التفاسير

< >
عرض

قُل لِّمَن مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ قُل للَّهِ كَتَبَ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَٰمَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
١٢
-الأنعام

اللباب في علوم الكتاب

"لِمَنْ" خَبَرٌ مقدَّمٌ واجبُ التقديم، لاشْتِمَالهِ على مَا لهُ صَدْرُ الكلام، فإنَّ "مَنْ" استفهامية [والمبتدأ "ما" وهي بمعنى "الذي"]، والمعنى: لمن اسْتَقَرَّ الذي في السموات.
وقوله: "قُلْ للَّهِ" قيل: إنَّمَا أمَرَه أن يجيب، وإن كان المقصود أن يُجِيبَ غيره؛ ليكون أوَّل من بَادَرَ بالاعتراف بذلك.
وقيل: لمَّا سََألَهُمْ كأنَّهم قالوا: لمن هو؟ فقال اللَّهُ: قُلْ للَّهِ، ذكره الجُرْجَانِيُّ فعلى هذا قوله: "قُلْ للَّه" جوابٌ للسؤال المُضْمَرِ الصَّادِرِ من جهة الكُفَّارِ، وهذا بَعِيدٌ؛ لأنهم لم يكونوا يَشكُّون في أنَّهُ للَّهِ، وإنما هذا سؤالُ تَبْكِيتٍ وتَوبِيخٍ، ولو أجابو الم يَسَعْهُمْ أن يُجيبوا إلاَّ بذلك.
وقال ابن الخَطيبِ: إنَّ اللَّهَ - تبارك وتعالى - أمَرَهُ بالسُّؤالِ أوَّلاً، ثمَّ بالجواب ثانياً، وهذا إنَّما يَحْسُنُ في المَوْضِعِ الذي يكونُ جوابُهُ قد بَلَغَ في الظهور إلى حيث لا يقدر على إنكاره مُنْكِرٌ، ولمَّا كانت آثار الحدوث والإمْكان ظاهرة في ذَوَاتِ جميع الأجْسَامِ، وفي جميع صفاتها، لا جَرَمَ كان الاعْتِرَافُ بأنها بأسرها للَّه تعالى، ومِلْكٌ له، ومَحَلُّ تَصَرُّفِهِ وقُدرَتِهِ، لا جَرَمَ أمره بالسُّؤالِ أوّلاً، ثم بالجواب ثانياً لِيَدُلَّ ذلك على الإقْرَارَ بهذا المعنى ممَّا لا سبيل إلى دفعه ألْبَتَّةَ، كما قال تعالى:
{ { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ } [لقمان:25] وقوله: "اللَّه" خبر مبتدأ محذوف أي: هو اللَّهُ.
فصل في المراد بالآية
والمقصودُ من هذه الآية الكريمة تَقْرِيرُ إثْبَاتِ الصَّانع، وتقرير المعاد، وتقرير النُّبُوَّةِ، أما تقدير إثبات الصَّانِع، فلأن أحوال العالم العُلْوِيّ والسُّفْلي تدلُّ على أنَّ جميع هذه الأجْسَام موصوفةٌ بصفات كان يجوز عليها اتَّصَافُها بأضْدَادِهَا، وإذا كان كذلك كان اخْتِصَاصُ كُلِّ جُزْءٍِ منها بصفة مُعَيَّنَةٍ لا بُدَّ وأن يكون لأجل أنَّ الصانعَ الحكيم القَادِرَ المُخْتَارَ خَصَّهُ بتلك الصِّفَةِ المعينة، وهذا يَدُلُّ على أن العَالَم مع كل ما فيه مَمْلُوكٌ للَّهِ تعالى، وإذا ثَبَتَ هذا ثَبَتَ كَوْنُهُ قَادٍراً على الإعَادَةِ والحَشْرِ والنَّشْرِ؛ لأن التركيب الأوَّل إنما حَصَلَ لكونه - تبارك تعالى - قادراً على كل المُمكِنَاتِ، عالماً بكل المَعْلُومَاتِ، وهذه القُدْرَةُ والعلم ممتنعٌ زَوَالُهُمَا، فوجب صِحَّةُ الإعادة ثانياً.
