التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَآ أُوْلَـٰئِكَ كَٱلأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْغَافِلُونَ
١٧٩
وَللَّهِ ٱلأَسْمَآءُ ٱلْحُسْنَىٰ فَٱدْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ ٱلَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِيۤ أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
١٨٠
وَمِمَّنْ خَلَقْنَآ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِٱلْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ
١٨١
وَٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَٰتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ
١٨٢
وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ
١٨٣
-الأعراف

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ } الآية.
اللام في [قوله] لجهنَّمَ يجوزُ فيها وجهان:
أحدهما: أنَّها لامُ الصيرورة والعاقبة، وإنَّما احتاج هذا القائلُ إلى كونها لام العاقبة كقوله تعالى:
{ وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [الذاريات: 56] فهذه علةٌ معتبرةٌ محصورة، فكيف تكون هذه العلة أيضاً؟ وأورد من ذلك أيضاً قول الشاعر: [الوافر]

2628 - لِدُوا لِلْمَوْتِ وابْنُوا لِلْخَرابِ ......................

وقول الآخر: [الطويل]

2629 - ألاَ كُلُّ مَوْلُودٍ فَلِلْموتِ يُولَدُ ولَسْتُ أرَى حيًّا لِحَيٍّ يُخَلَّدُ

وقول الآخر: [الطويل]

2630 - فَلِلْمَوتِ تَغْذُو الوَالِداتُ سخَالَهَا كَمَا لِخرابِ الدُّور تُبْنَى المَسَاكِن

