التفاسير

< >
عرض

قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ ٱلْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ ذٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
١٥١
-الأنعام

اللباب في علوم الكتاب

لما بيَّن - تبارك وتعالى - فَسَادَ قَوْل الكُفَّار: "إنَّ الله حرَّم علينا كَذَا وكَذَا" أردَفَه بِبَيَان الأشْيَاءِ التي حرَّمها عليهم.
قال الزَّمَخْشَرِي: "تعال" من الخَاصِّ الذي صار عَامّاً، وأصله أن يقوله من كان في مكانٍ عال لِمَن هو أسْفل منه، ثم كَثُر وَعمَّ.
قال القرطبي: "وقوله تعالى: { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ } أي: تقدَّمُوا واقْرَءُوا حقّاً يقيناً؛ كما أوْحَى إليَّ رَبِّي، لا ظنّاً ولا كَذِباً كما زعمتم، ثم بيَّن بعد ذلك فقال: { أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً }، يقال للرِّجُل: تعال: أي: تقدّم: ويقال للمرأة: تعالي، ويقال للاثْنَتَيْن والاثْنَيْن: تَعَالَيَا، ولجماعة الرِّجَال: تعالَوْا, ولجماعة النِّسَاء: تَعَالَيْن؛ قال الله - تبارك وتعالى -:
{ { فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً } [الأحزاب:28].
وجعلوا التَّقَدُّم ضرباً من التَّعَاليِ والارتفاع؛ لأنَّ المأمُور بالتقدّم في أصْل وضْعِ هذا الفِعْل، كأنه كان قَاعِداً فقيل له تَعَالَ، أي: ارفع شخْصَك بالقِيَام وتقدم؛ ثم اتَّسَعُوا فيه حتى جَعَلُوه للوَاقِفِ والمَاشِي؛ قال الشَّجَريّ.
قوله: { أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } في ["ما"] هذه ثلاثة أوجُه:
أظهرها: أنها مَوْصُولةٌ بمعنى "الَّذِي" والعَائِد مَحْذُوفٌ، أي: الذي حَرَّمَه، والموْصُول في محلِّ نصْبٍ مَفْعُولاً به.
الثاني: أن تكون مَصْدَريَّة، أي: أتْل تَحْريم ربِّكُم، ونفس التَّحْرِيم لا يُتْلَى، وإنما هو مَصْدرٌ واقعٌ موقع المَفْعُول به، أي: أتلُ مُحَرَّمَ ربِّكم الذي حرَّمه هو.
والثالث: أنها استِفْهَاميَّة، في محلِّ نَصْبٍ بـ "حَرَّم" بعدها، وهي مُعَلقة لـ "أتْلُ" والتَّقْدير: أتْل أيَّ شَيْءٍ حَرّم ربكم، وهذا ضعيف؛ لأنَّه لا تُعَلَّقُ إلاَّ أفْعَال القُلُوب وما حُمِل عليها.
فصل
قال القرطبي: هذه الآية أمْرٌ من الله - تعالى - لنبِيِّه - عليه السلام - بأن يَدْعُوَ جميع الخَلْقِ إلى سَمَاعِ تِلاوَة ما حرَّم الله - تبارك وتعالى -, وهكذا يَجِب على من بَعْدَه من العُلَمَاء أن يبَلِّغُوا النَّاس، ويُبَيِّنُوا لهم ما حُرِّمَ عليهم مما أحِلَّ؛ قال - تعالى -:
{ { لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ } [آل عمران:187].
قال الر‍َّبيع بين خيثم لجَلِيس له: "أيَسُرُّك أن تَقْرَأ في صَحِيفَةٍ من النَّبِي صلى الله عليه وسلم لم يُفَكَّ كِتَابُها؟ قال: نعم، قال: فاقْرَءُوا: { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ } إلى آخر الثَّلاث آيَاتٍ".
قال كعبُ الأحْبَار: وهذه السُّورة مفتتح التَّوْرَاةِ: بسم اللَّه الرَّحْمَن الرَّحِيم: { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } الآية الكريمة.
