التفاسير

< >
عرض

وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي ٱلأَرْضِ أُمَماً مِّنْهُمُ ٱلصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذٰلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِٱلْحَسَنَاتِ وَٱلسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ
١٦٨
فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ ٱلْكِتَٰبَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَـٰذَا ٱلأَدْنَىٰ وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِّيثَٰقُ ٱلْكِتَٰبِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْحَقَّ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ وَٱلدَّارُ ٱلآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ
١٦٩
وَٱلَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِٱلْكِتَابِ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُصْلِحِينَ
١٧٠
-الأعراف

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي ٱلأَرْضِ أُمَماً } الآية.
هذه الآية تدلُّ على أن المراد بقوله:
{ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ } [الأعراف: 167] جملة اليهود، ومعنى "قَطَّعناهُم" أي: فرقناهم في الأرض، وهذا يدلُّ على أنَّهُ لا أرض مسكونة إلاَّ وفيها منهم أمة، وهذا هو الغالبُ.
وقوله: "أمَماً" إمَّا حالٌ من مفعول "قطَّعْنَاهُم"، وإمَّا مفعولٌ ثانٍ على ما تقدَّم من أنَّ "قطَّع" تضمَّن معنى: صَيَّر. و "مِنْهُمُ الصَّالحُون" صفة لـ "أمم".
وقال أبو البقاء: "أو بدل منه، أي: من أمم". يعني: أنَّهُ حالٌ من مفعول: "قطَّعناهُمْ" أي: فرَّقناهُم حال كونهم منهم الصَّالحون.
قيل: المرادُ بـ "الصَّالحينَ" الذين كانوا في زمن موسى - عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ -؛ لأنَّهُ كان فيهم قوم يهدون بالحق.
وقال قتادةُ: هم الذين وراء نهر وداف من وراء الصِّين.
وقال ابنُ عباس ومجاهد: هم الذين آمنوا بالنَّبيِّ صلى الله الله عليه وسلم كـ: عبد الله بن سلام وغيره. وقوله: { وَمِنهُمْ دُونَ ذَٰلِكَ } أي: من أقام على اليهوديِّةِ.
فإن قيل: لم لا يجُوزُ أن يكون قوله: { وَمِنْهُمْ دُونَ ذَٰلِكَ } من يكون صالحاً إلاَّ أنَّ صلاحَهُ دون صلاح الأولين؛ لأنَّهُ أقرب إلى الظاهرِ؟
فالجوابُ: أن قوله بعد ذلك: "لَعَلَّهُمْ يرجعُونَ" يدُل على أنَّ المراد من ثَبَتَ على اليَهُوديَّةِ.
قوله: { وَمِنْهُمْ دُونَ ذٰلِكَ } "منهم" خبرٌ مقدم، و "دُون ذلك": نَعْتٌ لِمنعُوتٍ محذوف هو المبتدأ، والتقدير: ومنهم ناسٌ أو قومٌ دون ذلك.
قال الزمخشري: معناه: ومنهم ناسٌ منحطُّون عن الصَّلاح، ونحوه:
{ وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } [الصافات: 164]. بمعنى: مَا منَّا أحدٌ إلاَّ له مقامٌ معلومٌ. يعني في كونه حذف الموصوفُ وأقيم الجملة الوصفية مقامهُ، كما قام مقامه الظرفُ الوصفيُّ، والتفصيل بـ "مِنْ" يجوزُ فيه حذفُ الموصوف وإقامةُ الصِّفة مقامه كقولهم: منَّا ظَعَنَ ومنَّا أقَامَ.؟
وقال ابنُ عطيَّة: فإن أريدَ بالصَّلاح الإيمانُ فـ "دُونَ" بمعنى "غير" يُراد به الكفرة.
قال أبُو حيان: إن أراد أنَّ دُونَ ترادفُ "غيراً"، فليس بصحيحٍ، وإن أراد أنَّهُ يلزم أنَّ من كان دون شيء أن يكون غيراً له فصحيح، وذلك إمَّا أن يُشارَ به إلى الصَّلاح وإمَّا أن يُشار به إلى الجماعة، فإن أشير به إلى الصلاح؛ فلا بد من حذفِ مضاف، ليصحَّ المعنى، تقديره: ومنهم دُون أهل ذلك الصلاح، ليعتدلَ التقسيم، وإن أُشير به إلى الجماعة، أي: ومنهم دون أولئك الصالحين، فلا حاجة إلى تقدير مضافٍ؛ لاعتدال التقسيم بدونه.
وقال أبو البقاء: دُون ذلِكَ ظرفٌ أو خبر على ما ذكرنا في قوله:
{ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } [الأنعام: 94] وفيه نظر من حيث إن "دُونَ" ليس بخبر.
قوله: { وَبَلَوْنَاهُمْ بِٱلْحَسَنَاتِ } أي: عاملناهم معاملة المبتلى المختبر بالحسناتِ، وهي: النِّعمُ والخصبُ، والعافيةُ، والسَّيِّئاتِ وهي الجدب، والشَّدائدُ.
قال أهل المعاني: وكُلُّ واحدةٍ من الحسناتِ والسيئاتِ تدعُو إلى الطَّاعة، أمَّا النعم فللترغيب، وأمَّا النِّقَمُ فللترهيب.
{ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ }: لكي يندموا ويتوبوا ويرجعوا إلى طاعةِ ربِّهم.
قوله: { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ ٱلْكِتَابَ } الآية.
الخَلَف والخَلْف - بفتح اللام وإسكانها - هل هما بمعنًى واحد؟ أي: يُطلقُ كل منهما على القرن الذي يَخْلُف غيره صالحاً أو طالحاً، أو أنَّ السَّاكن اللام في الطَّالح، والمفتوح في الصَّالح؟ خلافٌ مشهور بين اللُّغويين.
قال الفرَّاءُ: يُقال للقرنِ "خَلْف" يعني ساكناً ولمن استخلفته: خَلَفاً، يعني: متحرك اللاَّم.
وقال الزجاج: الخلفُ ما أخلْفَ عليك بدلاً مِمَّا أخذ منك؛ فلهذا السبب يقالُ للقرنِ يجيء بعد القرنِ "خَلْفٌ".
وقال ثعلبُ: النَّاسُ كلُّهم يقولون "خَلَفُ صدْقٍ" للصَّالح، و "خَلْفُ سوء" للطَّالح؛ وأنشد: [الكامل]

