التفاسير

< >
عرض

فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ ٱلْلَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَـٰذَا رَبِّي فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لاۤ أُحِبُّ ٱلآفِلِينَ
٧٦
-الأنعام

اللباب في علوم الكتاب

قوله: "فَلَمَّا جَنَّ" يجوز أن تكون هذه الجملة نَسَقاً على قوله: "وإذْ قاَلَ إبْرَاهِيمُ" عطفاً للدليل على مدلوله، فيكون "وكَذلِكَ نُرِي إبْرَاهِيمَ" معترضاً كما تقدم، ويجوز أن تكون مَعْطُوفَةً على الجملة من قوله: "وكَذلِكَ نُري إبراهيم".
قال ابن عطيَّة: "الفاء" في قوله: "فَلَمَّا" رَابِطَةٌ جملة ما بعدها بما قبلها، وهي ترجح أن المراد بالملكوت التَّفْضِيلُ المذكور في هذه الآية، والأوَّل أحسن، وإليه نحا الزمخشري.
و"جَنَّ": سَتَرَ وقد تقدم اشْتِقَاقُ هذه المادة عند ذكر
{ { ٱلْجَنَّةَ } [البقرة:35] وهنا خصوصية لذكر الفِعْلِ المسند إلى الليل يقال: جَنَّ عليه الليل, وأجن عليه بمعنى: أظْلَمَ فيستعمل قاصراً، وجَنَّةُ وأجَنَّةُ، فيستعمل متعدياً فهذا مما اتفق فيه فَعَلَ وأفْعَلَ لزوماً وتعدياً إلا أن الأجْوَدَ في الاستعمال جَنَّ عليه الليل, وأجنه الليل، فيكون الثلاثيّ لازماً وأفعل متعدياً.
ومن مجيء الثلاثي متعدياً قوله: [المتقارب]