وقال ابن عبَّاس - رضي الله عنهما -: هذه الآيَاتُ المُحْكَمَاتُ التي ذكرها الله - تعالى - في سُورة "آل عمران" أجمعت عليها شرائِعُ الخَلْق، ولم تُنْسَخ قط في مِلَّةٍ، وقد قيل: إنَّها العَشْر كلمات المُنَزَّلة على مُوسَى - عليه الصلاة والسلام -.
و "عليكم" فيه وجهان:
أحدهما: أنه مُتَعَلِّق بـ "حَرَّم"؛ اخْتِيَار البَصْرِيِّين.
والثاني: أنه متعلِّق بـ "أتْلُ"؛ وهو اختيار الكُوفيِّين، يعني: أن المسألة من باب الإعْمَال، وقد عَرَفْت ان اختيار البَصْريِّين إعمال الثَّاني واختيار الكوفيين إعْمَال الأوَّل.
قوله: "ألاَّ تُشْركُوا" فيه أوجُه:
أحدها: أنَّ "أنْ" تفسيرية؛ لأنَّه تَقَدَّمَها مَا هُو بمعنى القَوْل لا حُرُوفه، و "لا" هي نَاهِيَة، و "تُشْركُوا" مجزوم بها، وهذا وَجْهٌ ظاهرٌ، وهو اختيار الفراء قال: "ويجُوزُ أن يكون مَجْزوماً بـ "لاَ" على النَّهْي؛ كقولك: "أمَرْتُك ألا تذْهب إلى زَيْد" بالنَّصْب والجزم". ثم قال: والجَزْم في هذه الآية الكريمة أحبُّ إليَّ؛ كقوله - تبارك وتعالى -
{ { فَأَوْفُواْ ٱلْكَيْلَ وَٱلْمِيزَانَ } [الأعراف:85] يعني: عَطْف هذه الجُمْلَة الأمْرِيَّة يُقَوِّي [أنَّ] ما قَبَلَها نَهْي؛ ليتناسَبَ طَرفَاً الكلام.
وهو اخْتِيَار الزَّمَخْشَري أيضاً؛ فإنه قال: "وأنْ في "ألاَّ تُشْرِكُوا" مفسِّرة، و "لا" للنَّهِي" ثم قال بَعْد كلام: "فإن قُلْتَ:إذا جَعَلت "أن" مُفَسِّرة لفعل التِّلاوة، وهو مُعَلَّق بما حَرَّم ربُّكم، وجب أن يكُون ما بَعْدَه مَنْهِيَّا عنه محرّماً كُلُّهُ؛ كالشرك وما بَعْدَه مما دَخَل عليه حَرْف النَّهْي [فما تصنع] بالأوَامِرِ؟".
قال شهاب الدِّين: "لَمَّا وَرَدَت هذه الأوَامِر مع النَّواهي، وتقدمَهُنَّ جميعاً فعل التَّحْريم، واشتركْنَ في الدُّخُول تحت حُكْمه، عُلِم أن التَّحْريم راجعٌ إلى أضْدَادِها، وهي الإسَاءَة إلى الوَالديْن، وبَخْسُ الكَيْل والمِيزَان، وتَرْكُ العَدْل في القَوْل، ونكْثُ العَهْد".
قال أبو حيَّان - رضي الله عنه -: "وكون هذه الأشْيَاء اشتركت في الدُّخُول تحت حكم التَّحْريم، وكون التَّحْريم راجعاً إلى أضْدَاد الأوَامِر؛ بعيدٌ جدّاً، وإلغاز في التَّعَامِي، ولا ضَرُورَة تدْعُو إلى ذلك".
قال شهاب الدين: "ما اسَتْبْعَدَهُ ليس بِبَعيد، وأين الإلْغَاز والتَّعَمِّي من هذا الكلامِ حتى يَرْمِيه به".
