أخبَرَهم بِعِلْمه فِيهِم، فقال: إنَّها إذَا جَاءَت، لا يُؤمِنُون".
وأما قِرَاءة الفَتْح: فقد وَجَّهَها النَّاسُ على سِتَّة أوْجُه:
أظهرها: أنَّها بمعنى: لَعَلَّ، حكى الخَلِيل "أتيت السُّوق أنَّك تَشْتَرِي لَنَا مِنْهُ شَيْئاً" أي: "لَعَلَّك" فهذا من كلام العرب - كما حَكَاه الخَلِيل - شَاهد على كَوْن "أنَّ" بِمَعْنَى لَعَلَّ وأنْشَد أبو جَعْفَر النَّحَّاس: [الطويل]

2280- أرينِي جَوَاداً مَاتَ هُزْلاً لأنَّنِي أرَى ما تَرَيْنَ أوْ بَخِيلاً مُخَلَّدَا

وقال امرؤ القيس - أنشده الزَّمَخْشَريُّ - [الكامل]

2281- عُوجَا على الطَّلَلِ المُحِيلِ لأنَّنَا نبْكِي الدِّيارَ كَمَا بَكَى ابْنُ حِذَامِ

وقال جري: [الوافر]

2282- هَل انْتُمْ عَائِجُونَ بِنَا لَعَنَّا نَرَى العَرَصَاتِ أوْ أثَرَ الخِيَامِ

وقال عَدِيُّ بنُ زَيْدٍ: [الطويل]

2283- أعَاذِل مَا يُدْريكَ أنَّ مَنِيَّتِي إلى سَاعَةٍ في اليَوْمِ أوْ فِي ضُحَى الغَدِ

وقال آخر: [الزجر]

2284- قُلْتُ لِشَيْبَانَ ادْنُ مِنْ لِقَائِهْ أنَّا نُغَذِّي النَّاسَ مِنْ شِوَائِهْ

فـ "أنَّ" في هذه المواضِع كلِّها بِمَعْنَى: "لعلَّ" قالوا: ويدلُّ على ذَلِك أنَّها في مُصْحَف أبَيِّ وقراءته: "وما أدْرَاكُم لعلَّها إذا جَاءَتْ لا يُؤمِنُون" ونُقِل عنه: "وما يُشْعِرُكم لعلِّها إذَا جَاءَت لا يُؤمِنُون" ذكر أبُو عُبَيْد وغيره، ورَجَّحُوا ذلك أيْضاً بأنَّ "لَعَلَّ" قد كَثُر ورودُها في مِثْل هذا التَّركِيب؛ كقوله - تعالى -: { { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ ٱلسَّاعَةَ قَرِيبٌ } [الشورى:17]، { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّىٰ } [عبس:3]، وممَّن جعل "أنَّ" بِمَعْنَى:
"لعل" أيْضاً، يَحْيَى بن زِيَاد الفرّاء.
ورجَّح الزَّجَّاج فقال: "زعم سِيبوَيْه عن الخَلِيل، أن مَعْنَأها: "لَعَلَّهَا" قال: "وهَذَا الوَجْه أقْوى في العَرَبِيَّة وأجود" ونَسَب القراءة لأهْل المدينة, وكذا أبُو جَعْفَر.
قال شهاب الدِّين: وقراءة الكُوفيِّين، والشَّامِيِّين أيضاً، إلاَّ أن أبَا عَلِيَّ الفارسيَّ ضعَّف هذا القَوْل الَّذِي استجوده النَّاسُ، وقوَّوْهُ تَخْريجاً لهذه القِراءة، فقال: "التَّوَقُّع الَّذِي تدلّ عليه "لَعَلَّ" لا يُنَاسب قراءة الكَسْر، لأنها تدلُّ على حُكْمِه - تعالى - عليهم بأنَّهم لا يُؤمِنُون" ولكنَّه لمَّا مَنَعَ كونها بِمَعْنَى: "لعل" لم يَجْعَلْها مَعْمُولة لـ "يُشْعِرُكُم" بل جَعَلها على حَذْف لام العِلَّة، أي: لأنَّها، والتَّقْدِير عنده: "قل إنَّما الآياتِ عِنْد اللَّهِ، لأنَّها إذا جَاءَت لا يُؤمِنُون". فهو لا يَأتِي بَهَا؛ لإصْرارهم على كُفْرِهم، فيَكُون نَظِير:
{ { وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بِٱلآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا ٱلأَوَّلُونَ } [الإسراء:59]، أي بالآيات المُقْتَرحة، وعلى هذا فيَكُون قوله: "وما يُشْعِرُكُم" اعتِرَاضاً بين العِلَّة والمَعْلُول.