وإذا ثبت أنه - تعالى - مَلِكٌ مُطَاع، والمَلِكُ المُطاع مَنْ لَهُ الأمْرُ والنهي على عَبِيدهِ، لا بُدَّ من مُبَلِّغ، وذلك يَدُلُّ على أن بعْثَةَ الأنبياء والرُّسُلِ عليهم الصّلاة والسَّلام من اللَّهِ إلى الخَلْقِ غير ممتنعٍ، فدَلَّت هذه الآية الكريمة على هذه المطالب الثلاثة، ولما سَبَقَ ذِكْرُ هذه المَسَائِلِ الثلاثةً ذكر اللَّهُ - تبارك وتعالى - بعدها هذه الآية لتكون مَقْرُونةً بمجموع تِلْكِ المَطَالِبِ.
قوله: "كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ" أي: قَضَى وأوْجَبَ إيجَابَ تَفَضُّلٍ، لا أنّه مستحقٌّ عليه تعالى.
وقيل: معناه القَسَمُ، وعلى هذا فقوله: "لَيَجْمَعَنَّكُمْ" جوابه؛ لما تضمَّن من معنى القَسَمِ، وعلى هذا فلا توقُّف على قوله: "الرَّحْمَة".
وقال الزجاج: إن الجملة في قوله: ليجمعنَّكم" في محل نصب على أنها بَدَلٌ من الرحمةِ؛ لأنه فسَّرَ قوله تعالى: "ليجمعنَّكم" بأنه أمْهَلَكم وأمَدَّ لكم في العُمْرِ والرِّزْقِ مع كُفْركم، فهو تفسيرٌ للرحمة.
وقد ذكر الفَرَّاء هذين الوجهين: أعني أن الجملة تَمَّتْ عن قوله تعالى: "الرَّحْمَة"، أو أنَّ "ليجمعنَّكُمْ" بَدَلٌ منها، فقال: إن شئت جعلت الرَّحْمَةَ غَايَة الكلام، ثمَّ اسْتَأنَفْتَ بعدها "لَيَجْمَعَنَّكُمْ" وإن شئت جَعَلْتَهَا في موضع نصبٍ كما قال:
{ { كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ } [الأنعام: 54] قال شهابُ الدين -رحمه الله -: واسْتِشْهَادَهُ بهذه الآية الكريمة حَسَنٌ جداً.
ورَدَّ ابن عطيَّة هذا بأنه يَلْزَمُ دخول نون التوكيد [في الإيجاب قال: وإنما تدخل على الأمْرِ والنهي، وجواب القَسَمِ، ورد أبو حيان حصر ابن عطيَّة ورود نون التوكيد] فيما ذكر وهو صحيحٌ، وردَّ كون "ليجمعنَّكم" بدلاً من الرحمة بِوَجْهٍ آخر، وهو أنَّ "ليجمعنكم" جوابُ قَسَم، وجملةُ الجوابِ وَحْدَهَا لا موضوع لها من الإعراب، إنما يُحْكمُ على مَوْضع جملتي القَّسِمِ والجواب بمحلِّ الإعراب.
قال شهابُ الدين: وقد خلط مَكِّي المَذْهَبَيْنِ، وجعلهما مذهباً واحداً، فقال: "لَيَجْمَعنَّكُمْ" في موضع نصبٍ على البَدَلِ من "الرحمة" واللام لام القَسَمِ، فهي جواب "كَتَبَ"؛ أنه بمعنى: أوْجَبَ ذلك على نَفْسِهِ، ففيه معنى القَسَمِ، وقد يظهر جوابٌ عما أوْرَدَهُ أبُو حيَّانَ على غير مكي، وذلك أنهم جَعَلُوا "لَيَجْمَعَنَّكُم" بَدَلاً من الرَّحْمَةِ - يعني: هي وقَسِيمها المحذوف، واستغنوا عن ذكر القَسَمِ، لا سيما وهو غير مذكور.