2606 - ذَهَبَ الذينَ يُعَاشُ في أكْنافِهِمْ وبقيتُ في خلْفٍ كَجِلْدِ الأجْرَبِ

وقالوا في المثل: سَكَتَ ألفاً ونطق خَلْفاً ويُعْزَى هذا إلى الفرَّاءِ؛ وأنشد: [المنسرح]

2607- خَلَّفْتَ خَلْفاً ولمْ تدعْ خَلَفَا لَيْتَ بِهِمْ كانَ لا بِكَ التَّلَفَا

وقال بعضهم: قد يجيء في الرَّديء "خَلَفَ" بالفتح، وفي الجيد "خَلْف" بالسُّكُون، فمن مجيء الأول قوله: [المتقارب]

2608 -...................... إلى ذلِك الخَلَفِ الأعوَرِ

_@_ومن مجيء الثاني قول حسان: [الطويل]

2609 - لَنَا القدَمُ الأولى عليْهِمْ وخَلْفُنَا لأوَّلِنَا في طاعةِ اللَّهِ تَابِعُ

وقد جمع بينهما الشَّاعِرُ في قوله: [الرجز]

2610 - إنَّا وَجدْنَا خَلْفنَا بِئْسَ الخَلَفْ عَبْداً إذا ما نَاءَ بالحِمْلِ خَضَفْ