الثاني: ان تكون "لاَ" مَزِيدة، وهذا رَأي الفرَّاء وشيخه، قال: ومثله:
{ { مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ } [الأعراف:12] أي: "أنْ تَسْجُد" فيكون التَّقْدير: وما يُشْعِرُكُم أنَّها إذا جَاءَت يُؤمِنون، والمعنى على هذا: أنَّها لو جَاءَت لم يُؤمِنُوا، وإنما حمله على زِيَادَتِها ما تقدَّم من أنَّها لو تُقدَّر زَائِدة، لكان ظَاهِرُ الكلام عُذْراً لكُفَّار، وأنَّهم يُؤمِنون كا عرفت تَحْقيقه أولاً، إلا أن الزَّجَّاج نسب ذلك إلى الغَلَط، فقال: "والَّذِي ذكر أنَّ "لا" لَغْو، غالط؛ لأن ما يَكُون لَغْواً، لا يكون غَيْر لَغْوٍ، ومن قَرَأ بالكَسْر، فالإجْمَاع: على أنَّ "لا" غير لَغْو" فليس يَجُوز أن يكُون مَعْنَى لفظة: مرةً النَّفْي، ومرَّة الإيجاب في سِيَاق واحد.
وانتصر الفارسيّ لقول الفرَّاء، ونفي عنه الغَلَط، فإنَّه قال: "يجوزُ أن تكون "لا" في تأويل زَائِدةً، وفي تَأويل غَيْر زَائِدة؛ كقول الشَّاعِر في ذلك: [الطويل]

2285- أبَى جُودُهُ لا البُخْلَ واسْتَعْجَلَتْ نَعَمْ بِهِ مِنْ فَتًى لا يَمْنَعُ الجُودَ نَائِلُهْ

يُنشد بالوَجْهَيْنِ، أي: بِنَصْب "البُخْل" وجرِّه، فَمَنْ نَصَبَه، كانت زائدة، أي: "أبَى جُودُه البُخْلَ" ومَنْ خَفَضَ، كانت غَيْر زَائِدة، وأضَافَ "لاَ" إلى البُخْلِ".
قال شهاب الدِّين: وعلى تَقْدير النَّصْب، لا يَلْزَم زِيَادتها؛ لجوازِ أن تكُون "لا" مَفْعُولاً بِهَا، و "البُخْل" بدل مِنْهَا، أي: "أبَى جُودُه لَفْظَ "لا" ولفظ "لا" هو بُخْل". وقَدْ تقدَّم لك طَرف من هذا محقَّقاً عند قوله - تعالى -:
{ { وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } [الفاتحة:7] [في أوائل هذا الموضوع] وسَيَمُرُّ بك مَوَاضِع مِنها؛ كقوله - تعالى -: { { وَحَرَامٌ عَلَىٰ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَآ أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } [الأنبياء:95].
قالوا: تَحْتَمل الزِّيَادة، وعدمها وكذا
{ { مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ } [الأعراف:12] { { لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ ٱلْكِتَابِ } [الحديد:29].
الثالث: أن الفَتح على تَقْدِير لام العِلَّة، والتَّقْدير: "إنما الآيات التي يَقْتَرِحُونها عِنْد اللَّه؛ لأنَّها إذا جَاءتَ لا يُؤمِنُون"، و "ما يُشْعِرُكُم" اعتِرَاض كما تقدَّم تَحْقيق ذلك عن أبي عَلِيِّ، فأغنى عن إعَادَتِهِ، وصار المَعْنَى: "إنَّما الآيَات عند اللَّه، أي: المُقْترحة لا يأتي بِهَا؛ لانْتِفَاء إيمانهم، وإصْرارِهْم على كُفْرِهم".
الرابع: أن في الكلام حَذْف مَعْطُوف على ما تقد‍َّم.
قال أبُو جَعْفَر في مَعَانيه: وقيل في الكلام حَذْف، والمعنى: وما يُشْعِرُكم أنَّها إذا جاءت لا يُؤمِنُون أو يُؤمِنُون، فحذفَ هذا لِعْلِم السَّامِعِ، وقدَّرَه غَيره: "ما يُشْعِرُكُم بانْتِفَاء الإيمان، أو وقُوعه".