وأمَّا مكِّي فلا يظهر هذا جواباً له، لأنَّه نَصَّ على أنَّهُ جواب لـ "كتب"، فمن حَيْثُ جَعَله جَوَاباً لـ "كَتَبَ" لا مَحَلَّ له، ومن حَيْثُ جعله بَدَلاً كان مَحَلُّه النَّصْبَ، فَتَنَافَيَا، والذي ينبغي في هذه الآيةِ الكريمةِ أنْ يكون الوَقْفُ عند قوله: "الرحمة".
وقوله: "ليجمعنَّكم" جوابُ قَسَم محذوف أي: "واللَّهِ ليجعنَّكُم"، والجملة القَسَمِيَّةُ لا مَحَلَّ لها بما قبلها من حَيْثُ الإعْرَاب، وإنْ تعلَّقت به من حَيْثُ المعنى.
و"إلى" على بابها، أي: ليجمعنَّكم منتهين إلى يوم القيامة.
وقيل: هي بمعنى "اللاَّم" كقوله تعالى:
{ { إِنَّكَ جَامِعُ ٱلنَّاسِ لِيَوْمٍ } [آل عمران: 9] وقيل: بمعنى "في" أي: لَيَجْمَعنَّكُمْ في يوم القيامة.
وقيل: هي زائدة، أي: ليجمعنكم يوم القيامة، وقد يشهد له قراءة من قرأ
{ { تَهْوىۤ إِلَيْهِمْ } [إبراهيم:37] بفتح "الواو" إلاَّ أنه لا ضرورةَ هنا إلى ذلك.
وتقدَّمَ الكلامُ في
{ { لاَ رَيْبَ فِيهِ } في أول "البقرة" [البقرة:2] والجملة حالٌ من "يوم" والضمير في "فيه" يَعُودُ على "اليوم".
وقيل: يَعُودُ على الجَمْعِ المدلول عليه بالفِعْلِ؛ لأنه رَدٌّ على منكري القيامة.
فصل في الكلام على الآية
قال بعضهم: هذا كلامُ مبتدأ لا تَعَلُّق له بما قبله، فيه تصريح بكمال إلهيته سبحانه تعالى بقوله: { قُل لِّمَن مَّا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ قُل للَّهِ } ثم بَيَّن - تبارك وتعالى - أنه يرحمهم بالإمْهَالِ، ورفع عذاب الاستئصال، وبيَّنَ أنَّهُ يجمعهم إلى يوم القَيَامَةِ.
فقوله: { كَتَبَ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَة }، أي: يمهلمهم.
وقوله:{ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَة } أنَّهُ لا يمهلهم بل يحشرهم ويُحَاسِبُهم بِكُلِّ ما فعلوا.
وقال آخرون: إنه متعلّق [بما قبله]، والتقدير: "كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحَمْةَ ليجمعنَّكم إلى يوم القيامة".
وقيل: إنه لمَّا قال: كتب ربكم على نفسه الرحمة، فكأنه قيل: وما تلك الرحمة؟ فقيل: إنَّهُ تبارك وتعالى "ليجمعنكم" [إلى يوم القيامة" وذلك لأنَّهُ لولا خَوْفُ العذاب لحصل الهَرَجُ والمَرَجُ فصار يوم القيامة من أعظم أسْبَابِ الرحمة، فكان قوله: { لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَة }]. كالتفسير لقوله:
{ { كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ } }. [الأنعام:54].
فصل في المراد بهذه الآية
اختلفوا في المُرادِ بهذه الرَّحْمَةِ، فقيل: إنَّهُ - [تبارك وتعالى] - يُمْهِلهُمْ مُدَّةَ عُمْرِهِمْ، ويدفعُ عنهم عَذَابَ الاسْتِئْصَالِ، ولا يعاجلهم بالعُقُوبَةِ [ في الدنيا].