2212- وَمَاءٍ وَرَدْتُ قُبَيْلَ الكَرَى وَقَدْ جَنَّهُ السَّدَفُ الأدْهَمُ

ومصدره جَنٌّ وجنان وجنون.
وفرق الرَّاغِبُ بين "جَنَّه" و "أجَنَّه"، فقال: جنه إذا سترَهُ، وأجنه جعل له ما يجنه، كقولك: قَبَرْتُهُ وأقْبَرتُهُ، وسَقَيْتُهُ وأسْقَيْتُهُ وقد تقدم لك شيء من هذا عند ذكر "حزن" و "أحزن" [البقرة: 38] ويحتمل أن يكون "جنَّ" في الآية الكريمة متعدياً حذف المفعول فيها، تقدير: جَنَّ عليه الأشْيَاء والمبصرات.
قوله: "رَأى كَوْكَباً" هذا جواب "لمَّا"، وللقراء فيه وفيما بعده من الفعلين خلافٌ كبير بالنسبة إلى الإمالةِ وعدمها، وتلخيصه أن "رأى" الثابت الألف فأمال رَاءَهُ وهمزته إمالة مَحْضَة الأخوان، وأبو بكر عن عاصم، وابن ذكوان عن ابن عامر، وأمال الهمزة منه فقط دون الراء أبو عَمْرٍو وبكماله، وأمال السوسي بخلاف عنه عن ابن عَمْرٍو الراء أيضاً، فالسوسي في أحد وَجْهَيْهِ يوافق الجماعة المتقدمين، وأمال وَرْشٌ الراء والهمزة بَيْنَ بَيْنَ من هذا الحرف، حيث وقع هذا كله ما لم يَتِّصِلْ به ضمير نحو ما تقدم، فأما إن اتَّصَلَ به ضمير نحو:
{ { فَرَآهُ فِي سَوَآءِ } [الصافات:55] { { فَلَمَّا رَآهَا } } [النمل:10] { { وَإِذَا رَآكَ ٱلَّذِينَ } [الأنبياء:36]، فابن ذكوان عنه وجهان، والباقون على أصولهم المتقدمة.
وأما "رأى" إذا حذفت ألفه فهو على قسمين: قسم لا تعود فيه ألبتة لا وَصْلاً ولا وَقْفاً، نحو:
{ { رَأَتْهُمْ مِّن مَّكَانٍ } [الفرقان:12] { { رَأَوُاْ ٱلْعَذَابَ } [يونس:54] فلا إمالة في شيء منه، وكذا ما انقلبت ألفه ياءً نحو: { { رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ } [الإنسان:20].
وقِسْمٌ حُذِفَتْ أله لالتِقَاءِ السَّاكنين وصْلاً، وتعود وَقْفاً نحو:
{ { رَأَى ٱلْقَمَرَ } [الأنعام:77] { { رَأَى ٱلشَّمْسَ } [الأنعام: 78] { { وَرَأَى ٱلْمُجْرِمُونَ ٱلنَّارَ } [الكهف:53] { { وَإِذَا رَأى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ } [النحل:85] فهذا فيه خلاف أيضاً بين أهل الإمالة اعتباراً باللفظ تارة، وبالأصل أخرى، فأمال الراء وحدها من غير خلاف حمزة وأبو بكر عن عَاصِمٍ والسُّوسي بخلاف عنه وحده، وأما الهمزة فأمَالَهَا مع الراء أبو بكر والسُّوسي بخلاف عنهما، هذا كله إذا وصلت،أما إذا وقفت فإن الألف تَرْجِعُ لعدم المُقْتَضِي لِحَذْفِهَا، وحكم هذا الفعل حينئذ حكم ما لم يَتَّصِلْ به سَاكِنٌ فيعود فيه التَّفْصِيلُ المُتقدِّم، كما إذا وقفت على "رأى" من نحو: { { رَأَى ٱلْقَمَرَ } [الأنعام:77]. فأمَّا إمالة الرَّاء من "رأى" فلإتباعها لإمالة الهمزة، هكذا عبارتهم، وفي الحقيقة الإمالة إنما هي الألف لانْقِلابها عن الياء، والإمالة أن تنحي بالألف نحو الياء وبالفتحة قبلها نحو الكسرة، فمن ثمَّ صحَّ أن يقال: أميلت الراء لإمالة الهمزة، وأما تفصيل ابن ذَكْوَانَ بالنسبة إلى اتِّصالِهِ بالضمير وعدمه، فوَجْهُهُ أن الفعل لما اتَّصَلَ بالضمير بعدت ألفه عن الظَّرْفِ، فلم تُمَلْ.
ووجه من أمال الهمزة في "رَأى القَمَرَ" مُرَاعَاة للألف وإن كانت محذوفة، إذ حذفها عَارِضٌ، ثم منهم من اقْتَصَرَ على إمالة الهمزة؛ لأن اعتبار وُجُودهَا ضعيفٌ، ومنهم من لم يَقْتَصِرْ أعطى لها حكم الموجودة حَقِيقَةً، فأتبع الراء للهمزة في ذلك.
والكوكب: النجم، ويقال فيه كَوْكَبَةٌ.
وقال الراغب: "لا يقال فيه أي في النجم: كوكب إلا عند ظُهُوره". وفي اشتقاقه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه من مادة "وَكَبَ" فتكون الكَافُ زائدةً، وهذا القول قاله الشيخ رضي الدين الصَّغاني قالرحمه الله تعالى: "حق كَوْكَب أن يُذكَرَ في مادة "وَكَبَ" عن حُذَّاق النحويين، فإنها وردَتْ بكاف زائدةٍ عندهم، إلا أنَّ الجوهري أوردها في تركيب "ك و ك ب" ولعلَّه تبع في ذلك اللَّيْثَ، فإنه ذكره في الرباعي ذاهباً إلى أن الواو أصْلِيَّةٌ". فهذا تصريح من الصَّغَاني بزيادة الكاف, وزيادة الكاف عند النحويين لا يجوز، وحروف الزيادة مَحْصُورةٌ في تلك العشرة، فأما قولهم: "هِنْدِيُّ وهِنْدِكيّ" بمعنى واحدٍ، وهو المنسوب إلى "الهند"، وقول الشاعر: [الطويل]

2213- ومُقْرَبَةٍ دُهْمٍ وَكُمْتٍ كَأنَّهَا طَمَاطِمُ مِنْ فَوْقِ الوِفَازِ هَنَادِكُ

