التفاسير

< >
عرض

يَابَنِيۤ ءَادَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ ٱلشَّيْطَانُ كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِّنَ ٱلْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَآ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا ٱلشَّيَاطِينَ أَوْلِيَآءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ
٢٧
-الأعراف

اللباب في علوم الكتاب

اعلم أنَّ المَقْصُود من ذكر قَصَص الأنْبِيَاءِ - عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ - حصولُ العِبْرَةِ لمن يَسْمَعُهَا، فالله - تعالى - لما ذَكَرَ قصَّة آدم، وبيَّن فيها شدَّة عداوة الشَّيْطان { كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ ٱلْجَنَّةِ }، وذلك لأن الشَّيْطَانَ لما بلغ بكيده، ولُطْفِ وسْوَسَتِهِ إلى أن قدر على إلقاء آدم في الزّلة الموجبة لإخراجه من الجنَّة فبأن يقدر على أمثال هذه المضار في حقِّ بني آدم أولى.
فقوله: "لا يَفْتِنَنَّكُم" هو نهي للشَّيْطَان في الصُّورةِ، والمرادُ نَهْيُ المخاطبين عن متابعته والإصغاء إليه، والمعنى: لا يصرفنكم الشيطان عن الدِّين كما فَتَنَ أبَوَيْكُم في الإخْرَاجِ من الجنَّةِ، وقد تقدَّم معنى ذلك في قوله:
{ { فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ } [الأعراف: 2].
وقرأ ابن وثَّابٍ وإبْرَاهِيمُ: "لا يُفْتِنَنَّكُمْ" [بضمّ] حرف المضارعة من أفْتَنَهُ بمعنى حَمَلَهُ على الفِتْنَةِ.
وقرأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: "لا يَفْتِنْكُم" بغير نون توكيدٍ.
قوله: "كَمَا أخْرَجَ": نعت لمصدر محذوف أي: لا يَفْتننكم فتنةً مثل فتنة إخْرَاجِ أبَويكُم. ويجوزُ أن يكُون التَّقْدِيرُ: لا يُخْرِجَنَّكم بفتنته إخراجاً مثل إخْرَاجِ أبويكم.
و "أبَويْكُم" واحدهُ أبٌ للمذكَّر، وأبة للمُؤنَّثِ، فعلى هذا قيل "أبَوَانِ".
فصل في دحض شبهة من نسب المعاصي إلى الله
قال الكَعْبِيُّ: هذه حجَّةٌ على من نسب المَعَاصِي إلى اللَّهِ تعالى؛ لأنه تعالى نسبَ خروج آدم وحوَّاء، وسائر وجوه المعَاصِي إلى الشَّيْطَان، وذلك يَدُلُّ على أنَّهُ تعالى [بريءٌ عنها، فيقال له: لِمَ قُلْتُم أنَّ كون هذا العمل منسوباً إلى الشَّيْطَانِ يمنع من كونه منسوباً إلى الله تعالى؟] ولِمَ لا يجوزُ أن يقال إنَّهُ تعالى لمَّا خلق القُدْرَةَ والداعية الموجبتين لذلك العمل كان منسوباً إلى الله؟ ولما أجرى عادته بأنه يخلق تلك الدَّاعية بعد تزيين الشيطان وتحْسينِهِ تلك الأعمال، عند ذلك الكَافِرِ، كان منسوباً إلى الشَّيْطَانِ؟
فصل في إخراج آدم من الجنة عقوبة له
ظاهرُ الآيةِ يَدُلُّ على أنَّهُ تعالى إنَّمَا أخرج آدَمَ وحَوَّاءَ من الجنة، عُقُوبَة لهما على تلك الزَّلَةِ، وظاهرُ قوله تعالى:
{ إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً } [البقرة: 30] يَدُلُّ على أنَّهُ تعالى خلقهما لخلافةِ الأرضِ، فأنْزَلَهُمَا من الجَنَّةِ إلى الأرْضِ لهذا المقصود، فكيف الجمع بين الوَجْهَيْنِ؟
وجوابُهُ: ربما قيل حصل بمجموع الأمْرَيْن، وأنَّهُ خلقه ليجعله خليفة في الأرض، وجعل سبب نزوله إلى الأرْضِ وإخراجه من الجَنَّةِ هي الزلة.