قال ابن الخَطِيب: فإن قيل: قوله: { أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } كالتَّفْصِيل لِما أجمله في قوله - تبارك وتعالى -: "ما حَرَّم" وذلك بَاطِلٌ؛ لأن تَرْكَ الشِّرْك والإحْسَان بالوالِدين واجبٌ لا مُحَرَّم.
والجواب من وجوه:
الأول: أن المُرَاد من التَّحْريم أن يَجْعَل له حريماً معيناً، وذلك بأن بَيِّنَه بَيَاناً مَضْبُوطاً معيَّناً؛ فقوله: { أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } معناه: أتْلُ عليكم ما بَيَّنَه بياناً شَافِياً؛ بحيث يجعل له حَرِيماً مضبوطاً مُعَيَّناً، وعلى هذا التَّقدير السُّؤال زائِلٌ.
الثاني: أن الكلام تمَّ وانْقَطع عند قوله: { أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ } ثم ابتدأ فقال: "عليكم ألا تشركوا".
فإن قيل: فقوله: "وبالوالدين إحسانا" معطوف على قوله { أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً } [فوجب أن يكون قوله: "بالوالدين إحساناً" مفسِّراً لقوله: { أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ }] فلزم أن يكون الإحسان بالوَالديْن حراماً؛ وهو باطل.
قلنا: لما أوجب الإحْسَان إليهما، فقدَّم تحريم الإسَاءة إليها، والله - تعالى - أعْلَم.
ثم قال أبو حيَّان: وأمَّا عطف هَذِهِ الأوامِرِ فيحتمل وجهين:
أحدهما: أنها مَعْطُوفة لا على المَنَاهِي قبلها، فيلزم انْسِحَاب التّحْريم عليها؛ حيث كانت في حيِّز "أنْ" التَّفْسِيريَّة، بل هي معطُوفةٌ على قوله: { تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } أمرهم أوّلاً بأمر يترتَّبُ عليه ذِكْرُ مَناهٍ، ثم أمَرَهُم ثانياً بأوَامِر؛ وهذا مَعْنَى وَاضِح.
والثاني: أن تكون الأوَامِر معْطُوفة على المَنَاهِي، وداخلة تحت "أنْ" التَّفْسِيريَّة، ويصِحُّ ذلك على تَقْدير محْذُوفٍ، تكون "أنْ" مُفسِرة له وللمَنْطُوق قبله الذي دَلَّ على حَذْفِه، والتَّقْدير: وما أمَرَكُم به، فحذف وما أمَرَكُم به لدِلالةِ ما حرَّم عليه؛ لأن مَعْنَى ما حرَّم ربكم: ما نَهَاكُم ربُّكم عنه، فالمعنى: تعالَوْا أتْل ما نَهَاكُم ربُّكم عنه وما أمَرَكُم به، وإذا كان التَّقْدير هكذا، صح أن تكُون "أن" تَفْسيريَّة لفِعْل النَّهْي، الدَّال عليه التَّحريم وفِعْل الأمْر المَحْذُوف، ألا ترى أنَّه يَجُوز أن تَقُول: أمرتُكَ ألا تكْرِم جَاهِلاً وأكرم عَالِماً" إذ يجوز أن يُعْطَف الأمْرُ على النَّهي والنَّهي على الأمر؛ كما قال: [الطويل]

2380- ................... يَقُولُونَ لا تَهْلِكْ أسًى وتَجَمَّلِ

وهذا لا نَعْلَم فيه خلافاً، بخلاف الجمل المُتَبايِنَة بالخَبَر والاستِفْهَام والإنْشَاء؛ فإن في جواز العَطْف فيها خِلافاً انتهى.
الثاني: أن تكون "أنْ" نَاصِبَة للفْعِل بعدها، وهي وما في حَيِّزِهَا في محلِّ نَصْبٍ بدلاً من "مَا حَرَّم".
الثالث: أنها النَّاصِبة أيضاً، وهي وما في حَيِّزها بدلٌ من العَائِد المحذُوف، إذا التَّقْدير: ما حَرَّمه، وهلي في المَعْنى كالذي قَبْلَه.