فظاهره زيادة الكاف، ولكن خَرَّجَهَا النحويون على أنه من باب "سبط وسبطر" أي: مما جاء فيه لَفْظَان، أحدهما أطول من الآخر، وليس بأصْلٍ له، فكما لا يُقَالُ: الراء زائدة باتِّفاقٍ، كذلك هذه الكاف، وكذلك قال أبو حيَّان: "وليت عشري، من حُذَّاق النحويين الذين يَرَوْنَ زيادتها لا سيَّما أول الكلمة".
والثاني: أن الكلمة كُلَّهَا أصُولٌ رباعية مما كُرِّرَتْ فيها الفاء، فوزنها فَعْفَل كـ "فَوْفَل" وهو بناء قليل.
والثالث: ساق الرَّاغب أنه من مادة: كَبَّ وكَبْكَبَ، فإنه قال: والكَبْكَبَةُ تَدَهْوُرُ الشيء في هُوَّة، يقل: كَبَّ وكَبْكَبَ، نحو: كَفَّ وكَفْكَفَ، وصرَّ الريح وصَرْصَرَ.
والكواكب النجوم البادية، فظاهر هذا السِّياقِ أن الواو زائدة، والكاف بَدَلٌ من إحدى الياءين وهذا غريب جداً.
قوله: "قال هذا ربي" في "قال" ثلاثة أوجه:
أظهرها: أنه استئناف أخبر بذلك القول، أو استفهم عنه على حسب الخلاف.
والثاني: أنه نعت لـ "كَوْكَباً" فيكون في محلِّ نصب، وكيف يكون نعتاً لـ "كوكباً" ولا يساعد من حَيْثُ الصِّناعةِ، ولا من حيث المعنى؟ أما الصِّناعةُ فلعدم الضمير العائد من الجملة الواقعة صِفَةً إلى موصوفها، ولا يقال: إن الرابط حَصَلَ باسم الإشارة؛ لأن من الجملة الواقعة صِفَةً إلى موصوفها، ولا يقال: إن الرابط حَصَلَ باسم الإشارة؛ لأن ذلك خَاصُّ بباب المبتدأ والخبر، ولذلك يكثر حَذْفُ العائد من الصِّفة، ويقلُّ من الخبر، فلا يَلْزَمُ من جوازِ شيء في هذا جوازُهُ في شيء، وادِّعاء حذفت ضمير بعيد، أي قال فيه: هذا رَبَّي، وأمَّا المعنى فلا يُؤدِّي إلى أن التَّقدير: رأى كوكباً مُتَّصِفاً بهذا القَوْلِ، وذلك غير مراد قطعاً.
والثالث: أنه جوابُ "فَلَمَّا جَنَّ" وعلى هذا فيكون قوله: "رأى كوْكَباً" في محل نصْبٍ على الحال, فلما جَنَّ عليه الليل رائياً كوكباً و "هذا ربِّي" مَحْكِيٌّ بالقول, فقيل: هو خبر مَحْضٌ بتأويل ذكره أهْلُ التفسير.
وقيل: بل هو على حَذْفِ همزة الاستفهام، أي: أهذا ربي، وأنشدوا: [الطويل]

2214- لَعَمْرُكَ مَا أدْرِي وَإنْ كُنْتُ دَارِياً بِسَبْعٍ رَمَيْنَ الجَمْرَ أمْ بِثَمَانِ

وقوله: [المنسرح]

2215- أفْرَحُ أرْزَأ الكِرَامَ وَأنْ أورَثَ ذَوْداً شَصَائِصاً نَبَلاَ

وقوله: [الطويل]

2216- طَرِبْتُ وَمَا شَوْقاً إلى البِيضِ أطْرَبُ وَلاَ لِعِباً مِنِّي وذُو الشَّيْبِ يَلْعَبُ

وقوله: { { وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ } [الشعراء:22] قالوا: تقديره أبسبع؟ وأأفرح؟ وأذو؟ وأتلك؟
قال ابنُ الأنْبَارِيّ: "وهذا لا يجوز إلا حَيْثُ يكون ثمَّ فاصلٌ بين الخبر والاستفهام، إن دلَّ دليل لفظي كوجود "أم" في البيت الأول، بخلاف ما بعده". والأفُولُ: الغَيْبَةُ والذَّهَابُ؛ يقال: أفَلَ يأفُلُ أفُولاً.
قال ذو الرمة: [الطويل]

2217- مَصَابِيحُ لَيْسَتْ باللَّوَاتِي تَقُودُهَا نُجُومٌ ولا بالآفلاتِ شُمُوسُهَا