قوله: "يَنْزِعُ" جملة في محل نَصْبٍ على الحالِ، وفي صاحبها احتمالان:
أحدهما: أنَّه الضَّميرُ في "أخْرَجَ" العائدُ على الشَّيْطَانِ، وأضاف نزع اللِّبَاسِ إلى الشَّيْطَانِ، وإن لم يباشر ذلك؛ لأنَّهُ كان بسبب منه، فأُسند إليه كما تقول: "أنْتَ فعلت هذا" لمن حصل ذلك الفعل بسبب منه.
والثاني: أنَّهُ حال من أبَوَيْكُم، وجاز الوجْهَان؛ لأنَّ المعنى يَصِحُّ على كلٍّ من التَّقديرَيْنِ، والصِّناعَةُ مساعدة لذلك، فإنَّ الجملة مشتملةٌ على ضمير الأبَوَيْنِ، وعلى ضَميرِ الشَّيْطَانِ.
قال أبُو حَيَّان: فلو كان بدل "يَنْزِعُ" نازعاً تعيَّن الأوَّلُ؛ لأنه إذ ذاك لو جُوِّز الثَّاني لكان وصفاً جرى على غير مَنْ هو له، فكان يجب إبراز الضَّمير، وذلك على مذهب البَصْرِيِّينَ.
قال شهابُ الدِّين: يعني أنَّهُ يفرَّق بين الاسم والفعل، إذا جَرَيَا على غير ما هُمَا لَهُ في المَعْنَى، فإن كَانَ اسْماً كان مذهب البَصْريِّينَ ما ذكر، وإنْ كان فعلاً لم يَحْتَجْ إلى ذلك، وقد تقدَّم الكلامُ على هذه المَسْألةِ، وأنَّ ابن مالكٍ سَوَّى بينهما، وأنَّ مكيًّا له فيها كلامٌ مُشْكلٌ.
وجيء بِلَفْظِ "يَنْزعُ" مضارعاً على أنَّهُ حكاية حال كأنَّها قد وقعت وانقضت.
والنَّزْعُ: الجَذْبُ للشَّيءِ بقوَّة عن مقرِّه، ومنه:
{ تَنزِعُ ٱلنَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ } [القمر: 20].
ومنه نَزْع القوس وتستعمل في الأعراض، ومنه نَزْعُ العداوةِ والمحَبَّةِ من القَلْبِ، ونُزع فلان كذا سُلبَه، ومنه
{ وَٱلنَّازِعَاتِ غَرْقاً } [النازعات: 1] لأنَّها تَقْلَعُ أرواح الكَفَرَة بِشِدَّةٍ، ومنه المُنَازَعَةُ وهي المخاصمة.
والنَّزْعُ عن الشَّيْء كفٌّ عنه، والنَّزْعُ: الاشتياقُ الشَّديدُ، ومنه نَزَع إلى وَطَنِهِ ونَزَع إلى مذهب كذا نَزْعَةً، وأنْزَعَ القَوْمُ: نَزعَتْ إبلهم إلى مواطنها، ورجل أنْزَعُ أي:زَالَ شعرُه، والنَّزْعَتَانِ بياض يكتنف النَّاصِيَة، والنَّزْعة أيضاً الموضع من رأس الأنْزَعِ، ولا يُقَالُ: امرأةٌ نَزْعَاءُ إذا كان بها ذلك، بل يُقَالُ لها: زَعْرَاءُ، وبئر نَزُوع: أي قَرِيبَةُ القَعْرِ لأنَّهَا يُنزع منها باليدِ.
فصل في معنى "اللباس"
اختلفوا في اللِّبَاسِ الذي نزع عنهما، فقيل: النُّورُ، وقيل: التُّقَى.
وقيل: ثِيَابُ الجَنَّةِ، وهذا أقرب؛ لأنَّ إطلاق اللِّبَاسِ يقتضيه، والمقصودُ، تأكيد التَّحْذِيرِ لبني آدم.
واللامُ في قوله: "لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَآ" لام العاقبة كما ذكرنا في قوله: "لِيُبْدِي لَهُمَا".
وقال ابْنُ عَبَّاسٍ: يرى آدمُ سَوْءَةَ حَوَّاءَ، وترى حواءُ سَوْءَاةَ آدَمَ.
قوله: { إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ } وهو تأكيد للضَّميرِ المتَّصل ليسوَّغَ العطف عليه، كذا عبارة بعضهم.