و "لا" على هذين الوَجْهَيْن زائدة؛ لئلا يَفْسُد المعنى كزِيَادَتِها في قوله - تعالى -:
{ { أَلاَّ تَسْجُدَ } [الأعراف:12] و { { لِّئَلاَّ يَعْلَمَ } [الحديد:29] والتَّقْدير: حرّم ربُّكُم عليكم أن تُشْرِكوا.
قال أبو حيَّان: "وهذا ضَعِيف؛ لانحصار عُمُوم المحرَّم في الإشْرَاك؛ إذ ما بعده من الأمْر ليس دَاخِلاً في المُحَرَّم، ولا ما بعد الأمر مما فيه لا يمكن ادّعَاء زِيَادة "لا" فيه؛ لظهور أنَّ "لاَ" فيه للنهْي"، ولما ذكر مكِّي كونها بَدَلاً من "مَا حَرَّم" [لم يُنَبّه على زيادة "لاَ" ولا بُدَّ منه.
وقد مَنَع الزَّمَخْشَريُّ أن تكُون بدلاً من "مَا حَرَّمَ"] فقال: "فإن قُلْتَ: هلا قُلْت: هي الَّتِي تَنْصِب الفِعْل، وجعلت "ألاَّ تُشْرِكُوا" بدلاً من "ما حَرَّمَ".
قلت: وجب أن يكُون: ألاَّ تُشْرِكُوا، و "لا تَقْرَبوا" و "لا تقْتُلوا" و "لا تَتّبِعُوا السُّبُلَ" نواهي؛ لانعطاف الأوَامِر عليها، وهي قوله - تعالى -: { وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً }؛ لأن التقْدير: وأحْسِنُوا بالوالدين إحْسَاناً، وأوْفُوا وإذا قلتم فاعدلوا، وبعهد الله أوفوا.
فإن قُلْت: فما تَصْنَع بقوله:
{ { وَأَنَّ هَـٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَٱتَّبِعُوهُ } [الأنعام:153] فيمن قَرَأَ بالفَتْح؛ وإنما يستقيم عَطْفُه على "ألاَّ تُشْرِكُوا" إذا جعلْت "أنْ" هي النَّاصِبَة، حتى يكون المَعْنَى: أتْل عَلَيْكُم نَفْي الإشْرَاكِ، وأتل عَلَيْكم أنَّ هذا صِرَاطِي مستَقيماً؟
قلت: أجْعَلُ قوله: "وأنَّ هَذَا صِراطِي مُسْتَقيماً" علَّةً للاتِّبَاع بتقدير اللام؛ كقوله
{ { وَأَنَّ ٱلْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ ٱللَّهِ أَحَداً } [الجن:18] بمعنى: ولأنَّ هذا صراطي مُسْتَقِيماً فاتَّبِعُوه؛ والدليل عليه القِراءة بالكَسْرِ, كأنه قيل: واتَّبْعُوا صراطِي، لأنَّه مسْتَقِيمٌ، أو: واتِّبِعُوا صِرَاطي أنَّه مُسْتَقيم".
واعترض عليه أبُو حيَّان بعد السُّؤال الأوّل وجوابه، وهو: "فإن قلت: "هلاَّ قُلْت هي النَّاصِبَة" إلى: "وبِعَهْد الله أوْفُوا" فقال: لا يَتَعَيِّنُ أن تكُون جِمِيع الأوَامِر معطُوفَة على ما دخل عليه "لا" لأنَّا بيَّنَّا جواز عَطْفِ "وبالوَالِدَيْن إحْساناً" على "تَعَالَوْا" وما بَعْدَه معطوف عليه، ولا يكون قوله: "وبالوَالِدَيْن إحْسَاناً" معطوفاً على "ألا تُشْرِكُوا".