والإفَالُ: صِغَارُ الغَنَم.
والأفيلُ: الفَصِيلُ الضَّئِيلُ.
فصل في بيان رؤية الملك
قال أكثر المفسرين: أن مَلِكَ ذلك الزَّمانِ رأى رُؤيا وعبرها المعبرون بأنه يُوَلدُ غلام يكون هلاكُ مُلْكِهِ على يَدَيْهِ، فأمر بذح كُلِّ غلام يُولدُ، فحملت أمُّ إبراهيم به، وما أظهرت حَمْلَهَا للناس، فلما جاءها الطَّلْقُ ذَهَبَتْ إلى كَهْفٍ في جَبَلٍ، ووضعت إبراهيم - علي السلام - وسدَّت الباب بِحَجَرٍ فجاء - جبريل - عليه السلام - ووضع أصْبَعَهُ في فَمِهِ, فخرج منه رِزْقُهُ, وكان يتعَهَّدُهُ جبريل - عليه السلام - وكانت الأمُّ تأتيه أحياناً تُرْضِعُهُ، وبقي على هذه الصفة حتى كَبِرَ وعَقِلَ، وعرف أنه له رَبَّا، فسأل أمه فقال لها: مَنْ رَبي؟ قالت: أنا، فقال: ومَنْ رَبُّك؟ قالت: أبوك فقال: ومن رَبُّ أبي؟ فقالت: مَلِكُ البلد.
فعرف إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - جَهَالتها بربها، فنظر من باب ذلك الغارِ ليرى شيئاً يَسْتَدِلُّ به على وجود الرَّبِّ - سبحانه وتعالى - فرأى النَّجْمَ الذي كان هو أضْوَءَ نجم في السماء.
فقيل: كان المشتري، وقيل: كان الزهرة، فقال: هذا ربِّي إلى آخر القِصَّةِ.
ثم القائلون بهذا القول اختلفوا، فمنهم من قال: هذا كان بعد البُلُوغِ، ومنهم من قال: كان هذا قَبْلَ البُلُوغِ والتكليف، واتَّقَقَ أكثر المحققين على فَسَادِ هذا القول.
وقالوا: لا يجوز أن يَكُونَ لله رَسُولٌ يأتي عليه وَقْتٌ من الأوْقَاتِ إلا وهو مُوَحِّدٌ به عارف، ومن كُلِّ معبود سواه بَرِيءٌ، وكيف يتوهَّمُ هذا على من عَصَمَهُ الله وطَهَّرَهُ وآتاه رُشدَهُ من قَبْلُ، وأخبر عنه فقال تعالى:
{ { إِذْ جَآءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } [الصافات: 84].
وأراه ملكوت السَّمواتِ والأرض، أفتراه أراه الملكُوتَ ليُوقِنَ؟ فلما أيْقَن رأى كوكباً قال: "هذا ربي" معتقداً فهذا لا يكون أبداً.
واحتجوا بوجوه:
أحدها: أن القول بِرُبُوبيَّةِ الجماد كُفْرٌ بالإجماع، والكفر لا يجوز على الأنْبِيَاءِ - عليهم الصلاة والسلام - بالإجماع.
والثاني: أن إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - كان قد عرف رَبَّهُ قَبْل هذه الواقعة بالدليل؛ لأنه أخبر عنه أنه قال قَبل هذه الواقعة لأبيه آزر
{ { أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّيۤ أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } [الأنعام:74].
الثالث: حكي عنه أنه دعا أباه إلى التَّوحيد، وتَرْكِ عبادة الأصْنامِ بالرِّفْقِ حيث قال:
{ { يَٰأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً } [مريم:42] وحكي في هذا الموضع أنه دعا أباهُ إلى التوحيد، وتَرْكِ عبادة الأصنام بالكلام الخشنِ، ومن المعلوم أن من دعا غَيْرَهُ إلى الله، فإنه يُقَدِّمُ الرِّقْقَ على العُنْفِ، ولا يخوض في التَّغْلِيظِ إلا بعد اليَأسِ التام، فدلَّ على أن هذه الواقعة إنما وقعت بعد أن دعا أباه مراراً، ولا شكَّ أنه إنما اشْتَغَلَ بدعوة أبيه بعد فراغِهِ من مُهِمِّ نفسه، فَثَبَتَ أن هذه الواقعة إنما وَقَعَتْ بعد أن أراه الله مَلَكُوتَ السَّمواتِ والأرض، ومن كان مَنْصِبُهُ في الدِّين كذلك، وعلمه بالله كذلك، فكيف يليق به أن يعتقد ألُوهيَّة الكواكِبِ؟
الرابع: أنَّ دلائل الحُدُوثِ في الأفْلاكِ ظَاهِرَةٌ من وجوه كثيرة، ومع هذه الوجوه الظاهرة كيف يليق بأقلّ العُقلاءِ نَصِيباً من العَقْلِ والفَهْمِ أن يقول بربوبية الكواكب فَضْلاً عن أعْقَلِ العُقلاءِ، وأعْلَمِ العلماء؟