الخامس: أن "لا " غير مزيدة، وليس في الكلام حَذْف، بل المَعْنَى: "وما يُدريكم انتِفَاء إيمانهم" ويكون هَذَا جواباً لمن حُكِم عليْهم بالكُفر ويُئِس من إيمانِهِم.
وقال الزَّمَخْشَرِي: "وما يُشْعِرُكم: وما يُدْرِيكُم أنها، أي: أن الآيات التي يَقترِحُونها"إذا جاءت لا يُؤمِنُون بِهَا" يَعْنِي: "أنَا أعلم أنَّها إذا جَاءَت لا يُؤمِنُون بِهَا، وأنتم لا تَدْرُون بِذَلك". وذلك أنّ المُؤمنين كانُوا حَرِيصين على إيمانهم، وطامعين فيه إذا جَاءَت تلك الآيَة، ويتمنَّوْن مَجيئها، فقال - عز وجلَّ -: { وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ } على مَعْنَى: أنكم لا تَدْرُوْنَ ما سَبَقَ عِلْمي بهم، أنهم لا يُؤمِنُون؛ ألا ترى إلى قوله: { كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ } [الأنعام:110] انتهى.
قال شهاب الدِّين: بَسْطُ قوله إنَّهم كَانُوا يَطْمعُون في إيمانهم، ما جَاءَ في التَّفْسِير: أن المُشْركين قَالُوا لِرَسُول الله صلى الله عليه وسلم: أنْزِلَ عَلَيْنَا الآية الَّتي قال اللَّه فيها:
{ { إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ } [الشعراء:4] ونحن واللَّه نُؤمِن، فأنزل الله تعالى: "وما يُشْعِرُكُم" إلى آخرها وهذا الوَجْه: هو اخْتِيَار أبي حيَّان، فإنَّه قال: "ولا يَحْتَاج الكلام إلى زِيَادة "لاَ" ولا إلى هذا الإضْمَار، يعني حَذْفَ المَعْطُوف، ولا إلى "أنَّ" بِمَعْنَى: لعَّل، وهذا كلُّه خُروجٌ عن الظَّاهِر لغير ضَرُورة، بل حَمْلُه على الظَّاهِر أوْلى، وهو وَاضِحٌ سائغٌ، أي: وما يُشْعِرُكم ويُدْرِيكم بِمَعْرِفة انْتِفَاء إيمانهم، لا سَبِيل لَكُم إلى الشُّعُور بِهَا".
السادس: أن "مَا" حَرْف نَفْي، يَعْني: أنه نَفى شُعُورهم بِذلكِ، وعلى هذا فَيُطْلَبُ لـ "يُشْعركُمْ" فاعل.
فقيل: هو ضَمِير الله - تعالى - أضْمر للدَّلالة عَلَيْه، وفيه تكلُّف بعيد، أي: "وما يُشْعِركُم اللَّه أنَّها إذا جاءَت الآيات المُقْتَرحَة لا يُؤمِنُون". وقد تقدَّم في البقرة كيْفِيَّة قِرَاءة أبي عَمْرو لـ "يُشْعركم" و
" { { يَنصُرْكُمُ } [آل عمران:160]، ونحوهما عند قوله: { { إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ } [البقرة:67]، وحَاصِلُها ثلاثة أوْجُه: الضَّمُّ الخَالِص، والاختلاس، والسُّكُون المحض.
وقرأ الجُمْهُور: "لا يُؤمنُون" بياء الغَيْبَة، وابن عامر، وحمزة بتاء الخِطَاب.
وقرأ أيضاً في الجاثية [آية:6] { فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ ٱللَّهِ وَآيَاتِهِ تُؤْمِنُونَ }: بالخِطَاب، واقفهُمَا عليها الكَسَائِي، وأبُو بكر عن عَاصِم، و الباقون: باليَاء للغَيْبَة، فتحصَّل من ذلك أنَّ ابْن عامرٍ، وحَمْزة يقرآن بالخِطَاب في المَوْضِعَيْن، وأن نَافِعاً, وابن كثير، وأبا عَمْرو، وحَفْصاً عن عَاصِم، بالغيبة في الموْضِعَيْن، وأنّ الكَسِائيّ، وأبا بكر عن عن عَاصِم: بالغَيْبَة هُنَا، بالخِطَاب في الجَاثِية، فقد وافقا أحد الفريقين في إحْدى السُّورَتَيْن والآخر في أخرى.