قال الوَاحِدِيُّ: أعاد الكِنايَةَ ليحسن العَطْفَ كقوله: [
{ ٱسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ ٱلْجَنَّةَ } [البقرة: 35].
قال شهابُ الدِّين: ولا حاجةَ إلى التَّأكِيدِ في مثل هذه الصُّورَةِ] لصِحَّةِ العَطْفِ إذ الفَاصِلُ هنا موجود، وهو كاف في صحة العطف، فليس نظير { ٱسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ }. وقد تقدَّم بحثٌ في { ٱسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ }، وهو أنَّهُ ليس من بابِ العَطْفِ على الضَّمير لمانع ذُكِرَ ثَمَّ.
و "قبيلُه" المشهور قراءته بالرَّفْعِ نسقاً على الضَّميرِ المُسْتَتِرِ، ويجوز أن يكون نَسَقاً على اسم "إنَّ" على الموضع عند مَنْ يجيز ذلك، ولا سِيَّمَا عند مَنْ يَقُولُ: يجوزُ ذلك بعد الخَبَر بإجْمَاع.
ويجوز أنْ يكون مُبْتَدأ محذوفَ الخبر فتحصَّل في رفعه ثلاثةُ أوجهٍ.
وقرأ اليزِيدِيُّ "وقبيلَه" نصباً، وفيها تخريجان.
أحدهما: أنَّهُ منصوبٌ نَسَقاً على اسم "إنّ" لفظاً إن قلنا: إنَّ الضَّميرَ عائد على "الشّيْطَان"، وهو الظَّاهِرُ.
والثاني: أنَّهُ مفعولٌ معه أي: يَرَاكم مُصَاحباً لقبيله.
والضَّميرُ في "إنَّهُ" فيه وجهان:
الظَّاهر منهما كما تقدَّم أنه للشَّيطان.
والثاني: أن يكون ضمير الشَّأن، وبه قال الزَّمَخْشَرِيُّ، ولا حاجة تدعو إلى ذلك.
والقَبِيلُ: الجَمَاعَةُ يكونُونَ من ثلاثةٍ فصاعداً من جماعة شتَّى، قاله أبو عبيد وجمعه قبل، والقبيلةُ: الجماعة من أبٍ واحد، فليست القبيلةُ تَأنِيثُ القَبيلِ لهذه المُغَايَرَةِ.
وقال ابْنُ قُتَيْبة: قبيله: أصحابه وجنده، وقال: "هو وقَبِيلُهُ" أي هو ومن خلق من قبله.
قال القُرْطُبِيُّ: قبيله: جُنُودُهُ.
وقال مُجَاهِدٌ: يعني الجنَّ والشَّيَاطِينَ.
وقال ابْنُ زَيْد: نسله، وقيل: خيله.
قوله: { مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ } "مِنْ" لابتداء غاية الرؤية و "حَيْثُ" ظرف لمكان انتفاء الرُّؤيَةِ، و "لا تَرَوْنَهُم" في محلِّ خفض بإضافة الظَّرْفِ إليه، هذا هو الظَّاهِرُ في إعراب هذه الآية.
ونقل عن أبي إسْحَاقَ كلام مُشْكل، نذكره لئِلاَّ يتوهّم صِحَّتَهُ من رآه.
قال أبو إسحاق: ما بعد "حَيْثُ" صلة لها؛ وليست بمضافة إليه.
قال الفَارِسِيُّ: هذا غير مستقيم، ولا يصحُّ أن يكون ما بعد "حيث" صلة لها؛ لأنَّهُ إذا كان صلة لها؛ وجب أن يكون للموصول فيه ذكر، كما أن سائر صلاة الموصُولِ ذِكْراً للموصول، فَخُلُوُّ الجملة التي بعد "حَيْثُ" من ضمير يَعُودُ على حيثُ دليل على أنَّهَا ليست صلة لـ "حيث"، وإذا لم تكن صلة؛ كانت مضافَةً.
فإن قيل: نقدِّر العائد في هذا كما نُقَدِّرُ [العائد] في المَوْصُولات، فإذا قلت: "رأيتك حيث زيدٌ قائمٌ" كان التَّقْدِيرُ: حيث قائمه ولو قلت: "رأيتُكَ حيثُ قَامَ زَيْدٌ" كان التقدير: حيث قام زيد فيه، ثم اتسعَ في الحرف فحذف، واتَّصل الضَّمِيرُ فحذف، كما يحذف في قولك: زيدٌ الذي ضربت أي الذي ضربته.