الخامس: أنه قال في صفته
{ { إِذْ جَآءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } [الصافات:84] وقال تعالى: { { وَلَقَدْ آتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ } [الأنبياء:51] أي: آتيناه رشده من قَبْلِ أوَّل زمان الفكرة وقوله { وكنا به عالمين } أي بطهارته وكماله, ونظيره قوله تعالى: { { ٱللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } [الأنعام:124].
السادس: قوله تعالى:
{ { وَكَذَلِكَ نُرِيۤ إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ ٱلْمُوقِنِينَ } [الأنعام:75] أي: بسب بتلك الإراءة يكون من الموقنين، ثم قال بعده: { فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ ٱلْلَّيْل } و"الفاء" تقتضي الترتيب، فدلَّت الفاء في قوله: { فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ ٱلْلَّيْل } على أن هذه الواقعة حصلت بعد أن صار من الموقنين العارفين بربِّهِ.
السابع: أن هذه الواقعة إنما حَصَلَتْ بسبب مُنَاظَرَةِ إبراهيم عليه الصلاة والسلام مع قومه، لأنه - تعالى - لما ذكر هذه القصة قال:
{ { وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ آتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِ } [الأنعام:83] ولم يقل: على نفسه، فعلم أن هذه المُبَاحَثَة إنما جَرَتْ مع قومه؛ لأجل أن يرشدهم إلى الإيمان والتوحيد، لا لأجلِ أن إبراهيم - عليه السلام - كان يطْلُبُ الدِّينَ والمعرفة لنفسه.
الثامن: أن قولهم: إن إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - إنما اشتغل بالنظر في الكواكب والشمس والقمر حال كونه في الغَارِ باطل؛ لأن لو كان الأمْرُ كذلك، فكيف يقول: يا قوم إني بَريءٌ مما تشركون، مع أنه كان في الغارِ لا قَوْمَ ولا صَنَمَ.
التاسع: قوله:
{ { وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّوۤنِّي فِي ٱللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ } [الأنعام:80]
فكيف يُحَاجُّونه وهم لم يَرَوْهُ ولم يرهم، وهذا يَدُلُّ على أنه - عليه الصَّلاة والسلام - إنما اشتغل بالنَّظَرِ في الكواكب والشمس والقمر بعد مُخَالطةِ قومه، ورآهم يَعْبُدُونَ الأصنام، ودعَوْهُ إلى عِبَادتَهَا، فقال: { لا أحِبُّ الآفلينَ } ردَّا عليهم، وتَنْبيهاً على فَسَادِ قولهم.
العاشر: أنه - تعالى - حُكِيَ عنه أنه قال للقوم:
{ { وَكَيْفَ أَخَافُ مَآ أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِٱللَّهِ } [الأنعام:81] وهذا يَدُلُّ على أن القوم خَوَّفُوهُ بالأصْنَام كما قال قوم هود عليه الصلاة والسلام: { { إِن نَّقُولُ إِلاَّ ٱعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوۤءٍ } [هود:54] وهذا الكلام لا يليقُ بالغَارِ.
الحادي عشر: أن تلك اللَّيْلَة كانت مَسْبُوقَةً بالنهار، ولا شك أن الشمس كانت طَالِعَةً في اليوم المتقدم، ثم غَرَبَتْ، فكان ينبغي أن يستدلَّ بغروبها السَّابق على أنها لا تصلح للإلهية، وإذا بَطَلَ صَلاحيَّةُ الشمس للإلهية بطل ذلك في القمرِ والكوكب بطريق الأوْلَى.
هذا إذا قلنا: إن هذه الواقعة كان المقصود منها تحصيل المَعْرِفَةِ لنفسه، أما إذا قلنا: المقصود منها إلْزَامُ القَوْمِ وإلجَاؤُهُمْ، فهذا السؤال غير وَاردٍ، لأنه يمكن أن يقال: إنه إنما اتَّقَقَتْ مُكالَمَتُهُ مع القوم حالَ طُلُوع ذلك النجم، ثم امْتَدَّت المُنَاظَرَةُ إلى أنْ طَلَعَ القمر، وطلع الشمس بعده، وعلى هذا التقدير فالسُّؤالُ غير واردٍ، فثبت بهذه الدلائل الظَّاهرة أنه لا يجوز أن يقال: إن إبراهيم- عليه الصلاة والسلام- قال على سبيل الجَزْمِ "هذا ربي"، وإذا بطل بقي ها هنا احْتِمَالانِ:
الأول: أن يقال: هذا كلام إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - بعد البلوغ, ولكن ليس الغَرَضُ منه إثبات رُبُوبيَّةِ الكواكب, بل الغرض منه أحد أمور ستة:
أولها: أن إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - لم يقل: "هذا ربي" على سبيل الإخبار، بل الغَرَضُ منه أنه كان يُنَاظِرُ عَبَدَةَ الكواكب، وكان مذهبهم أن الكواكب رَبُّهُمْ، فذكر إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - ذلك القَوْلَ الذي قالوه بلفظهم وعبارتهم، حتى يرجع إليه فَيُبْطلَهُ كما يقول الواحد منا إذَا نَاظَرَ مَنْ يقول بِقدمِ الجِسْمِ، فيقول: الجسم قَدِيمٌ فإن كان كذلك فَلِمَ نراه؟ ولم نشاهده مركّباً متغيراً؟ فقوله: الجسم قديم إعادةٌ لكلام الخَصْمِ حتى يلزم المُحَال عليه، فكذا هاهنا قال: "هَذَا ربِّي" حكايةً لقول الخَصْمِ، ثم ذكر عَقِيِبَهُ ما يَدُلُّ على فساده، وهو قوله: { لاۤ أُحِبُّ ٱلأَفِلِين }، ويؤيد هذا أنه - تعالى - مَدَحَهُ في آخر الآية على هذه المُنَاظَرَةِ بقوله:
{ { وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ آتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِ } [الأنعام:83].
وثانيها: أن قوله تعالى: "هَذَا رَبِّي" في زعمكم واعتقادكم، فلما غاب قال: لو كان إلهاً لما غاب كما قال:
{ { ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْكَرِيمُ } [الدخان:49]، أي: عند نفسه وبزعمك، وكقوله تعالى: { { وَٱنظُرْ إِلَىٰ إِلَـٰهِكَ ٱلَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً } [طه:97] يريد إلهك بزعمك، وقوله تعالى: { { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ } [القصص:62] أي: في زعمهم.
وثالثها: أن المراد منه الاسْتِفْهَامُ على سبيل الإنكار، تقديره: أهَذَا ربِّي، إلا أنه أسقط حرف الاسْتِفْهَام اسْتِغْنَاءً لدلالة الكلام عليه، كقوله
{ { أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ ٱلْخَالِدُون } [الأنبياء:34].
ورابعها: أن يكون القول مُضْمراً فيه، والتقدير: يقولون: هذا رَبِّي، وإضمار القول كثير كقوله:
{ { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ ٱلْقَوَاعِدَ مِنَ ٱلْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا } [البقرة:127] أي يقولون: ربنا، وقوله: { { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىۤ } [الزمر:3] أي: يقولون: ما نعبدهم، فكذا ها هنا تقديره: أن إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - قال لقومه: يقولون: هذا ربي، أي: هذا الذي يُدَبِّرُني ويُرَبِّيني.
خامسها: أن إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - ذكر هذا الكلام على سبيل الاسْتِهْزَاءِ.
سادسها: أنه - عليه الصلاة والسلام - كان مَأمُوراً بالدعوة، فأراد أن يَسْتَدْرِجَ القوم بهذا القول، ويعرفهم خَطَاهُمْ وجَهْلهُمْ في تعظيم ما عَظَّمُوهُ، وكانوا يعظمون النجوم ويعبدونها، فذكر كلاماً يُوهِمُ كونه مُسَاعداً لهم على مَذْهَبِهِمْ، وقلبه مطمئن بالإيمان، ومَقْصُودُهُ من ذلك أن يريهم النَّقْصَ الدَّاخلَ على فَسَادِ مَذْهَبِهِمْ وبُطلانِهِ، فأراهم أنه يعظم ما عظموه، فلما أفَلَ أراهم النَّقْصَ الدَّاخلَ على النجوم ليريهم، ويثبت خَطَأ ما يدَّعُون كمثل الحواري الذي وَرَد على قَوْمٍ يعبدون الصَّنَمَ فأظْهَرَ تعظيمه فأكرموه حتى صدروا عن رأيِهِ في كثير من الأمُورِ إلى أن دَهَمَهُمْ عَدُوٌّ فَشَاوَرُوُه في أمْرِهِ، فقال: الرأي أن تَدْعُوا هذا الصَّنَمَ حتى يَكْشِفَ عَنَّا ما قد أظلنا, فاجتمعوا عليه يَتَضَرَّعُونَ, فلما تبيَّنَ لهم أنه لا يَنْفَعُ ولا يدفع, دعاهُمْ إلى أن يَدْعُوا الله، فدعوه فصرف عنهم ما كانوا يَحْذَرُونَ وأسلموا.