الثاني: أنها للعلة، وذلك أنَّهُم لمَّا كان مآلهم إليها، جعل ذلك سبباً على طريق المجاز. وقد ردَّ ابنُ عطيَّة على من جعلها لامَ العاقبة، فقال: وليس هذا بصحيح ولام العاقبة إنَّما تُتَصَوَّرُ إذا كان فعل الفاعل لم يُقْصَدْ مصيرُ الأمر إليه، وأمَّا هنا فالفعلُ قُصِد به ما يصير الأمر إليه من سُكْناهم لجهنم واللاَّم على هذا متعلقة بـ ذَرَأنَا، ويجوز أن تتعلَّق بمحذوف على أنَّهُ حال من كَثِيراً؛ لأنه في الأصل صفة لها، لو تأخَّرَ، ولا حاجة إلى ادِّعاءِ قلب، وأنَّ الأصل: { ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ لِكثِيرٍ }؛ لأنَّهُ ضرورةٌ أو قليلٌ، و "مِنَ الجِنِّ" صفة لـ "كَثِيراً".
فصل
ومعنى { ذَرَأْنَا } خلقنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس، أخبر الله تعالى أنه خلق كثيراً من الجن والإنس للنار، وهم الذينَ حقت عليهم الْكلمة الأزليَّة بالشّقاوة، ومن خلقه الله لجهنَّمَ، فلا حيلة له في الخَلاصِ منها.
قالت عائشةُ:
"أدرك النّبيُّ صلى الله عليه وسلم جنازة صبيٍّ من صبيان الأنْصَار، فقالت عائشةُ له: طُوبى لَهُ عُصْفُورٌ مِنْ عَصَافِيرِ الجَنَّةِ. فقال صلى الله عليه وسلم: وما يدريكِ؟ إنَّ الله خَلَقَ الجَنَّةَ وَخلَقَ لَهَا أَهْلاً وَهُمْ في أصْلابِ آبَائِهِمْ وخَلَقَ النَّارَ وَخَلَقَ لَهَا أَهْلاً وهُمْ في أَصْلابِ آبائِهِمْ" .
فصل
هذه الآية أيضاً تَدُلُّ على مسألة خلق الأعمالِ لأنَّهُ تعالى صرَّحَ بأنَّهُ خلق كثيراً من الجن والإنس لجهنم ولا مزيد على بيان كلام اللَّهِ، وأيضاً أنه لمَّا أخبر عنهم أنَّهُم من أهل النَّارِ، فلو لم يكونوا من أهل النَّارِ انقلب علم اللَّهِ جهلاً، وخبره الصِّدق كذباً، وكل ذلك محال ومن علم كون الشَّيءِ محالاً امتنع أن يريدهُ، فامتنع أن الله تعالى يريد أن لا يدخلهم النار بل يجب أن يريد أن يدخلهم النار، وذلك هو الذي دَلَّ عليه لفظ الآية، وأيضاً إنَّ القادرَ على الكُفْرِ إن لم يقدر على الإيمان، فالذي خلق فيه القدرة على الكُفْرِ فقد أرادَ أن يدخله النار، وإن كان قادراً على الكفر والإيمان معاً؛ امتنع رجحان أحد الطَّرفين على الآخر لا لمرجح وذلك المرجح إن حصل من قبله لزم التسلسل، وإن حصل من قبل اللَّهِ تعالى، فهو المرادُ. فلمَّا كان هو الخالقُ للدَّاعية الموجبة للكفر فقد خلقه للنَّارِ قطعاً، وأيضاً: لو خلقه اللَّهُ تعالى للجنَّةِ وأعانه على اكتساب ما يوجب دخول الجنَّةِ، ثم قدرنا أنَّ العبد سعى في تحصيل الكُفْرِ الموجب لدُخُولِ النَّارِ، فحينئذٍ حصل مُرَادُ العبدِ، ولم يحصل مرادُ اللَّهِ تعالى فلزمَ كون العبد أقدر وأقوى من اللَّهِ، وذلك لا يقوله عاقلٌ، وأيضاً: إنَّ العاقلَ لا يريدُ الكُفْرَ والجهل الموجب لاستحقاق النار، وإنَّما يريدُ الإيمان والمعرفة الموجبة لاستحقاق الجنَّةِ فلما حصل الكفر، والجهل على خلاف قصد العبد وضد جدّه واجتهاده؛ وجب أن لا يكون حصوله من قبل العبد، بل يجبُ أن يكون حصوله من الله تعالى.
فإن قيل: العبْدُ إنَّما سعى في تحصيل ذلك الاعتقاد الفَاسِد؛ لأنَّهُ اشتبه عليه الأمر وظن أنه الحقُّ الصَّحيحُ.
فنقولُ: فعلى هذا التقدير إنَّما وقع في هذا الجَهْلِ لأجل ذلك الجَهْلِ المتقدِّم، فإن كان إقدامه على ذلك الجهل السَّابق لجهل آخر سابق، لزم التسلسل، وهو محال، وإن انتهى إلى جهل حصل ابتداء لا لسابقة جهل آخر، فقد توجه الإلزام.
قالت المعتزلة: لا يمكن أن يكون المراد من هذه الآية ما ذكرتم، لأن كثيراً من الآيات دلت على أنه تعالى أراد من الكل الطاعة والعبادة.
قال تعالى:
{ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ أِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ ٱللَّهِ } [النساء: 64] وقال: { وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُواْ } [الفرقان: 50] وقال: { هُوَ ٱلَّذِي يُنَزِّلُ عَلَىٰ عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَكُم مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ } [الحديد: 9].
وقال:
{ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْمِيزَانَ لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلْقِسْطِ } [الحديد: 25].
وقال
{ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ } [إبراهيم: 10].
وقال:
{ وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [الذاريات: 56] وأمثال هذه الآيات كثيرة. ونحن نعلم بالضَّرورة أنه لا يجوز وقوع التناقض في القرآن، فعلمنا أنَّه لا يُمْكنُ حَمْلُ قوله: { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْسِ } على ظاهره.
الثاني: أنه تعالى قال بعدها: { لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا } ذكر ذلك في معرض الذم لهم، ولو كانوا مخلوقين للنَّارِ ما كانُوا قادرين على الإيمان ألبتة وعلى هذا: فيقبح ذمُّهُم على تركِ الإيمان.
الثالث: أنَّه تعالى لو خلقهم للنَّارِ لما كان له على أحد من الكُفَّارِ نعمة أصلاً؛ لأنَّ منافع الدُّنيا بالنسبة إلى العذاب الدائم، كالقطرة في البحر، وكان كمن دفع إلى إنسان حلوى مسمومة فإنَّه لا يكون منعماً عليه، فكذا ههنا، ولمَّا كان القرآن مملُوءاً من كثرة نعم الله على كل الخَلْق علمنا أنَّ الأمر ليس كما ذكرتم.
الرابع: أنَّ المَدْحَ والذَّمَّ، والثَّواب والعقاب، والترغيب والترهيب، يبطل هذا المذهب الذي ينصرونه.
الخامس: لو خلقهم للنَّارِ، لوجب أن يخلقهم ابتداء في النَّارِ؛ لأنَّه لا فائدة في أن يستدرجهم إلى النار بخلق الكفر فيهم.
السادس: أن قوله: { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ } متروك الظَّاهر، لأنَّ جهنَّم اسم للموضع المعين، ولا يجوز أن يكون الموضع المعيَّن مراداً منه، فثبت أنه لا بد وأن يقال: إن ما أراد الله لخلقه منهم محذوف. وكأنَّهُ قال: ولقد ذَرَأنَا لكي يكفروا، فيدخلوا جهنم، فصارت الآية متروكة الظَّاهر، فيجب بناؤها على قوله:
{ وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ } [الذاريات: 56] لأن ظاهرها يصح بدون حذف.
السابع: أنه إذا كان المرادُ أنَّهُ ذرأهم لكي يكفروا، فيصيروا إلى جهنم، عاد الأمر في تأويلهم إلى أن هذه اللاَّم لام العاقبة، لكنهم يجعلونها للعاقبة مع أنَّهُ لا استحقاق للنَّار ونحن قد تأولناها على عاقبة حاصلة مع استحقاق النار. فكان قولنا أولى.
فثبت بهذه الوجوه أنه لا يمكن حمل هذه الآية على ظاهرها، فوجب المصير إلى التأويل، وتقريره: أنه لما كانت عاقبة كثير من الجن والإنس هي دخول النَّارِ. جاز ذكر هذه اللاَّم بمعنى العاقبة.
ولهذا نظائر كثيرة في القرآن والشِّعر.
أمَّا القرآنُ فقوله تعالى:
{ وَكَذَٰلِكَ نُصَرِّفُ ٱلآيَاتِ وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ } [الأنعام: 105] ومعلوم أنه تعالى ما صرفها ليقولوا ذلك؛ لكنَّهم لمَّا قالُوا ذلك حسن ورود هذا اللفظ.
وقال تعالى:
{ رَبَّنَآ إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ } [يونس: 88].
وقال:
{ فَٱلْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } [القصص: 8]. ولم يلتقط لهذا الغرض، إلاَّ أنه لمَّا كانت عاقبة أمرهم ذلك حسن هذا اللفظ.
وأما الشعر فقوله: [الطويل]