الرابع: أن تكون "أنْ" النَّاصِبة وما في حَيِّزها مَنْصُوبة على الإغْرَاء بـ "عَلَيْكُم"، ويكون الكلامُ الأوَّل قد تمَّ عند قوله: "رَبُّكُم"، ثم ابْتَدأ فقال: عَلَيْكُم ألاَّ تُشْرِكوا، أي: ألزَمُوا نفي الإشْراك وعدمه، وهذا - وإن كان ذَكَرَه جماعةٌ كما نقله ابن الأنْبَاريِّ - ضَعِيفٌ؛ لتفكك التركيب عن ظَاهِرهِ؛ ولأنه لا يَتَبَادَر إلى الذِّهْنِ.
الخامس: أنها وما فِي حيِّزها في محلِّ نَصْبٍ أو جرٍّ على حَذْف لام العِلَّة، والتقدير: أتْلُ ما حرَّم ربُّكم عليكم لِئَلاَّ تُشْرِكُوا، و [هذا] مَنْقُول عن أبِي إسْحَاق، إلا أن بَعْضَهم استَبْعَدَه من حَيْث إن ما بَعْدَه أمرٌ مَعْطُوف بالواو، ومناهٍ معطوفة بالواوِ أيضاً، فلا يُنَاسِب أن يكون تَبييناً لما حرَّم، أمَّا الأمْر فمن حيثُ المعنى، وأمّا المناهِي فمن حيثُ العَطْف.
السادس: أن تكون هِي وما بَعْدَها في محلِّ نصب بإضْمَار فِعْل، تقديره: أُوصِيكم ألاَّ تُشْرِكُوا؛ لأن قوله { وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } محمولٌ على أوصِيكُم بالوَالدَيْن إحْسَاناً، وهذا مذهب أبي إسْحَاق ايضاً.
السابع: أن يكون "أنْ" وما في حيِّزها في مَوْضع رَفْع على أنها خَبَر مُبْتَدأ مَحْذُوف، أي: المُحَرَمُ ألاَّ تُشْرِكُوا، أو المَتْلُوُّ ألا تشركوا، إلا أن التَّقْدِير بنحو المَتْلُو أحْسَن؛ لأنه لا يُحْوِج إلى زِيَادة "لا"، والتقدير بالمحَرَّم ألاَّ تشركوا، يُحْوِج إلى زِيَادتِها لئلا يَفْسُد المَعْنَى.
الثامن: أنها في مَحَلِّ رفْع أيضاً على الابْتِدَاء، والخبر الجَارُّ قبله، والتقدير: علَيْكُم عَدَمُ الإشراكِ، ويكون الوَقْفُ على قوله: "رَب‍ُّكم" كما تقدَّم في وجْه الإغْرَاءِ، هذا مذهب لأبي بَكْر بن الأنْبَاري؛ فإنه قال: "ويجُوز ان يكُون في مَوْضِع [رفع] بـ "على" كما تقول: "كُتِبَ عليكم الصيَام والحَجُّ".
التاسع: أن يكون في مَوْضِع رفع بالفَاعِليَّة بالجَارِّ قبلها، وهو ظَاهِر قول ابن الأنْبارِيِّ المتقدِّم، والتقدير: استَقَرَّ عليكم عَدَم الإشْرِاك.
وقد تحصَّلت في محلِّ "ألاَّ تُشْرِكُوا" على ثلاثة أوْجُه: الرَّفْع، والنَّصْب، والجرِّ: فالجَرُّ من وجْه واحدٍ، وهو أن يكُون على حَذْفِ حَرْف الجرِّ على مَذْهَب الخَلِيل والكسَائيّ، والرفع من ثلاثة أوْجُه، والنَّصْبُ من سِتَّة أوْجُه، فمجموع ذلك عَشَرة أوْجُه تقدم تَحْرِيرُها.
و "شيئاً" فيه وجهان:
أحدهما: أنه مَفْعُول به.
والثاني: أنه مصدر، أي: إشْرَاكاً، أي: شَيْئاً من الإشْرَاكِ.
وقوله: { وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } تقدم تَحْرِيره في البقرة [الآية 83].
قوله - تعالى -: { وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } الإحْسَانُ إلى الوالِدَيْن: بِرُّهُما وحِفْظُهما، وإمْتِثَال أمرهما، وإزالة الرِّقِّ عَنْهُما، و "إحْسَانَا" نصْب على المصْدر، وناصِبُه فعل مُضْمَر من لَفْظِه، تقديره: وأحْسِنُوا بالوالدَيْن إحْسَاناً.