فأما قِرَاءة الخِطَاب هُناَ: فيكون الظَّاهر من الخِطاب في قوله: "ومَا يُشْعِرُكُم" أنه للكُفَّار، ويتَّضح مَعْنَى هذه القِرَاءة على زيادة "لا" أي: ومَا يُشْعِرُكم أنكم تُؤمِنُون، إذا جَاءَت الآيَات الَّتِي طَلَبْتُمُوها كما أقْسَمْتُم عَلَيْه، ويتَّضحُ أيضاً على كون "أنَّ" بمعنى: لَعَلَّ، مع كون "لا" نَافِية، وعلى كَوْنِها عِلَّة بِتَقْدير: حذف اللاَّم، أي: "إنما الآيات عِنْد الله فلا يَأتِيكم بِهَا؛ لأنَّها إذا جَاءَت لا يُؤمِنُون بها" ويتَّضِحُ أيضاً على كَوْن المَعْطُوف مَحْذُوفاً، أي: "وما يُدْرِيكم بعدم إيمَانِكم، إذا جاءَت الآيات أو وُقُوعه؛ لأن مَآل أمركم مُغَيِّبٌ عَنْكم، فكَيْفَ تُقْسِمُون على الإيمان عِنْد مَجِيء الآيات؟" وإنَّما يُشْكَل؛ إذا جَعَلْنا "أنَّ" معمولة لـ "يُشْعِرُكم" وجَعَلْنَا "لا": نافية غير زَائِدَة؛ إذ يكون المَعْنَى: "وما يُدْرِيكم أيُّهَا المُشْرِكون بانْتِفَاء إيمانكم، إذا جَاءَتْكم"، ويَزُول هذا الإشْكَال بأنَّ المَعْنَى: أيُّ شَيْء يُدْرِيكم بِعَدم إيمانِكُم، إذا جَاءَتْكم الآيَات الَّتِي اقْتَرَحْتُمُوها؟ يعني: لا يمرُّ هذا بِخَواطِرِكم، بل أنْتُم جازِمُونَ بالإيمان عند مَجِيئها، لا يَصُدُّكم عَنْه صادٌّ، وأنا أعْلَمُ أنكم لا تُؤمِنُون وَقْت مَجِيئها؛ لأنكم مَطْبُوع على قُلُوبكُم.
وأمَّا على قِراءة الغَيْبَة، فتكون الهَمْزَة معها مكْسُورة؛ وهي قراءة ابْن كَثِير، وأبِي عَمْرو، وأبِي بَكْر عن عَاصِم، ومَفْتوحة؛ وهي قرءاة نافِع، والكسَائي، وحَفْص عن عَاصِم.
فعلى قِرَاءة ابْن كَثِير ومَنْ مَعَه يكون الخِطَاب في: "وما يُشْعِرُكُم" جائزاً فيه وجهان:
أحدهما: أنَّه خِطَاب للمُؤمِنين، أي: "وما يُشْعِركُم أيُّها المُؤمِنُون إيمانَهُم" ثم اسْتَأنَف إخْباراً عنهم بأنَّهم لا يُؤمِنُون، فلا تَطْمَعُوا في إيمانهم.
الثاني: أنه للكُفَّار، أي: "وما يُشْعِرُكم أيُّها المُشْرِكون مَا يَكون مِنْكم" ثم اسْتَأنف إخْبَاراً عَنْهم بِعَدَم الإيمَان؛ لعلمه السَّابق فيهم وعلى هَذَا فِفِي الكلام التِفَاتٌ من خِطَاب إلى غَيْبَة.
وعلى قرءاة نَافِع يكون الخِطَاب للكُفَّار، وتكون "أنَّ" بِمَعْنَى: "لعلَّ" كذا قاله أبو شَامَة، وغيره.
وقال أبُو حيَّان في هَذهِ القراءة: "الظَّاهر أن الخِطَاب للمُؤمنين، والمَعْنَى: "وما يُدْرِيكم أيُّهَا المُؤمِنُون، أنَّ الآية الَّتِي تَقْتَرِحُونها إذا جاءت لا يُؤمِنَون" يعني: أنا أعْلَم أنَّها إذَا جَاءَت لا يُؤمِنُون بِهَا" ثم سَاق كلام الزَّمَخْشَري بِعَيْنِه الَّذي قدَّمت ذكره عَنْه في الوَجْه الخَامِس قال: "ويبْعدُ جداً أن يكون الخِطَاب في "وَمَا يُشْعِرُكُم" للكُفَّار".
قال شهاب الدِّين: إنَّما اسْتَبْعَدَه؛ لأنَّه لم ير في "أنَّ" هَذِه أنَّها بِمَعْنَى: "لَعَل" كما حَكيْته عَنه.