2631 - ولِلْمَوْتِ تَغْذُو الوالِدَاتُ سِخَالَهَا كَمَا لِخَرابِ الدُّور تُبْنَى المَسَاكِنُ

وقال: [البسيط]

2632 - أمْوالُنَا لِذَوي الميراثِ نَجْمَعُهَا ودُورنا لِخرابِ الدَّهْرِ نَبْنِيهَا

وقال: [الوافر]

2633 - لَه مَلكٌ يُنَادِي كُلَّ يَوْمٍ لِدُوا للْمَوْتِ وابْنُوا لِلْخَرَابِ

وقال: [المتقارب]

2634 - فأُمَّ سِمَاكٍ فلا تَجْزَعِي فَلِلموتِ ما تَلِدُ الوالِدَهْ

هذا منتهى كلام المعتزلة.
واعلم أنَّ المصير إلى التَّأويل إنَّما يَحْسُنُ إذا ثبت بالدَّليلِ العقليِّ امتناع حمل هذا اللَّفْظِ على ظاهره، وقد بيَّنَّا بالدليل العقليِّ أن الحقَّ ما دل عليه ظاهر اللفظ، فصار التَّأويل ههنا عبثاً، وأمَّ الآياتُ التي تمسكوا بها فمعارضة بالبحار الزاخرة من الآيات الدالة على مذهب أهل السُّنَّةِ، ومن جملتها ما قبل هذه الآية:
{ مَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْخَاسِرُونَ } [الأعراف: 178] وما بعدها، وهو قوله: { وَٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ } ولمَّا كان ما قبل هذه الآية وما بعدها ليس إلاَّ ما يُقوي قولنا كان تأويل المعتزلة في هذه الآية ضعيفاً جداً.
قوله: "لَهُمْ قُلُوبٌ" جملة في محلِّ نصب إمَّا صفةً لـ "كثيراً" أيضاً، وإمَّا حالاً من: "كثيراً" وإن كان نكرة لتخَصُّصه بالوصفِ، أو من الضمير المستكن في مِنَ الجِنِّ؛ لأنَّهُ تحمل ضميراً، لوقوعه صفة، ويجوز أن يكون لَهُمْ على حدته هو الوَصْفُ، أو الحالُ، وقُلُوبٌ فاعل به فيكون من باب الوصف بالمفرد، وهو أولى.
وقوله: "لا يَفْقَهُونَ بِهَا" وكذلك الجملةُ المنفيَّة في محلِّ النَّعْتِ لما قبلها، وهذا الوصفُ يكادُ يكونُ لازماً، لوروده في غير القرآن؛ لأنَّهُ لا فائدة بدونه؛ لو قلت: لزيد قَلْبٌ وله عَيْنٌ، وسَكَتَّ لم يظهر لذلك كبير فائدة.
فصل
المعنى: لَهُمْ قلوبٌ لا يعلمون بها الخير والهدى، ولهُم أعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بها طريق الحق، ولهُمْ آذانٌ لا يسمعُون بها مواعظ القرآن فيتفكرون فيها ويعتبرون. ثم ضرب لهم مثلاً في الجَهْلِ والاقتصار على الأكل والشرب، فقال: { أُوْلَـٰئِكَ كَٱلأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ } أي: أنَّ همتهم الأكل والشُّرب والتمتع بالشَّهواتِ { بَلْ هُمْ أَضَلُّ }؛ لأنَّ الأنعام تُميز بين المضار والمنافع فلا تقدمُ على المضار، وهؤلاء يقدمون بالشهوات على النَّار معاندةً مع العلم بالهلاك.
وقيل: لأنَّ الأنعام مطيعة للَّهِ تعالى والكافر غير مطيع.
وقال مقاتلٌ: هم أخطأ طريقاً من الأنعام؛ لأنَّ الأنعام تعرفُ ربَّها، وهم لا يعرفون ربُّهم ولا يذكرونه.
وقيل: لأنَّها تفر إلى أربابها ومن يقوم بمصالحها، والكافِرُ يهرب عن ربِّه الذي أنعم عليه.
وقيل: لأنَّهَا تضل إذا لم يكن معها مرشد، فإن كان معها مرشد فقلما تضلُّ، وهؤلاء الكفار قد جاءهم الأنبياء وهم يزدادون في الضلال: { أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْغَافِلُونَ }.
فصل
دلَّت الآيةُ على أنَّهُ تعالى كلَّفهم مع أن قلوبهم، وأبصارهم، وأسماعهم ما كانت صالحةً لذلك، وهو يجري مجرى المنع عن الشيء والصَّد عنه مع الأمر به.
قالت المعتزلةُ: لو كانوا كذلك لقبح من الله تكليفهم؛ لأن تكليف من لا قُدْرَةَ له على الفعل قبيحٌ لا يليق بالحكيم؛ فوجب حمل الآية على أنَّ المرادَ منه كثرة الإعراض عن الدَّلائلِ وعدم الالتفات إليها، فأشْبَهُوا من لا قَلْبَ له فاهم ولا عين باصرة ولا أذن سامعة.
وأجيبُوا بأنَّ الإنسان إذا تأكدت نُفْرتُهُ عن شيء صارت تلك النُّفرة المتأكدة الراسخة مانعة له عن فهم الكلام الدَّال على صحَّة الشيء، ومانعة عن إبصار محاسنه وفضائله وهذه حالة وجدانية ضرورية يجدُها كلُّ أحدٍ من نفسه. ولهذا قالوا في المثل: حُبُّكَ للشَّيءِ يُعْمِي ويُصِمُّ.
وإذا ثبت هذا فنقول: إن أقواماً من الكُفَّارِ بلغوا في عداوة الرسول - عليه الصلاة والسلام - وفي بغضِهِ وشدَّةِ النُّفرةِ عن قبول دينه والاعتراف برسالته هذا المبلغ وأقوى منه والعلمُ الضروريُّ حاصلٌ بأنَّ حصول الحُبِّ والبُغْض في القلب ليس باختيارِ أحدٍ.
وإذا ثبت أنَّهُ متى حصلت هذه النُّفرة والعداوةُ في القلب، فإنَّ الإنسان لا يمكنه مع تلك النُّفرة الراسخة والعداوة الشديدة تحصيل الفهم والعلم، فإذا كان كذلك كان القولُ بالجبر لا محيص عنهُ.
فصل
وقد أورد الغزالي في الإحياء سؤالاً، فقال: فإن قيل: إني أجد من نفسي أنَّي إن شئت الفعل فعلت، وإن شئت الترك تركت، فيكون فعلي حاصلاً بي لا بغيري.
ثم أجاب وقال: هَبْ أنَّكَ وجدت من نفسك ذلك إلاَّ أنَّا نقول: وهل تجد من نفسك أنك إن شئت أن تشاء شيئاً شئته، وإن شئت أن لا تشاء [لم تشأه]، ما أظنك أن تقول ذلك وإلاَّ لذهب الأمر فيه إلى ما لا نهاية له؛ بل شِئْتَ أو لمْ تَشَأ فإنَّك تشاء ذلك الشيء وإذا شئته فشئت أو لم تشأ فعلته؛ فلا مشيئتك به ولا حصول فعلك بعد حصول مشيئتك فالإنسان مضطر في صورة مختار.
واسْتَدَلُّوا بهذه الآية على أنَّ محل العلم هو القلب؛ لأنَّهُ تعالى نفى الفقه والفهم عن قلوبهم في معرض الذَّم.
قوله تعالى: { وَلِلَّهِ ٱلأَسْمَآءُ ٱلْحُسْنَىٰ فَٱدْعُوهُ بِهَا } الآية.
وهذا كالتَّنبيه على أنَّ الموجب لدخولهم جهنم هو الغفلة عن ذكر الله.
واعلم أنَّ قوله: { وَلِلَّهِ ٱلأَسْمَآءُ ٱلْحُسْنَىٰ } مذكورٌ في أربع سور:
أولها: هذه السُّورة.
وثانيها: آخر الإسراء
{ قُلِ ٱدْعُواْ ٱللَّهَ أَوِ ٱدْعُواْ ٱلرَّحْمَـٰنَ أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ ٱلأَسْمَآءَ ٱلْحُسْنَىٰ } [الإسراء: 110].
وثالثها: أول طه:
{ ٱللَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ ٱلأَسْمَآءُ ٱلْحُسْنَىٰ } [طه: 8].
ورابعها: آخر الحشر
{ لَهُ ٱلأَسْمَآءُ ٱلْحُسْنَىٰ } [الحشر: 24].
والحسنى فيها قولان، أظهرهما: أنها تأنيث: "أحْسَن" والجمع المكسَّرُ لغير العاقل يجوزُ أن يُوصفَ به المؤنث نحو:
{ مَآرِبُ أُخْرَىٰ } [طه: 18] ولو طوبق به لكان التَّركيب "الحَسَن" كقوله: { مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } [البقرة: 184].
والثاني: أنَّ "الحُسْنَى" مصدر على "فُعْلَى" كالرُّجْعَى، والبُقْيَا.
قال: [الوافر]