فالجواب: لو أُريد ذلك لجاز استعمال هذا الأصل فتركهم لهذا الاستعمال دليل على أنَّهُ ليس أصلاً له.
قال شهابُ الدِّين: أما أبُو إسحاق لم يعتقد كونها موصولة بمعنى "الَّذِي"، لا يقول بذلك أحَدٌ، وإنَّمَا يَزْعُمُ أنَّهَا ليست مضافة للجملة بعدها، فصارت كالصِّلَةِ لها أي: كالزِّيَادَةِ، وهو كلام مُتَهَافِتٌ، فالرَّدُ عليه من هذه الحَيْثِيَّةِ لا من حيْثية اعتقاده لكونها مَوْصُولةً.
ويحتمل أن يكون مراده أنَّ الجملةَ لمَّا كانت من تمَامِ معناها بمعنى أنَّهَا مفتقرةٌ إليها كافْتِقَار الموصول لِصِلَتِهِ أطلق عليها هذه العبارة.
ويَدُلُّ على ذلك أنّ مكّياً ذكر في علة بنائها فقال: "ولأنَّ ما بعدها من تَمَامِهَا كالصِّلَةَ والموصول" إلا أنَّهُ يرى أنَّهَا مضافة لما بعدها.
وقرىء { مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُ } بالإفراد، وذلك يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون الضَّمِيرُ عَائِداً على الشَّيْطَانِ وَحْدَهُ دون قبيله لأنه هو رأسهم، وهم تَبَعٌ له، ولأنَّهُ المَنْهِيُّ عند أوَّلَ الكلامِ.
والثاني: أن يَعُودَ عليه وعلى قبيله، ووحَّد الضَّمير إجراءً له مجرى اسم الإشارة في قوله تعالى:
{ عَوَانٌ بَيْنَ ذٰلِكَ } [البقرة: 68].
ونظير هذه القراءة قول رُؤبَةَ: [الرجز]

2448 - فِيهَا خُطُوطٌ مِنْ سَوَادٍ وَبَلقْ كأنَّهُ فِي الجِلْدِ تَوْلِيعُ البَهَقْ

وقد تقدَّم هذا البَيْتُ بحكايته معه في البقرةِ.
فصل في المراد بالآية
معنى الآيةِ: أنَّ الشَّيْطَانَ يَرَاكُم يا بَنِي آدَمَ هو وقبيلهُ وجنوده، وقال ابْنُ عبَّاسٍ: "هو وَوَلَدُهُ".
وقال قتادةُ: "قبيله الجنُّ والشَّياطين من حيث لا ترونهم".
قال مَالِكُ بْنُ دينارٍ: إن عدواً يراك ولا تراه لشديد الموتة إلاَّ من عصم اللَّهُ.
فصل في بيان رؤية الجن الإنس
قال أهل السُّنَّةِ: إنَّهُم يرون الإنْسَ؛ لأنه تعالى خلق في عيونهم إدراكاً، والإنس لا يرونهم؛ لأنَّهُ تعالى لم يخلق هذه الإدراك في عيون الإنس.
وقالت المُعْتَزلَةُ: الوَجْهُ في أنَّ الإنْسَ لا يرون الجِنَّ لرقة أجْسَامِ الجنِّ، ولطافتها، والوجه في رُؤيَة الجن الإنس كثافة أجسام الإنس، والوجه في أن يرى بعض الجنّ بعضاً أنَّ اللَّه تعالى يقوي شُعَاعَ أبْصَارِ الجِنِّ ويزيد فيه، ولو زاد تعالى في قُوَّةِ أبْصَارِنَا على هذه الحالة لرأيناهم وعلى هذا كون الإنس مبصراً للجن موقوف عِنْدَ المعتزلة إما على زيادة كثافةِ أجسَامِ الجنِّ أو على زيادة قُوَّةِ أبصار الإنْسِ.
وقوله { مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُم } يدل على أنَّ الإنْسَ لا يرون الجِنَّ لأن قوله { مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُم } يتناول أوقات الاستقبال من غير تخصيص.