فاستعمل السَّاكن والمتحرك في الرَّديء.
ولهذا قال النَّضْرُ: يجوزُ التَّحريم والسُّكونُ في الرَّديء، فأمَّا الجيدُ فبالتحريك فقط ووافقه جماعةٌ من أهْلِ اللُّغة، إلاَّ الفرَّاء وأبا عبيدٍ، فإنَّهُمَا أجازا السكون في الخلف المراد به الصالح، و "الخَلْف" بالسُّكون فيه وجهان، أحدهما: أنَّهُ مصدر، ولذلك لا يُثَنَّى ولا يُجْمَعُ ولا يُؤنَّث، وعليه ما تقدَّم من قوله:

2611 - إنَّا وَجَدْنَا خَلْفَنَا بئس الخَلَفْ

وإمَّا اسم جمع "خالِف" كـ: رَكْب لراكب، وتَجْر لِتَاجِرٍ.
قاله ابنُ الأنباري: ورَدُّه عليه، بأنَّهُ لو كان اسمَ جمع لم يَجْرِ على المفرد، وقد جرى عليه واشتقاقه إمَّا من الخلافةِ، أي كُلُّ خلفٍ يَخْلُفُ من قبله، وإمَّا من خلفَ النبيذ يَخْلُفُ أي: فَسَدَ.
يقال: خَلَفَ النَّبيذُ يَخْلُفُ خَلْفاً وخُلُوفاً، وكذلك الفَمُ إذا تغيَّرت رائحتُهُ ومن ذلك الحديث "لَخُلُوفُ فمِ الصَّائم".
وقوله: "وَرِثُوا" في محل رفع نعتاً لـ "خَلْف" ويَأخُذُونَ حال من فاعل وَرِثُوا.
وقرأ الحسنُ البصري: وُرِّثُوا بضمِّ الواو وتشديد الرَّاءِ مبنيّاً لما لم يُسَمَّ فاعله، والمعنى انتقل إليهم الكتابُ من آبائهم وهو التَّوراةُ، ويجوز أن يكون: يَأخُذُونَ مستأنفاً أخبر عنهم بذلك.
وقوله: عَرَضَ هذَا الأدْنَى.
قال أبُو عبيدٍ: جميع متاعِ الدُّنْيَا عرض بفتح الرَّاء.
يقال: "الدُّنيا عرضٌ حاضرٌ يأكل منها البرُّ والفاجِرُ". وأما العَرْض بسكون الرَّاء فما خالف الثَّمين، أعني الدَّراهم والدَّنانير وجمعه عروض، فكان العَرْضُ من العَرَض وليس كل عَرَضٍ عَرْضاً. والمعنى: حُطَامُ هذا الشَّيء الأدْنَى يريد الدُّنْيَا، والمرادُ منه: التَّخسيس والتَّحقير، والأدْنَى إمَّا من الدُّنوِّ بمعنى القرب؛ لأنَّهُ عاجل قريب، وإمَّا من دنوِّ الحالِ وسقوطها. وتقدَّم الكلامُ عليه.
قوله ويَقُولُونَ نسقٌ على يَأخذُونَ بوجهيه، وسَيُغْفَرُ معموله، وفي القائم مَقَام فاعله وجهان: أحدهما الجَارُّ بعده وهو "لَنَا" والثاني: أنَّهُ ضمير الأخْذِ المدلول عليه بقوله يَأخُذُونَ أي: سيغفرُ لنا أخذُ العرض الأدْنَى.
قوله: { وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ } هذه الجملة الشَّرطية فيها وجهان:
أظهرهما: أنَّها مستأنفةٌ لا محلَّ لها من الإعراب.
والثاني: أنَّ الواوَ للحال، وما بعدها منصوبٌ عليها.