وقيل: المُرَادُ "كَتَبَ عَلَى نَفْسه الرَّحْمَةَ" لمن ترك التَّكْذِيِبَ بالرُّسُلِ، وقبل شريعتهم وتاب.
فصل في الإخبار عن سعةرحمه الله
ورى أبو هرير - رضي الله عنه - قال: قال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:
"لَمَّا قَضَى اللَّهُ الخَلْقَ كَتَبَ كِتَاباً فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ العَرْشِ إنَّ رَحْمَتِي غَلَبَتْ غَضَبِي" .
وروى أبو الزّنَادِ،ـ عن الأعْرَجِ، عن أبي هريرة: "إنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبي".
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:
"إنَّ للِّهِ مِائَة رَحْمةٍ وَاحِدةٌ منها بَيْنَ الجِنِّ والإنْس والبَهَائِم والطير والهَوَامِّ فِيْهَا يتعاطفون وبها يَتَراحَمُونَ، وبِهَا تَعْطِفُ الوُحُوشُ عَلَى أوْلادِهَا وأخَّر تِسْعاً وتسعين رَحْمَةً يَرْحَمُ بِهاَ عِبَادهُ يَوْمَ القِيَامَةِ" .
وعن عمر بن الخَطَّابِ - رضي الله عنه - قال: "قَدِمَ على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم صَبِيُّ، فإذا امرأةٌ من السَّبْي قَدْ تَحْلِبُ ثَدْيَهَا لِسَقْي إذ وَجَدَتْ صبياً في السَّبْي، فأخَذَتْهُ فألصَقَتْهُ بِبطْنِهَا وَأرْضَعتْهُ فَقَال لَنَا رَسُولُ اللِّهِ - صلى الله عليه وسلم: أتَرَونَ هَذِهِ طَارحَةً وَلَدهَا في النَّارِ. قُلْنَا: لا وهِي تَقْدِرُ عَلَى أنْ تَطْرَحَهُ، فقالَ: لَلَّهُ أرْحَمُ بِعِباَدِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلدهَا" .
قوله: "الَّذِينَ خَسِرُوا" فيه ستَّة أوجه:
أحدها: أنه مَنْصُوبٌ بإضمار "أذُمُّ"، وقَدَّره الزَّمخشري بـ "أريد"، وليس بِظَاهرٍ.
الثاني: أنه مبتدأ أخْبِرَ عنه بقوله: "فهم لا يُؤمِنُون"، وزيدت الفاءُ في خبره لِمَا تَضَمَّنَ من معنى الشَّرْطِ، قاله الزجاج، كأنه قيل: مَنْ يَخْسَرْ نَفْسَهُ فهو لا يومن.
الثالث: أنه مجرور على أنه نَعْتٌ للمكذِّبين.
الرابع: أنه بَدَلٌ منهم، وهذان الوَجْهَانِ بعيدان.
الخامس: أنه مَنْصُوبٌ على البَدَلِ من ضمير المُخَاطب، [وهذا] قد عرفت ما فيه غير مَرَّةٍ، وهو أنه يُبْدَل من ضمير الحَاضِر بَدَل كُلٍّ من كل في غير إحاطة ولا شمول أم لا؟
ومذهبُ الأخفشِ جوازه، وقد تقدَّم دَلِيلُ الفَريقَيْنِ، وردَّ المبردُ عليه مَذْهَبَهُ، بأنَّ البَدَلَ من ضمير الخطابِ لا يجوز، كما لا يجوز: "مررتُ بَكَ زيد" وهذا عجيب؛ أنه اسْتِشْهَادٌ بمحلِّ النزاع، وهو "مَرَرْتُ بك زيدٍ"، وردَّ ابن عطيَّة -رحمه الله تعالى - ردَّه فقال: "ما في الآية مُخَالِفُ للمثال؛ لأنَّ الفائدة في البدل مُتَرتِّبَةٌ من الثاني، فأمَّا في "مررتُ بك زيدٍ" فلا فائدة في الثاني.