2635 - ولا يَجْزُونَ مِنْ حُسْنَى بِسُوءٍ ............................

والأسماءُ هنا: الألفاظُ الدَّالَّةُ على الباري تعالى كـ: اللَّه والرَّحمن.
قال القرطبي: وسمَّى اللَّهُ أسماءَهُ بالحسنى؛ لأنَّها حسنةٌ في الأسماعِ والقلوب؛ فإنَّهَا تدلُّ على توحده وكرمه وجُودِهِ ورحمته وإفضاله.
وقال ابن عطية المرادُ بِهَا التَّسْمِياتُ إجماعاً من المتأولين لا يمكنُ غيره. وفيه نظرٌ؛ لأنَّ التسمية مصدرٌ، والمصدر لا يُدْعى به على كلا القولين في تفسير الدعاء، وذلك أنَّ معنى فادْعُوهُ نادوه بها، كقولهم: يا الله، يا رحمن، يا ذا الجلال والإكرام، اغفر لنا.
وقيل: سموهُ بها كقولك: سَمَّيْتُ ابني بزَيْدٍ، والآية دَالَّةٌ على أنَّ لله تعالى أسماء حسنة وأنَّ الإنسان لا يدعو الله إلاَّ بها، وأنَّها توقيفية لا اصطلاحيَّة؛ لأنَّهُ يجوز أن يقال: يا جوَّاد ولا يجوز أن يقال: يا سخي، ويجوز أن يقال: يا عالم، ولا يجوز أن يقال: يا فقيه، يا عاقل يا طبيبُ.
وقال تعالى:
{ يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ } [النساء: 142].
وقال:
{ وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ ٱللَّهُ } [آل عمران: 54] ولا يقال في الدُّعاء: يا مخادع يا مَكَّارُ.
روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"إنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وتسعينَ اسْماً مائَةً إلاَّ واحداً من أحْصَاهَا دَخَلَ الجنَّة" . "إنَّهُ وترٌ يحبُّ الوتْرَ"
قوله: { وَذَرُواْ ٱلَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِيۤ أَسْمَآئِهِ } قرأ حمزة هنا، وفي النَّحل، وحم السجدة يَلْحَدُونَ بفتح الياءِ والحاء من "لَحَدَ" ثلاثياً، والباقون بضم الياءِ وكسر الحاء، من "ألحَدَ".
فقيل هما بمعنى واحد وهو: المَيْل والانحراف، ومنه: لَحْد القبر؛ لأنَّهُ يُمَال بحفرة إلى جانبه، بخلاف الضَّريحِ؛ فإنَّه يُحْفَرُ في وسطه.
ومن كلامهم، ما فعل الواحدُ؟ قالوا: لَحَدَهُ اللاَّحد، وإلى كونهما بمعنى واحد ذهب ابنُ السِّكيت وقال: هما العدول عن الحقِّ، وألحد: أكثر استعمالاً من "لَحَدَ"؛ قال: [الرجز]