وقد جَعَل أبُو حيَّان في مَجْمُوع "أنَّها إذا جاءت لا يؤمِنُون" بالنِّسْبَة إلى كَسْر الهمزة وفَتْحِها، والخِطَاب والغَيْبة أرْبع قِرَاءَات، قال: وقرأ ابْن كثير، وأبو عَمْرو، والعُلَيْمِي، والأعْشَى عن أبي بكر.
وقال ابن عَطِيَّة: ابن كَثير، وأبو عمرو، وعَاصِم في رواية داود الأودي: إنَّها بكَسْر الهَمْزة، وقرأ بَاقِي السَّبْعة: بفتحها، وقرأ ابْن عَامِر وحَمْزة: "لا تُؤمِنُون" بتاء الخِطَاب، والبَاقُون بياء الغَيْبَة؛ فترتب أرْبَع قِرَاءات: الأولَى:كَسْرُ الهَمْزَة واليَاءِ، وهي قِرَاءة ابْن كَثِير، وأبي عَمْرو، وأبِي بَكْر بخلاف عَنْه في كَسْر الهَمْزَة ثم قال: القِرَاءة الثَّانية: كَسْر الهَمْزَة والتَّاء وهي رِوَاية العُلَيمِي والأعْشَى عن أبي بَكْرٍ عن عَاصِم، والمُنَاسب: أن يكون الخِطَاب للكُفَّار في هذه القِرَاءة، وكأنَّه قيل: "وما يُدْرِيكُم أيُّهَا الكُفَّار وما يَكُون مِنْكُم"؟ ثم أخْبَرَهُم على جِهَة الجَزَم، أنَّهم لا يُؤمِنُون على تقدير مَجِيئها، ويَبْعُد جداً أن يكون الخِطَاب في: "وما يُشْعِرُكُم" للمُؤمنين، وفي "تُؤمِنُون" للكُفَّار، ثم ذكر القِرَاءة الثُّالِثة، والرَّابعة، ووجَّههُما بنحو ما نقلته عنه النَّاس، وفي إثباته القراءة الثَّانية نظر لا يَخْفَى؛ وذلك أنَّه لما حَكَى قِرَاءة الخِطَاب في "تُؤمِنُون" لم يَحْكِها إلا عن حَمْزَة، وابن عَامِر فقط، ولم يَدْخل مَعَهُمَا أبُو بكر لا من طريق العُلَيْمِي، والأعْشى ولا من طَريق غَيْرهما، والفَرْض: أن حَمْزة وابنَ عَامِر يَفْتَحان هَمْزة "أنَّها" وأبُو بكر يَكْسِرُها ويَفْتَحُها ولَكِنَّه لا يَقْرأ: "يُؤمِنُون" إلاَّ بِيَاء الغَيْبَة، فمن أيْن تجيء لَنا قِرَاءةٌ بكَسْر الهَمْزة، والخطاب؟ وإنما أتَيْتُ بكلامه برُمَّتِه؛ ليُعْرَف المأخذ عليه ثم إني جوَّزْتُ أنْ تكون هذه رِوايةً رَوَاها، فكشفتُ كِتَابَه في القِرَاءاتِ، وكان قد أفْردَ فيه فَصْلاً انْفَرد به العُلَيْمِي في رِوَايته، فلم يَذْكُر أنه قرأ: "تُؤمنُون" بالخِطاب ألبَتَّةَ، ثم كَشَفْتُ كتبا في القِرَاءات عَدِيدة، فلم أرهم ذ‍َكَرُوا ذلك، فَعَرفْت أنَّه لما رأى لِلْهَمْزة حالَتَيْنِ، ولحرف المُضارعة في "يؤمنُون" حالتَيْن, ضرب اثْنَيْن في اثْنَيْن فجاء من ذَلِك أربع قِراءات, ولكن إحْدَاها مُهْمَلة، وقوله: "لا يؤمنون" متعلَّقه مَحْذُوف؛ للعِلْم به، أي: "لا يُؤمِنُون بها".
قوله: "ونُقَلِّبُ" في هذه الجُمْلَة وجهان:
أحدهما: - ولم يقل الزَّمَخْشَري غيره - أنَّها وما عُطِف علَيْها من قوله: "ويذَرُهُم" عطف على "يُؤمِنُون" داخل في حُكْم "ومَا يُشْعِرُكُم"، بمعنى: "وما يُشْعِرُكُم أنَّهم لا يُؤمِنُون"وما يشعركم أنَّا نُقِلِّب أفْئِدَتَهُم وأبصارهم"، "وما يُشْعِرُكم أنَّا نَذَرُهم" وهذا يُسَاعده ما جَاء في التَّفْسير عن ابْنِ عَبَّاسٍ، ومُجَاهد، وابن زَيْد.