واعلم أن المأمور بالدعوة إلى الله كان بمنزلة المُكْرَهِ على كلمة الكفر, وهو عند الإكراه يجوز إجراء كلمة الكُفْرِ على اللسان؛ قال تعالى
{ { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِٱلإِيمَانِ } [النحل:106] وإذا جاز ذكر كلمة الكُفْرِ لإصلاح بقاء شخص واحد فَبِأنْ يجوز إظهار كلمة الكُفْرِ لتخليص عالم من العقلاء عن الكُفْرِ والعقاب المُؤبَّدِ أوْلى.
وأيضاً المُكُرَهُ على ترك الصلاة، ثم صلَّى حتى قتل، استحقَّ الأجْرَ العظيم، ثم إذا كان وقْتُ القتالِ مع الكفار، وعلم أنه لو اشتغل بالصَّلاةِ انهزم عَسْكَرُ الإسلام وجب عليه تَرْكُ الصَّلاةِ، والاشتغال بالقتال، حتى لو صلَّى وترك القتال أثِمَ، ولو ترك الصلاة وقاتل، استحق الثُّوابَ، بل نقول: إنَّ مَنْ كان في الصلاة ورأى طِفْلاً، أو أعمى أشرف على الحَرْقِ أو غَرَقٍ، وجب عليه قَطْعُ الصلاة لإنقاذ الطفلِ، والأعمى من البلاء, فكذا ها هنا تكلم إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - بهذه الكلمات ليظهر من نفسه مُوافقةَ القوم، حتى إذا أورد عليهم الدَّليل المُبْطل لقولهم، كان قَبُولُهُمْ لذلك الدليل أتَمَّ، وانتفاعهم به أكْمَلَ، ويقوي هذا الوجه أنه - تعالى - حكى عنه مثل هذا الطريق في قوله:
{ { فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي ٱلنُّجُومِ فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ فَتَوَلَّوْاْ عَنْهُ مُدْبِرِينَ } [الصافات:88-90].
وذلك لأنهم كانوا يَسْتَدِلُّونَ بِعِلْمِ النجوم على حصول الحوادثِ المستقبلة، فوافقهم إبراهيم على هذا الطريق في الظَّاهرِ، مع أنه كان بِرِيئاً عنه في الباطنِ، ومقصوده أن يتوسَّل بهذا الطريق إلى كَسْرِ الأصنام، فإذا جازت المُوافقةُ في الظاهر هاهنا مع كونه بريئاً عنه في الباطِنِ، فلمَ لا يجوز أن يكون في مَسْألَتِنَا كذلك؟
وأما الاحتمال الثاني: فهو أنه - عليه الصَّلاة والسَّلام - ذكر هذا الكلامَ قبل البلوغ، وتقريره أن يقال: كان قَدْ خُصَّ إبراهيم - عليه السلام - بالعقل الكامل، والقَريحةِ الصَّافية، فخطر ببالِهِ قبل بلوغه إثبات الصانع - تعالى - فتفكَّرَ فرأى النجوم، فقال: "هَذّا رَبِّي" فلمَّا شاهد حَرَكاتِهِ قال: { لا أحِبُّ الآفلين } ثم إنه - تعالى - أكمل بلوغه في قوله تعالى:
{ { قَالَ يَٰقَوْمِ إِنِّي بَرِيۤءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ } [الأنعام:78].
والاحتمال الأول أوْلَى بالقبول؛ لما ذكرنا من الدلائل.
فإن قيل إن إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - استدلَّ بأفُولِ الكواكب، على أنه لا يجوز أن يكون رَبَّا له، والأفُولُ عبارة عن غَيْبُوبَةِ الشيء بعد ظهوره فيدلُّ على الحدوث من حيث إنه حركة، وعلى هذا التقرير فيكون الطُّلُوعُ أيضاً دليلاً على الحدوث، فَلِمَ ترك إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - الاسْتدلال على حدوثها بالطلوع، وعوَّل في إثبات هذا المطلوب على الأفُولِ؟