قوله: "مِنْ إمْلاقٍ"مِنْ" سَبَبِيَّة متعلِّقة بالفِعْل المَنْهِيِّ عنه، أي: "لا تَقْتُلوا أوْلادَكُم لأجْل الإمْلاقِ".
والإملاق: الفَقْر في قول ابن عبَّاس.
وقيل: الجوع بلغة "لخم"، نقله مؤرج.
وقيل: الإسْرَاف، أمْلق أي: أسْرف نَفَقَتِه، قال محمد بن نعيم اليزيدي.
وقيل: الإنْفَاق، أملق ماله أي: أنفقه، قاله المُنْذِر بن سَعِيد، والإملاق: الإفْسَاد أيضاً، قاله [شمر] قال: "وأمْلَقَ يكون قَاصِراً ومتعدِّياً، أملق الرَّجُل: إذا افْتَقَر فهذا قَاصِر, وأمْلَق ما عِنْدَه الدَّهْر، أي: أفْسَدَه" وأنشد النَّضْر بن شميل على ذلك قَوْل أوْسِ بن حَجَر: [الطويل]

2381- ولمَّا رَأيْتُ العُدْمَ قَيَّدَ نَائِلِي وَأمْلَقَ مَا عِنْدِي خُطُوبٌ تَنَبَّلُ

أي: تَذْهَب بالمَالِ، "تَنَبَّلَتْ بما عِنْدي": أي ذهبت به، معنى الآية الكريمة: لا تَقْتُلوا أولادكم خَشْيَة العَيْلَة.
وفي هذه الآية الكريمة قال: { نحن نَرْزُقُكم وإيَّاهُم } فقدَّم المُخَاطبين، وفي "الإسراء": قدّم ضَمِير الأولاد عليهم: فقال:
{ { نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ } [الإسراء:31] فقيل: للتَّفَنُّنِ في البلاغة.
وأحسن منه أن يقال: الظَّاهِر من قوله: "مِنْ إمْلاقٍ" حصُول الإمْلاق للوَالِد لا توقُّعُه وخشْيَتُه، فبُدِئ أوَّلاً بالعَدَةِ برزق الآبَاء؛ بشَارة لَهُم بزَوَال ما هُم فيه من الإمْلاق.
وأمّا في آية "سبحان" [الإسراء:1] فظاهرها أنهم موسرون وإنما يخشون حُصُول الفَقْر؛ ولذلك قال: خَشْيَةَ إمْلاق، وإنما يُخْشَى الأمُور المُتَوَقَّعَة، [فبدأ فيها بِضَمَان رِزْقَِهم، فلا مَعْنَى لقتلكم إيَّاهم، فهذه الآية تُفِيد النَّهْي] للآباء عن قَتْل الأولاد، وإن كانوا مُتَلَبِّسِين بالفَقْر، والأخْرَى عن قَتْلِهم وإن كانوا مُوْسِرين، ولكن يَخَافُون وُقُوع الفَقْر، وإفادة معنى جَدِيدٍ أوْلى من ادِّعاء كون الآيَتَيْنِ معنى واحدٍ للتَّأكِيد.
فصل في حكم العزل
قال القرطبي: استدل بَعْضُهم بهذه الآية الكريمة على منع العَزْلِ؛ لأن قتل الأولادِ رفع للمَوْجُود، والعَزْل منعٌ لأصْل النَّسْل فتشابها, إلا أن قَتْل النَّفْس أعظمُ وِزْراً، وأقبحُ فِعْلاً، ولذلك قال بعض العلماء: إنه يُفْهم من قوله - عليه الصلاة والسلام -:
"لا عَلَيْكُم في العَزْل الوَأد الخَفِيّ" الكراهة لا التَّحْرِيم، وقال به جماعة من الصَّحابة وغيرهم، وقال بإبَاحَتِه أيضاً جماعة من الصَّحابة والتَّابعين والفُقَهاء؛ لقوله - عليه الصلاة والسلام -: "لا عَلَيْكُم ألاَّ تَفْعَلُوا فإنِّمَا هُو القَدَر" أي: "ليس عَلَيْكُم جُنَاحٌ في ألا تَفْعَلُوا".