والثاني: أنَّهَا اسِتئْنَاف إخبار, وجعله أبُو حيَّان الظَّاهر، والظَّاهر ما تقدَّم.
و "الأفْئِدة": جمع فُؤاد، وهو القَلْبُ، ويطلق على العَقْل.
وقال الرَّاغب: الفُؤاد كالقَلْبِ، لكن يُقالَ له: فؤاد إذا اعتبر به مَعْنَى: "التُّفَؤد" أي: "التوقُّد" يقال: "فأدْتُ اللَّحم": "شَوَيْتُه" ومنه "لحم فَئِيد" أي: "مَشْويُّ" وظاهر هذا: أنَّ الفُؤاد غير القَلْبِ، ويقال له: "فؤاد" بالواو الصَّريحة، وهي بَدَل من الهَمْزَة؛ لأنَّه تَخْفِيف قِيَاسيّ، وبه يَقْرأ وَرْش فيه وفي نَظَائِره وصلاً وَوَقْفاً، وحَمْزة وقفاً ويُجْمع على: أفْئِدَة، وهو جَمْع مُنْقَاس، نحو: "غُراب"، و"أغْرِبة" ويجُوز "أفْيِدَة" بِيَاء بعد الهَمْزة، وقرأ بِهَا هِشَام في سُورة إبْراهيم، وسَيَأتي إن - شاء الله تعالى -.
فصل في المراد من الآية
قال ابن عبَّاس: يَعْني: ويحُول بينهم وبين الإيمان, فلو جئناهم بالآيات التي سَألوا ما آمَنُوا بِهَا كما لَمْ يُؤمنُوا به أوَّل مَرَّة, [أي: كما لو يُؤمِنُوا بما قَبْلَها من الآيات من انْشِقَاق القمر وغيره.
وقيل: كما لَو يُؤمِنُوا به أوَّل مرة]؛ يعني: مُعْجِزات مُوسَى وغيره من الأنبياء - عليهم الصَّلاة والسَّلام -؛ كقوله تعالى:
{ { أَوَلَمْ يَكْفُرُواْ بِمَآ أُوتِيَ مُوسَىٰ مِن قَبْلُ } [القصص:48].
وقال عَليُّ بن أبي طَلْحَة عن ابن عبَّاس: المرَّة الأولى: دار الدنيا لو رُدُّوا من الآخِرة إلى الدُّنيا نُقَلِّب أفْئِدتَهُم وأبْصَارهم عن الإيمان كَمَا لَمْ يُؤمِنوا في الدُّنْيَا قبل مَمَاتهم؛ كقوله:
{ { وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } [الأنعام:28].
فصل في بيان معنى التقليب
التَّقْلِيب، والقَلْب وَاحِد: وهو تَحْويل الشَّيء عن وَجْهِه، وهذه الآية تَدُلُّ على أنَّ الكُفْر والإيمان بِقَضَاء اللَّه، وقدره، ومَعْنَى تَقْلِيب الأفْئِدَة والأبْصَار: هو أنه إذا جَاءَتْهُم الآيات القَاهِرة الَّتِي أقْتَرحُوها وعرفوا كَيْفيَّة دلالتها على صِدْق الرَّسُول صلى الله عليه وسلم [إلاَّ أنه تعالى] إذا قَلب قُلُوبَهُم وأبْصَارهم على ذلك الوجه، بَقوْا على الكُفْر ولم يَنْتَفِعُوا بِتِلْك الآيات.
قال الجُبَّائي: مَعْناه: ونُقَلِّب أفْئِدَتَهم وأبْصَارهم في جَهَنَّم، على لَهِيب النَّار وجَمْرِها؛ لنُعَذِّبَهُم كما لم يُؤمِنوا به أوّل مرّة في دَارِ الدُّنْيَا.
وقال الكَعْبِي: المُرَاد بـ { ونُقَلِّبُ أفْئِدَتهم وأبْصَارَهُم }: نفعل بهم كا نَفْعل بالمُؤمنين من الفَوَائِد والألْطَاف، من حَيْث أخرجوا أنْفَسَهم عن هَذَا الحدِّ؛ بسبب كُفْرهم.