الجواب: أن الطلوع والأفُولَ يشتركان في الدلالة على الحدوث، إلا أن الدَّليلَ الذي يحتج به الأنبياء في مَعْرَضِ دعوة الخَلْقِ كلهم إلى الله لا بُدَّ وأن يكون ظاهراً، بحيث يشترك في فَهْمِهِ الذَّكِيُّ والغَبِيُّ، والعاقل والغافل، ودلالة الحركة على الحدوث وإن كانت يَقِينيَّةً إلا أنها دَقِيقَةٌ لا يعرفها إلا الأفَاضِلُ من الخَلْقِ، أما دلالة الأفُولِ على هذا المقصود، فإنها ظَاهِرةٌ يعرفها كل أحَدٍ، فإن الآفِلَ يزول سُلْطَانُهُ وَقْتَ الأفُولِ، فكانت دلالة الأفول على هذا المقصود أتمَّ, وأيضاً فيحتمل أنه إنما اسْتَدَلَّ بالفُولِ من حيث إن الأفول غيبوبة، فإن الإله المَعْبُودَ العالم العادل لا يغيب، ولهذا استدلَّ بظهور الكواكب، وبُزُوغِ القمر والشمس على الإلهية، واستدلَّ بأفولهم على عدمِ الإلهية، ولم يتعرض للاستدلالَ بالحركة، وهل هي تَدُلُّ على الحدوث أم لا؟
قال ابن الخطيب: وفيه دقيقة وهو أنه - عليه الصَّلاة والسلام - إنما كان يُنَاظِرُهُمْ وهم كانوا مُنَجِّمين، ومذهبهم أن الكوكب إذا كان الرُّبْعِ الشرقي، ويكون صاعداً إلى وسطِ السماء كان قويَّاً عظيم التأثير، أما إذا كان غربيَّا وقريباً ومن الأفُولِ، فإنه يكون ضَعيفَ الأثَر قليل القُوَّة، فَنَبَّهَ بهذه الدقيقة على ان الإله هو الذي تتغير قُدْرَتُهُ إلى العَجْزِ، وكماله إلى النقصان، ومذهبكم أن الكوكب حال كونه في الرُّبْعِ الغربي يكون ضعيف القوة، ناقص التأثير, عاجزاً عن التَّدبير، وذلك يَدُلُّ على القَدْح في إلهيته، فظهر على قول المنجمين أن للأفول مَزِيدَ خاصية في كونه موجباً لِلْقَدْح في إلهيته والله أعلم.
فإن قيل: إن تلك اللَّيْلَة كانت مَسْبُوقَةً بنهارٍ وليل، فكان أفُولُ الكواكب والقمر والشمس حاصلاً في الليل السَّابق والنهار السابق، وبهذا التقدير لا يبقى للأفولِ الحاصل في تلك الليلة فَائدةٌ؟
فالجواب: أنا قد بَيَّنَّا أنه - عليه الصَّلاة والسَّلام - إنما أورد هذا الدَّليلَ على القوم الذين كان يدعوهم من عِبَادَةِ النجوم إلى التوحيد، فلا يَبْعُدُ أن يقال: إنه - عليه الصلاة والسلام - كان جالساً مع أولئك الأقوام ليلة من الليالي، فَزَجرهُمْ عن عبادة الكواكب، فبينما هو في تَقْريرِ ذلك الكلام، إذ رفع بَصَرَه إلى كوكب مُضيء، فلما أفَلَ قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام: لو كان هذا الكوكب إلهاً لما انْتَقَلَ من الصُّعُودِ إلى الأفُولِ ومن القُوَّةِ إلى الضعف، ثم في أثناء ذلك الكلام طَلَعَ القمر وأفَلَ فأعاد عليهم ذلك، وكذا القول في الشمس.
فصل في الدلالة في الآية
دَلَّت الآية على أحكام:
أحدها: دلَّتْ على أنه ليس بِجِسْمٍ، إذ لو كان جِسْماً غائباً أبداً لكان آفلا أبداً.
وأيضاً يمتنع أن يكون - تعالى - بحيث ينزل من العَرْشِ إلى السماء تَارةً، ويصعد من السماء إلى العرش أخرى، وإلاَّ يحصل معنى الأفول.
وثانيها: دَلَّتِ الآية على أنه - تعالى - ليس مَحَلاً للصِّفاتِ المحدثة، كما يقول الكرامية، وإلاَّ لكان متغيراً, وحينئذ يحصل معنى الأفولِ، وذلك مُحَالٌ.
ثالثها: دلَّتِ الآية على أنَّ الدين يجب أن يكون مَبْنِياً على الدليل، لا على التَّقْلِيدِ، وإلاَّ لم يكن لهذا الاسْتِدْلالِ فَائِدَةٌ.
ورابعها: دلَّتِ الآية على أن معارف الأنبياء بربِّهِمُ اسْتِدْلاليَّةٌ لا ضرورية، وإلاَّ لما احتاج إبراهيم - عليه السلام - إلى الاستدلال.
وخامسها: دلَّتِ الآية على أنه لا طَرِيقَ إلى تحصيل معرفة الله - تعالى - إلاَّ بالنَّظَرِ والاستدلال في أحْوالِ مخلوقاته، إذ لو أمكن تحصيلها بطريق آخَر لما عدلَ إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - لهذه الطريقة.