قال الزمخشري: الواو للحال، أي: يَرْجُون المغفرة وهم مُصِرُّون عائدون إلى فعلهم غير تائبين، وغفرانُ الذُّنُوب لا يصحُّ إلاَّ بالتَّوبةِ، والمُصِرُّ لا غفران له انتهى. وإنَّما جعل الواو للحال لهذا الغرض الذي ذكره من أن الغُفران شرطه التَّوبة، وهو رأي المعتزلة وأمَّا أهْلُ السُّنَّة: فيجوز مع عدم التوبة، لأنَّ الفاعل مختار.
والعَرَض - بفتح الراء - ما لا ثبات له، ومنه استعار المتكلمون: العَرَض المقابل للجوهر.
وقال أبو عبيدة: العَرَضُ - بالفتح - جميعُ متاعِ الدُّنيا غير النقدين. كما تقدَّم.
قال المفسِّرون: المراد بالكلامِ: الإخبارُ عن إصرارهم على الذُّنُوبِ.
وقال الحسنُ: هذا إخبارٌ عن حِرصِهِمْ على الدُّنْيا، وأنهم "يستمتعون" منها.
ثم قال تعالى: { أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِّيثَاقُ ٱلْكِتَابِ } أي: التَّوراة: { أَن لاَّ يَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْحَقَّ } والمرادُ منعهم عن تحريف الكتاب، وتغيير الشَّرائع، لأجل أخذ الرشوةِ.
قوله: { أَن لاَّ يِقُولُواْ } فيه أربعةُ أوجه: أحدها: أنَّ محله رفع على البدل من "مِيثَاقُ"؛ لأن قول الحقّ هو ميثاق الكتاب.
والثاني: أنَّهُ عطفُ بيان له وهو قريب من الأوَّلِ.
والثالث: أنه منصوبٌ على المفعول من أجله.
قال الزمخشريُّ: وإنْ فُسِّرَ ميثاق الكتاب بما تقدَّم ذكره كان: "ألاَّ يقُولُوا" مفعولاً من أجله ومعناه: لئلا يقولوا وكان قد فسَّر ميثاق الكتاب بقوله في التوراة: "من ارتكب ذَنْباً عَظِيماً فإنَّه لا يُغفر له إلا بالتَّوبة"، و "أنْ" على هذه الأقوالِ الثلاثة مصدرية.
الرابع: أنَّ "أنْ" مفسرة لـ "مِيثَاقُ الكتابِ"؛ لأنَّهُ بمعنى القولِ، و "لا" ناهية، وما بعدها مجزوم بها، وعلى الأقوال المتقدِّمة "لا" نافية، والفعلُ منصوبٌ بـ "أنْ" المصدرية و "الحَقَّ" يجوز أن يكون مفعولاً به، وأن يكون مصدراً، وأضيفَ الميثاقُ للكتابِ؛ لأنَّهُ مذكورٌ فيه.
قوله: "ودَرَسُوا" فيه ثلاثةُ أوجه، أظهرُها ما قاله الزمخشريُّ: وهو كونُه معطوفاً على قوله: "ألَمْ يُؤخَذْ"؛ لأنَّهُ تقرير.
فكأنه قيل: أخذ عليهم ميثاق الكتاب ودرسوا، نظيره قوله تعالى:
{ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ } [الشعراء: 18] معناه: قد رَبَّيْنَاك ولَبِثْتَ.
والثاني: أنَّهُ معطوف على "وَرِثُوا".
قال أبُو البقاءِ: ويكونُ قوله ألَمْ يُؤخَذْ معترضاً بينهما وهذا الوجه سبقه إليه الطَّبري وغيره.