وقال القَاضِي: المراد: ونُقَلِّب أفْئِدَتَهُم وأبْصَارهم في الآيات الَّتي ظَهَرت، فلا تَجدَهُم يُؤمِنون بها آخراً كما لم يُؤمِنُوا بِهَا أوّلاً وهذه وُجُوه ضَعِيفة.
أما قََوْل الجُبَّائيّ؛ فمدفوع؛ لأنه - تعالى - قال: { ونُقَلِّب أفْئِدَتَهُم وأبْصَارهم } ثم عَطَفْ عليه، وقال: { ونَذَرُهُم فِي طُغْيَانِهِم يَعْمَهُون } فقوله: { ونَذرُهُم } ليس مما يَحْصُل في الآخِرة، فكان سُوءاً للنَّظْم في كلام اللَّه - تعالى - حيث قدَّم المُؤخَّر، وأخَّر المُقدم من غير فَائِدة.
وأما قَوْل الكَعْبِي؛ فَضَعِيف؛ لأنه إنما استحق الحِرْمان والخذْلان على زَعْمه؛ بسبب أنَّهم قَلَّبُوا أفئدة أنفسهم فكيف يحسن إضافته إلى الله تعالى في قوله: { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ } أي: نقلب القَلْب من حالةٍ إلى حالة, ومن صِفَة إلى صِفَة وعلى ما يَقُوله القَاضِي فَلَيْس الأمْرَ كَذَلِك, بل القَلْب باقٍ على حالةٍ واحِدَة إلاَّ أنَّه - تعالى - أدخل التَّقْلِيب والتَّبدِيل في الدَّلائل.
فصل
إنما قدَّم اللَّه - تعالى - ذكر تَقْليب الأفْئِدَة على تَقْليب الأبْصَار؛ لأن مَوْضع الدَّوَاعِي والصَّوَارِف هُوَ القَلْب [فإذا حَصَلَت الدَّاعية في القَلْب, انْصَرَفَ البَصَر إليه شَاءَ أمْ أبَى، وإذا حَصَلَت الصَّوارف في القَلْب] انصرف البَصَر عَنْه هو، وإن كَانَ يُبْصِرُه بحسب الظاهر إلاَّ أنه لا يَصِير ذلك الإبْصَار سَبَباً للُوقُوف على الفَوَائِد المَطْلُوبة وهو مَعْنَى قوله:
{ { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِيۤ آذَانِهِمْ وَقْراً } [الأنعام:25]، فملا كان المَعْدن هو القَلْب، وأما السَّمع والبَصَر؛ فهما آلتان لِلْقَلْب كانا لا مَحَالة تَابِعَيْن لأحوال القَلْب، فلهذا السَّبَب وقع الابتداء بذِكر تَقَلُّب القُلُوب ههنا، ثم أتْبَعَهُ بذكر السَّمْع.
قوله: { كَمَا لَمْ يُؤمِنُوا بِهِ } الكافُ في محلِّ نَصبٍ، نَعْتاً لِمَصْدر مَحْذُوف و "ما" مَصْدريَّة, والتقدير كما قال أبو البقاء: تَقْلِيباً كَكُفرِهِم عُقُوبةً مُسَاوية لِمَعْصِيتِهِم, وقدَّره الحُوفِيُّ: فلا يُؤمِنون به إيماناً ثانياً, كما لَمْ يُؤمِنُوا به أوّلأ مرة [وقيل: الكاف هُنَا للتَعْلِيل، أي: "نقلب أفْئِدَتَهم وأبْصَارهم؛ لعدم إيمانِهِم أوّل مرة".
وقيل: في الكلام حَذْفٌ تقديره: "فلا يؤمنون به ثاني مَرَّة كَمَا لَم يُؤمِنوا به أو‍ّل مرَّة]
وقال بَعْضُ المفسِّرين: الكافُ هُنَا مَعْنَاها: المُجَازَاة، أي: "لمَّا لم يُؤمِنُوا به أوّل مرَّة، نُجازيهم بأن نُقَلِّب أفْئِدتَهُم عن الهُدَى، ونَطْبَع على قُلُوبهم"، فكأنَّه قيل: ونحن نَقَلِّب أفْئدتَهُم؛ جَزَاءً لما لم يُؤمِنُوا به أوّل مرَّة، قاله ابن عطية قال أبو حيان وهُو مَعْنَى التَّعْلِيل الذي كرناه، إلا أن تسْمِيتَه ذلك بالمُجازاة غَريبَة لا تُعْهدُ في كلام النَّحْويِّين.
قال شهاب الدِّين: قد سُبِقَ ابن عطيَّة إلى هذه العبارة.