وقال جابر: "كُنَّا نَعْزِل والقُرآن يَنْزِل لَوْ كَانَ شَيْء مَنْهِيٌّ عنه لَنَهانَا عَنْهُ القُرآن".
[قوله: { مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَن } في محلِّ نصب بدَلاً من الفواحِشِ بدل اشْتمالَ]، أي: لا تقْرَبُوا ظاهِرهَا وباطنها؛ كقولك: ضَرْبتُ زَيْداً ما ظهر مِنه وما بَطَن، ويجوز أن تكُون "مَنْ" بدل البَعْض من الكُلِّ.
و "منها" متعلِّقٌ بمَحْذُوف؛ لأنه حال من فاعل "ظَهَر", وحذف "منها" بعد قوله "بطن" لدلالة قوله "مِنْهَا" في الأوَّل عليه، قال ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما -: "كانوا يَكْرَهُون الزِّنَا علانية وسِرّاً".
وقال الضَّحَّاك: "ما ظهر: الخمر، وما بطن الزنا" والأولى أن يُجْرَى النَّهْي على عُمُومه في جَمْيع الفواحِشِ، ظاهرها وباطنها، ولا يُخَص بنوع مُعَيَّن.
قوله تعالى: { وَلاَ تَقْتُلُواْ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلْحَقّ } الآية.
فقوله: "إلاَّ بالحقِّ" في محلِّ نَصْب على الحالِ من فاعل "تَفْتُلُوا" أي: لا تَقْتُلُوها إلاَّ مُتَلَبِّسِين بالحق، ويَجُوز أن يكون وَصْفاً لمصدر مَحْذُوف، أي: إلاَّ قَتْلاً متلَبساً بالحقِّ، وهو أن يكون القَتْل للقِصَاصِ، أو للرِّدَّة أو للزنا بشرطة، كما جاء مبيناً في السُّنَّة.
قال القرطبي: وتَارك الصَّلاة، ومَانِع الزَّكَاة، وقد قتل الصَّدِّيق مانع الزَّكَاة، وقال - تعالى -:
{ { فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ وَآتَوُاْ ٱلزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ } [التوبة:5].
قوله: "ولا تَقْتُلُوا" هذه شبيه بذكر الخاصِّ بعد العامِّ اعتناءً بِشَأنهِ؛ لأن الفَواحِش يَنْدَرج فيها قَتْل النَّفْس، فجرَّد منها هذا اسْتِفظَاعاً له وتَهْويلاً؛ ولأنَّه قد استَثْنَى منه في قوله: "إلاَّ بالحقِّ" ولو لم يَذْكر هذا الخَاصَّ، لم يَصِحَّ الاستِثْنَاء من عُمُوم الفَوَاحش، لو قيل في غَيْر القُرآن العظيم: "لا تَقْرَبُوا الفواحش إلا بالحقِّ" لم يكن شيئاً.
قوله: { ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بهِ } في مَحَلِّه قولان:
أحدهما: أنه مُبْتَدأ, والخبر الجُمْلَة الفِعْليَّة بعده.
والثاني: أنه في محلِّ نصب بفعل مُقدَّر من مَعْنَى الفِعْل المتأخر عنه، وتكون المَسْألة من باب الاشْتِغَال، والتقدير: ألزَمَكُم أو كَلَّفَكُم ذلك، ويكون "وصَّاكُمْ بِهِ" مفسِّراً لهذا العَامِل المقدَّر؛ كقوله - تعالى -:
{ { وَٱلظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيمَاً } [الإنسان:31] ونَاسَب قوله هنا: "لَعَلَّكُم تَعْقِلُون" لأن العقل مَنَاط التَّكْليف والوَصيَّة بهذه الأشْيَاء المَذْكُورة.