2636 - لَيْسَ الإمَامُ بالشَّحِيحِ المُلْحِدِ

وقال غيره: "لَحَدَ: بمعنى: رَكَنَ وانضوى، وألْحَدَ، مالَ وانْحَرَفَ" قاله الكسائي ونُقل عنه أيضاً: ألْحَدَ: أعرضَ، ولحد: مال.
قالوا: ولهذا وافق حمزة في النَّحْلِ إذ معناه: يميلون إليه.
وروى أبو عبيدة عن الأصمعي: "ألْحَدَ: مارَى وجادل، ولحد: حَادَ ومَالَ".
فصل
ورُجِّحَت قراءةُ العامَّةُ بالإجماع على قوله:
{ بِإِلْحَادٍ } [الحج: 25].
وقال الواحديُّ: ولا يكادُ يُسْمع من العرب لاحد، يعني: فامتناعهم من مجيء اسم فاعل الثلاثي يدلُّ على قلَّته وقد تقدم من كلامهم "لَحَدَهُ اللاَّحِدُ". ومعنى الإلحاد فيها أن اشتقُّوا منها أسماءً لآلهتهم فيقولون "اللاَّت" من لفظ الله، و "العزَّى" من لفظ العزيز، و "مناة" من لفظ المنَّان، ويجوز أن يراد سمَّوه بما لا يليق بجلاله، مثل تسميته أباً للمسيح، وكقول النصارى: أب، وابن، وروح القدس.
ثم قال: { سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } وهذا تهديد ووعيدٌ لمن ألحد في أسماء اللَّهِ.
قوله تعالى: { وَمِمَّنْ خَلَقْنَآ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِٱلْحَقِّ } الآية.
"مَنْ" يجوز أن تكون موصولة أو نكرة موصوفة، و "يَهْدُونَ" صفة لـ "أمَّةٌ".
وقال بعضهم: في الكلام حذفٌ تقديره: وممَّن خلقنا للجنَّةِ، يدلُّ على ذلك ما ثبت لمقابلهم وهو قوله: { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ }.
فصل
المرادُ بالأمة العلماء.
قال عطاء عن ابن عبَّاسٍ: يريدُ أمَّة محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وهم المهاجرون والأنصار والتَّابعون لهم بإحسان.
وقال قتادة:
"بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ هذه الآية قال: هذه لكم وقد أعطي القوم بين أيديكم مثلها" : { { وَمِن قَوْمِ مُوسَىٰ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِٱلْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ } [الأعراف: 159].
وقال معاوية: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"لا تزالُ مِنْ أمَّتِي أمَّةٌ قائمةٌ بأمْرِ الله لا يَضُرُّهمْ من خذلَهُمْ ولا من خالفَهُمْ حتَّى يأتيَ أمْرُ اللَّهِ وهُمْ على ذلِكَ" .
قوله تعالى: { وَٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ } الآية.
والذين فيه وجهان: أظهرهما: أنَّهُ مبتدأ، وخبره الجملة الاستقبالية بعده.
والثاني: أنَّه منصوب على الاشتغال بفعلٍ مقدَّرٍ تقديره: سنستدرج الذين كذَّبُوا، والاستدراج التقريبُ منزلةً منزلةً، والأخذ قليلاً قليلاً من الدَّرج؛ لأنَّ الصَّاعد يَرْقَى درجة درجة وكذلك النَّازل.
وقيل: هو مأخوذٌ من الدَّرْج وهو الطيُّ، ومنه دَرَجَ الثَّوب، طَوَاهُ، ودرج الميِّت مثله، والمعنى: تُطوى آجَالهُمْ.
وقرأ النخعي وابنُ وثَّابٍ: سَيَسْتدْرِجُهُم بالياءِ، فيحتملُ أن يكون الفاعلُ الباري تعالى وهو التفاتٌ من المتكلم إلى الغيبة، وأن يكون الفاعلُ ضمير التكذيب المفهوم من قوله: "كَذَّبوا"؛ وقال الأعشى في الاستدراج: [الطويل]