قال الواحدي: وقال بَعْضُهم: معنى الكَافِ في "كَمَا لَمْ يُؤمِنوا": معنى الجَزَاء، ومَعْنَى الآية: ونُقَلِّبُ أفْئِدَتَهُم وأبْصَارهم، عُقُوبة لَهُم على تَركْ الإيمان في المرَّة الأولَى، والهَاء في "به" تعود على الله - تعالى -، أو على رسُوله، أو على القُرآن، أو على القَلْب المَدْلُول عليه بالفِعْل، وهو أبْعَدُهَا، و "أوّل مَرَّة": نَصب على ظَرْف الزَّمان، وقد تقدم تَحْقِيقُه.
وقرأ إبْرَاهيم النَّخْعي: "ويُقَلِّب - ويَذ‍َرُهم -" بالياء، والفَاعِل ضمير البَاري - تعالى -.
وقرأ الأعْمَش: "تُقَلَّبُ أفْئِدتهم وأبْصَارهم"على البِنَاء للمَفْعُول، ورُفِع ما بعده على قِيَامه مقام الفاعل، كذا رَوَاهَا الزَّمَخْشَري عنه، والمشْهُور بهذه القِرَاءة، إنَّما هو النَّخْعِيّ أيضا، ورُوِي عَنْه: "ويَذَرْهُم" بياء الغيبة كما تقدَّم وسُكُون الرَّاء، وخرَّج أبُو البَقَاء هذا التَّسْكِين على وجْهَين:
أحدهما: التَّسْكين لِتَوَالِي الحَرَكَات.
والثاني: أنه مَجْزُوم عَطْفاً على "يُؤمِنُوا "والمَعْنَى: جَزَاءً على كُفْرهم، وأنَّه لم يَذَرْهُم في طُغْيَانهم، بل بيَّن لهم، وهذا الثُّانِي ليس بَظَاهر، و "يَعْمَهُون" في محلِّ حال، أو مَفْعُول ثانٍ، لأن التَّرْك بِمَعْنَى: التَّصْيِير.
فصل في معنى الآية
قال عَطَاء: المَعْنَى: أخْذُلُهُم، وأدْعُهم في ضَلالِتِهم يتمادون.
قال الجُبَّائي: المَعْنَى: ونذرهم، أي: لا نَحُول بَيْنَهم وبين اخْتِيَارِهم من ذَلِك لكن نمنعم من ذلك بِمُعَاجَلة الهلاك وغيره، لكنَّا نُمْهِلهم إنْ أقاَموا على طُغْيَانهم، فذلك مِن قِبَلهم وهُو يُوجِب تأكيد الحُجَّة عَلَيْهم.
وقال أهل السُّنَّة: نقلِّب أفْئِدتَهُم من الحقِّ إلى البَاطِل، ونتركهم في ذلك الطُّغْيَان، وفي ذَلِكَ الضَّلال والعَمَه.
ويُقال للجُبَّائي: إنَّك تقول: إن إله العالم ما أرَاد بعباده إلاَّ الخَيْر والرَّحمة، فلم تُرك هذا المِسْكِين حتى عَمِه في طُغْيَانه؟ ولم لا يخلصه عَنْه على سَبِيل الإلْجَاء والقَهْر؟ أقْصَى مَا فِي البابِ؛ أنه إن فَعل به ذلِك لَمْ يكن مُسْتَحِقاً إلى الثَّواب، فيفُوتُه الاسْتِحْقَاق فقط، وقد يَسْلَم من العِقَاب، أمَّا إذا تَرَكَهُ في ذلك العَمَه مع عِلْمه بأنه يَمُوت عَلَيْه، فإنه لا يَحْصُل له اسْتِحْقاق الثَّواب، ويحصل له العِقَاب العَظيم الدَّائم، فالمفْسَدة الحَاصلة عن خَلْق الإيمان فيه على سَبيل الإلْجَاء، مَفْسَدة وَاحِدَة؛ وهِيَ فوات اسْتِحْقَاق الثَّواب مع حُصُول العِقَاب الشَّديد، والرَّحِيم المُحْسِن النَّاظر إلى عباده، لا بُدَّ وأن يُرَجَّح الجَانِب الَّذِي هو أكْثَر إصْلاحاً، وأقَل فَسَاداً، فَعَلِمْنَا أنَّ إبْقَاء ذكل الكَافِر في ذلك العَمَه والطُّغْيَان، يَقْدح في أنَّه لا يريد به إلاّ‍َ الخير والإحسان.