وقوله: "لِيَجمَعَنَّكُمْ" يَصْلُحُ لِمُخَاطَبةِ النَّاس كافَّةً، فيفيدنُا إبدال "الَّذينَ" من الضمير أنهم هم المختصُّون بالخِطَابِ، وخُصُّوا على جهة الوَعيدِ، ويجيءُ هذا إبْدال البعضِ من الكُلِّ".
قال أبو حيَّان: "هذا الرَّدُ ليس بِجَيِّدٍ؛ لأنه إذا جعلنا "لِيَجْمَعَنَّكُم" صالحاً لخِطَابِ جميع النَّاس كان "الَّذين" بَدَلَ بعض، ويحتاج إذ ذاك إلى ضميرٍ، تقديره: خَسِرُوا أنْفُسَهُمْ فِيْهُمْ وقوله: "فيفيدنا إبْدَال الذين من الضمير أنهم هم المُخْتَصُّون بالخَطَابِ، وخُصُّوا على جِهَةِ الوعيدِ" وهذا يقتضي أن يكون بدل كلّ من كلّ، فتناقَضَ أوَّل كلامه مع آخره؛ لأنه من حَيْثُ الصَّلاحِيّةُ بدل بعض، ومن حيث اخْتِصاص الخِطَابِ بهم يكون بدلَ كُلّ، فَتَنَاقَضَا".
قال شهابُ الدِّينِ: ما أبْعَدَهُ عن التَّنَاقُضِ، لأن بدل البعض من الكُلِّ من جملةِ المخصِّصَات، كالتخصيص بالصِّفةِ والغاية والشرط، نصَّ العلماء- رضي الله عنهم - على ذلك فإذا تقرَّرَ هذا، فالمُبْدَلُ منه بالنسبة إلى اللَّفظِ في الظاهرِ عامُّ، وفي المعنى ليس المُرَادُ به إلاَّ ما أرَادَهُ المتكلِّم، فإذا وردَ: "واقتلوا المُشركين بني فلان" مثلاً، فالمشركون صالحٌ لكُلِّ مُشْرِكٍ من حيثُ اللَّفظِ، ولكنَّ المُرادَ به بَنُو فلان، فالعموم في اللفظ والخُصُوص في المعنى، فكذا قَوْلُ أبي مُحَمَّدٍ يَصْلُح لمُخَاطَبةِ الناس، معناه أنه يَعُمُّهُمْ لَفْظاً.
وقوله "فيفيدنا إبدال الضمير إلى آخره" هذا هو المُخَصِّص فلا يجيء تناقُضٌ ألْبَتَّة، وهذا مقرر في "أصول الفقه".
السادس: أنه مَرْفُوعٌ على الذَّمِّ، قاله الزَّمخشري، وعبارته فيه وفي الوجه الأول: "نَصْبٌ على الذم أو رَفْعٌ، أي: أريد الذين خَسِرُوا أنفسهم، أو أنتم الذين خَسِرُوا أنفسهم" انتهى.
قال شهابُ الدين-رحمه الله تعالى-: "إنما قَدَّر المبتد "أنتم" ليرتبط مع قوله: "ليجمعنَّكم"، وقوله: "خسروا أنفسهم" من مُراعاةِ الموصول، ولو قال: "أنتم الَّذين خسروا أنفسكم" مُراعَاةً للخطابِ لجَازَ، تقول: أنت الذي قَعَدَ وإن شئت: قَعَدْت".
فإن قيل: ظَاهِرُ اللَّفظِ يَدُلُّ على أنّ خُسْرَانهم سبب لعدم إيمانهم، والأمر على العكس؟
فالجواب: أنَّ هذا يَدُلُّ على أن سَبْقَ القضاء بالخُسْرَانِ والخِذْلانِ هو الذي حملهم على الامْتِنَاعِ من الإيمان، وهو مذهب أهْلِ السُّنَّة.