2637 - فَلَوْ كُنْتَ فِي جُبٍّ ثمانينَ قَامَةً ورُقِّيتَ أسْبَابَ السَّماءِ بسُلَّم
لَيَسْتَدْرِجَنْكَ القَوْلُ حتَّى تَهِرَّهُ وتَعْلَمَ أنِّي عَنْكُمُ غَيْرُ مُفْحَمِ

فصل
ويقال: درج الصَّبيُّ: إذا قارب بين خطاه، ودرج القومُ: مات بعضهم إثْرَ بعض.
فصل
لمَّا ذكر حال الأمة الهادية العادلة، أعاد ذكر المكذبين بآيات الله تعالى فقال: { وَٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا } وهذا يعمُّ كل مكذب، وعن ابنِ عبَّاسٍ: المرادُ أهل مكة، وهو بعيد.
وقال عطاءٌ: سنمكر بهم، وقيل: نأتيهم من مأمنهم كقوله:
{ فَأَتَاهُمُ ٱللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ } [الحشر: 2].
وقال الكلبيُّ: نُزين لهم أعمالهم لتهلكهم. وقال الضَّحَّاكُ كُلَّما جَدَّدُوا معصيةً جَدَّدْنَا نعمة.
وقال سُفيانُ الثَّوري: نُسْبغُ عليهم النِّعم ثم نَسْلُبُهُم الشُّكْرَ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلمُون ما يراد بهم، ثمَّ يأخذهم اللَّهُ دفعة واحدة على غرَّتِهِمْ أغفل ما يكون ولهذا قال عمرُ بنُ الخطابِ - رضي الله عنه - لمَّا حُمِلَ إليه كنوز كسرى اللَّهُمَّ إني أعوذ بك أن أكُونَ مستدرجاً، فإني سمعتك تقولُ: { سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ }.
قوله: { وَأُمْلِي لَهُمْ } جوَّز أبُو البقاءِ فيه أن يكون خبر مبتدأ مضمرٍ، أي: وأنَا أمْلِي وأن يكونا مستأنفاً، وأن يكون معطوفاً على سَنَسْتَدْرجُ، وفيه نظر: إذ كان من الفصاحة لو كان كذا لكان ونُمْلِي بنون العظمة. ويجوزُ أن يكون هذا قريباً من الالتفات والإملاء: الإمهالُ والتطويل، والمتين: القويُّ، ومنه المَتْنُ وهو الوسط؛ لأنَّه أقْوَى ما في الحيوان، وقد مَتُنَ يَمْتُنُ مَتَانَةً أي: قَوِيَ.
وقرأ العامَّةُ إنَّ كَيْدِي بالكسر على الاسئناف المُشْعر بالعليَّة.
وقرأ ابنُ عامرٍ في رواية عبد الحميد أنَّ كَيْدِي بفتح الهمزةِ على العلَّةِ.
والمَلِيُّ: زمان طويل من الدَّهْرِ، ومنه قوله:
{ وَٱهْجُرْنِي مَلِيّاً } [مريم: 46] أي: طويلاً والمعنى: أطيل لهم مدة أعمارهم ليتمادوا في المعاصي، ولا أعاجلهم في العقوبة، ليقلعوا عن المعصية بالتَّوبةِ.
وقوله: { إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ } قال ابنُ عباسٍ: يريد: إنَّ مكري شديدٌ.