الثالث: أنه على إضمار "قَدْ" والتقدير: وقد درسوا. فهو على هذا منصوب على الحال نسقاً على الجملة الشرطية، أي: يقولون: سَيُغْفَرُ لنا في هذه الحال، ويجوز أن يكون حالاً من فاعل: "يَأخُذُوهُ" أي يأخذون العرضَ في حال دَرْسِهم ما في الكتاب المانع من أخذ الرِّشَا وعلى كلا التقديرين فالاستفهامُ اعتراض.
وقرأ الجحدري: أن لا تقُولُوا بتاء الخطابِ، وهو التفاتٌ حسنٌ.
وقرأ علي - رضي الله عنه - وأبو عبد الرحمن السلمي وادَّارَسُوا بتشديد الدَّالِ، والأصلُ: تَدَارَسُوا وتصريفه كتصريف
{ فَٱدَّارَأْتُمْ فِيهَا } [البقرة: 72] وقد تقدم.
ثم قال تعالى: { وَٱلدَّارُ ٱلآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ } أي: من تلك الرَشوة الخبيثة المحقرة "أفلا تَعْقِلُونَ". وقد تقدَّم الكلام على هذه الهمزة والفاء غير مرة.
وقرأ ابنُ عامرٍ ونافعٌ وحفصٌ تَعْقِلُونَ بالخطابِ، والباقون بالغيبة، فالخطابُ يحتمل وجهين: أحدهما: أنه التفاتٌ من الغيبة إلى الخطاب، والمرادُ بالضَّمائر حينئذٍ شيءٌ واحد.
والثاني: أنَّ الخطابَ لهذه الأمَّةِ، أي: أفلا تعقلون أنتم حال هؤلاء وما هم عليه وتتعَجَّبُونَ من حالهم. وأمَّا الغيبةُ فجرى على ما تقدَّم من الضَّمائر، ونقل أبو حيان أنَّ قراءة الغيبة لأبي عمرو وأهل مكَّة، وقراءة الخطاب للباقين.
قوله: "والَّذينَ يُمَسِّكُون": فيه وجهان: أظهرهما: أنَّهُ مبتدأ، وفي خبره حينئذ وجهان: أحدهما: الجملة من قوله { إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُصْلِحِينَ } وفي الرَّابط حينئذ أقوال:
أحدها: أنَّهُ ضميرٌ محذوف لفهم المعنى، والتقدير: المُصْلحين منهم، وهذا على قواعد جمهور البصريين، وقواعد الكوفيين تقتضي أنَّ "ألْ" قائمةٌ مقام الضمير، تقديره: أجْرَ مَصْلحيهمْ؛ كقوله:
{ فَإِنَّ ٱلْجَنَّةَ هِيَ ٱلْمَأْوَىٰ } [النازعات: 41] أي: مَأواهُ، وقوله { مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ ٱلأَبْوَابُ } [ص: 50] أي: أبوابُها، وقوله: { فِيۤ أَدْنَى ٱلأَرْضِ } [الروم: 3] أي: أرضهم، إلى غير ذلك.
والثاني: أنَّ الرَّابطَ تكرُّرُ المبتدأ بمعناه، نحو: زيد قام أبو عبد الله، وهو رأي الأخفش، وهذا كما يُجيزه في الموصول، نحو: أبُو سعيدٍ الذي رويتُ عنه الخُدريُّ، والحجَّاجُ الذي رأيْتُ ابنُ يُوسُفَ، وقد تقدَّم من ذلك شواهدُ.
الثالث: أنَّ الرَّابط هو العموم في "المُصْلحينَ" قاله أبُو البقاء.
قال: "وإن شئْتَ قلت: لمَّا كان المصلحون جنساً والمبتدأ واحد منه استغنيت عن ضمير".
قال شهاب الدين: العمومُ ربطٌ من الروابط الخمسة؛ وعليه قول الشاعر: [الطويل]

