التفاسير

< >
عرض

قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ
١٦٢
لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْمُسْلِمِينَ
١٦٣
-الأنعام

اللباب في علوم الكتاب

لمَّا عرّفه الدِّين المُستقِيم, عرَّفه كيف يقُوم به ويؤدِّيه، وهذ الآية الكريمة تدلُ على أنَّه - عليه الصَّلاة والسَّلام - مؤدِّي العِبَادة مع الإخْلاص، وأكده بقوله - تبارك وتعالى -: { لاَ شَرِيكَ لَه } وهذا من أقْوَى الدَّلائل على أنَّ شَرْط صحة الصَّلاة: أن يُؤتَى بها مَقْرُونةً بالإخْلاصِ.
واخْتَلَفُوا في المُرَاد بالنُّسُك:
فقيل: المُرَاد به: الذَّبِيحَة بعينها، وجمع بين الصَّلاة وبين النَّحر؛ كما في قوله - تبارك وتعالى -:
{ { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَٱنْحَرْ } [الكوثر:2] فقيل: المراد بالصلاة هاهنا صلاة النَّحْر، وقيل: صلاةُ اللَّيْل.
وروى ثَعْلَب عن ابن الأعْرَابيِّ أنه قال: النُّسُك: سَبَائِك الفِضَّة، كل نَسِيكة منها سَبيكة، وقيل للمُتعَبِّد: نَاسِكٌ، لأنه خلَّص نَفْسَه من دَنَائِس الآثَام وصفَّاها، كالسَّبيكة المُخَلَّصَة من الخَبَث، وعلى هذا التَّأويل فالنُّسُك: كل ما يُتَقرَّبُ به إلى الل‍َّه - تبارك وتعالى -، إلاَّ أن الغَالِب عليه في العُرْف: الذَّبْح.
قوله: { وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ }.
قرأ نافع: "ومَحْيايْ" بسكون ياء المُتكلِّم، وفيها الجَّمع بين سَاكِنَيْن.
قال الفارسي: كقوله: "التَقَتْ حَلْقَتَا البطَانِ" و "لِفُلانٍ ثُلُثَا المَالِ" بثبوت الألفين.
وقد طَعَن بَعْضُ النَّاس على هذه القراءة بما ذَكَرْت من الجَمْع بَيْن السَّاكِنين، وتعجَّبْت من كَوْن هذا القَارئ يُحَرك ياء "مُمَاتِيَ" ويُسَكِّن ياء "مَحْيَايْ" وقد نقل بَعضُهُم عن نافع الرُّجوع عن ذلك.
قال أبُو شامة - رحمة الله عليه -:"فَيَنْبَغِي ألاَّ يَحِلَّ نَقْلُ تسْكِين ياء "مَحْيَايَ" عنه".
وقرأ نافع في رواية: "مَحْيَايِ" بكسر الياءِ، وهي تشبه قراءة حَمْزَة في
{ { بِمُصْرِخِيَّ } [إبراهيم:22]، وستأتي - إن شاء الله تعالى -.
وقرأ ابنُ أبي إسحاق، وعيسى الجَحْدَرِيُّ: "ومَحْيَيَّ" بإبْدال "الألف"ياء"، وإدغَامِها في ياء المُتَكلِّم، وهي لُغة هُذَيْل، أنشد عليها قول أبي ذُؤيْب: [الكامل]

2401- سَبَقُوا هَوَيَّ وأعْنَقُوا لِهَوَاهُمُ فَتُخُرِّمُوا ولِكُلِّ جَنْبٍ مَصْرَعُ

اعلم: أن المَحيْا والممَاتِ للَّه لَيْس بمعنى أنَّهُما يُؤتَى بِهِمَا لطاعة الله - عزَّ وجلَّ -، فإن ذلك مُحَال، بَلْ معنى كوْنِهِما للَّه أنَّهُمَا حَاصِلان بِخَلْقِ اللَّه، وذلك مِنْ أدلِّ الدِّلائل على أنَّ طاعة العَبْد مَخْلُوقة منه - تعالى -.
وقال بَعْضُ المفسِّرين: "مَحْيَايَ: بالعمل الصالح, ومَمَاتِي: إذا مِتُّ على الإيمان من رب العَالمِين".
واعلم: أنَّه - تبارك وتعالى - أمرَ رسُوله صلى الله عليه وسلم بأن يُبَيِّن أنَّ صلاته، وسَائِر عِباداتِه، وحياته، ومَمَاتِه كُلِّها واقعةٌ بخلق اللَّه - تبارك وتعالى - وبقدره، وقضَائه، وحُكْمِه.
وقال القُرْطُبِيُّ - رحمة الله عليه -: قوله: "ومَحْيَايَ" أي: ما أعْمَله في حَيَاتِي، و "مَمَاتِي" أي: ما أوصِي به بَعْد وَفَاتِي "لِلَّهِ ربِّ العَالمِين" أي: أُفْرِدُهُ بالتَّقَرُّب بها إليه، ثمَّ نصَّ على أنَّه لا شَريكَ لَهُ في الخَلْق، والتقدير، ثم قال: "وبذلِك أمِرْتُ" وبهذا التَّوحيد أمِرْت، ثم يقول: "وأنا أول المُسْلِمين" أي: المُستَسْلِمين لِقضَاء اللَّه وقدَره، ومَعْلُوم أنَّه لَيْس أوَّلاً لكلِّ مُسْلِمٍ، فوجب أن يكُون المراد: كَوْنه أوّلاً لِمُسْلِمِي زَمَانه.
فصل في استفتاح الصلاة بهذا الدعاء
قال القرطبي -رحمه الله -: "ذكر الطبري، عن الشَّافعي -رحمه الله - أن في قوله - تعالى -:
{ { قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّيۤ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } } [الأنعام:161] إلى قوله { رَبِّ ٱلْعَالَمِين } ما يَدُلُّ على افْتِتَاح الصَّلاة بهذا الذِّكْر؛ فإن اللَّه - سبحانه وتعالى - أمر نبيِّه صلى الله عليه وسلم به، وأنْزَله في كِتَابه، ثم ذكر حديث عليٍّ - رضي الله عنه - كان إذا افْتِتَح الصلاة قال: وجَّهْت وَجْهِي للَّذِي فَطَر السَّموات والأرْضَ حَنِيفاً وما أنا من المُشْرِكِين، إنَّ صَلاَتي ونُسُكي ومَحْيَاي ومَمَاتِي للَّه ربِّ العالمين، لا شَرِيكَ لهُ وبذلك أمِرْت وأنا أوَّل المُسْلِمِين.