2612 - ألاَ لَيْتَ شِعْرِي هَلْ إلَى أمِّ سالمٍ سَبِيلٌ؟ فأمَّا الصَّبْرُ عَنْهَا فَلاَ صَبْرا

ومنه: نعم الرجلُ زيدٌ، على أحد الأوجه:
والوجه الثاني - من وجهي الخبر -: أنَّهُ محذوف، تقديره: والذين يمسكون مأجورون، أو مثابُونَ ونحوه.
وقوله تعالى: { إِنَّا لاَ نُضِيعُ } جملة اعتراضية، قاله الحوفيُّ. ولا ضرورة تدعو إليه.
الثاني من وجْهَيْ "الذينَ يُمَسِّكُون": أنَّه محل جر نسقاً على: "الَّذين يَتَّقُونَ" أي: والدّار الآخرةُ خير للمتقين، وللمتمسكين، قاله الزمخشريُّ.
إلاَّ أنه قال: ويكون قوله: { إنَّا لا نُضيعُ } اعتراضاً سيق لتأكيد ما قبله. وفيه نظرٌ؛ لأنَّه لَمْ يقعْ بين شيئين متلازمين ولا بين شيئين بينهما تعلُّقٌ معنويُّ، فكان ينبغي أن يقول: ويكون على هذا مستأنفاً.
وقرأ العامَّةُ "يُمَسِّكُونَ" بالتشديد مِنْ "مَسَّك" بمعنى "تَمَسَّكَ" حكاه أهلُ التصريف أي: إنَّ: "فَعَّلَ" بمعنى "تفَعَّل"، وعلى هذا فالباءُ للآلة، كهي في "تَمَسَّكْتُ بالحبل".
يقال: مَسَّكْتُ بالشَّيء، وتَمَسَّكْتُ، واسْتَمْسَكْتُ به، وامتسَكْتُ به.
وقرأ أبو بكر عن عاصم، ورويت عن أبي عمرو وأبي العالية "يُمْسِكُونَ" بسكون الميم وتخفيف السين من "أمْسَكَ" وهما لغتان يقال: مَسَكْتُ، وأمْسَكْتُ.
وقد جمع كعبُ بنُ زهير بينهما في قوله: [البسيط]

2613 - ولا تُمَسِّكُ بالعهدِ الذي زَعَمَتْ إلاَّ كَمَا تُمْسِكُ الماءَ الغَرَابِيلُ

ولكن "أمْسَك" مُتعدٍّ.
قال تعالى:
{ وَيُمْسِكُ ٱلسَّمَآءَ } [الحج: 65] فعلى هذا مفعوله محذوف، تقديره: يُمسِكون دينهم وأعمالهم بالكتاب، فالباء يجوزُ أن تكون للحال وأن تكون للآلة أي مصاحبين للكتابِ، أي: لأوامره ونواهيه.
وحجة عاصم قوله تعالى:
{ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ } [البقرة: 229]، وقوله: { أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ } [الأحزاب: 37]، وقوله: { فَكُلُواْ مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ } [المائدة: 4].
قال الواحديُّ: والتشديدُ أقوى؛ لأنَّ التشديد للكثرة، وههنا أريد به الكثرة؛ ولأنَّهُ يقال: أمسكته، وقَلَّمَا يقال: أمسكت به.
وقرأ عبد الله والأعمش: "اسْتَمْسَكُوا"، وأبي: "تَمَسَّكُوا" على الماضي، وهو جيّد لقوله تعالى: { وَأَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ } إذ قل ما يعطف على مستقبل إلاَّ في المعنى.
فصل
أراد والذين يعملون بما في الكتاب.
قال مجاهدٌ: هم المؤمنون من أهل الكتاب كـ: عبد الله بن سلام وأصحابه تمسَّكوا بالكتاب الذي جاء به موسى، فلم يحرفوه ولم يكتموه ولم يتخذوه مأكلةً.
وقال عطاء: أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
{ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أجرَ ٱلْمُصْلِحِينَ } أي: لا نضيع أجرهم، كقوله تعالى:
{ إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً } [الكهف: 30].
فإن قيل: التمسك بالكتاب يشتمل على كل عبادة، ومنها إقامة الصلاة فكيف أفردها بالذِّكر؟ فالجوابُ: أفردها لعلو مرتبتها، فإنَّهَا أعظم العبادات بعد الإيمان.