فصل في تغير الجن في صور مختلفة
قال بعضُ العُلَمَاء: لو قدر الجِنُّ على تغيير صور أنفسهم بأي صورة شَاءُوا وأرَادُوا؛ لوجب أنْ ترتفعَ الثِّقَةُ عن معرفة النَّاس فلعلَّ هذا الذي أشاهده، وأحكم عيه بأنَّهُ ولدي، أو زوجتي جنِّي صور نفسه بصورة ولدي أو زَوْجَتِي وعلى هذا التقدير فيرتفع الوثوق عن معرفة الأشخاصِ، وأيضاً، ولو كانوا قَادِرِين على تخبيط النَّاسِ وإزالة عقولهم عنهم مع أنَّهُ تعالى بين العَدَاوَةَ الشديدة بينهم وبين الإنْسِ، فَلِمَ لا يفعلون ذلك في حق البشر؛ وفي حقِّ العلماء والأفاضل والزهاد؟ لأن هذه العداوة بينهم وبين العلماء والزُّهَّاد أكثر وأقوى، ولما لم يوجد شيء من ذلك ثبت أنَّهُ لا قُدْرَةَ لهم على البشر بوجه من الوُجُوهِ، ويؤكِّدُ ذلك قوله
{ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَٱسْتَجَبْتُمْ لِي } [إبراهيم: 22].
قال مُجَاهدٌ: قال إبليسُ: أعطينا أربعاً: نَرى ولا نُرى، ونخرج من تَحْت الثرى ويعودُ شيخنا فَتَى.
قوله { إِنَّا جَعَلْنَا ٱلشَّيَاطِينَ أَوْلِيَآءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ }.
يحتمل أنْ يكون "جعل" بمعنى "صَيَّر"، أي: صيَّرنَا الشَّياطين أولياء.
وقال الزَّهْرَاوِيُّ "جعل" هنا بمعنى "وصف" وهذا لا يعرف في جعل وكأنه فراراً من إسناد جَعْلِ الشياطين أولياء لغير المؤمنين إلى اللَّهِ تعالى وكأنَّها نزعة اعتزاليَّة.
و "للَّذِينَ" متعلِّقةٌ بـ "أولياء"؛ لأنه في معنى الفعل، ويجوزُ أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ؛ لأنَّه صفة لـ "أولياء".
فصل في المراد بـ "أولياء"
معنى "أولياء" أي: أعْوَاناً وقرناء للَّذين لا يُؤمِنُون.
قال الزَّجَّاجُ: سلطناهم عليهم يزيدون في غَيِّهم كقولهم
{ أَنَّآ أَرْسَلْنَا ٱلشَّيَاطِينَ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً } [مريم: 83] واحتج أهل السنة بهذا النص على أنَّهُ تعالى هو الذي سَلَّطَ الشَّيْطَان عليهم حتى أضلهم واغواهم.
وقالت المُعْتَزِلَةُ: معنى قوله: { إِنَّا جَعَلْنَا ٱلشَّيَاطِينَ أَوْلِيَآءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ } هو أنَّا حكمْنَا بأنَّ الشَّيْطَان ولي لمن لا يؤمن، قالوا: ومعنى قوله:
{ أَنَّآ أَرْسَلْنَا ٱلشَّيَاطِينَ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ } [مريم: 83] هو أنَّا خلينا بينهم وبينهم كما يقال لمن لا يربط الكلب في داره ولا يمنعه من الوثوب على الداخل أنَّهُ أرسل عليهم كلبه.
والجوابُ أن القائل إذا قال: إن فُلاناً جعل هذا ثوباً أبيضَ أو أسود، لم يفهم منه أنَّهُ حكم به بل يفهم منه أنه حصل السَّواد أو البياض فيه، فكذلك هاهنا وجب حمل الجعل على التَّأثير والتَّحصيل لا على مجرد الحكم وأيضاً فهب أنَّهُ تعالى حكم بِذلكَ لكن مخالفة حكم اللَّهِ توجب كَوْنَهُ كَاذِباً وهو مُحَالٌ، والمفضي إلى المُحَالِ مُحَالٌ، فكون العبد قادراً على خلافِ ذلك؛ وجب أن يكُونَ مُحَالاً وأما قولهم إن قوله تعالى
{ أَنَّآ أَرْسَلْنَا ٱلشَّيَاطِينَ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ } [مريم: 83] أي خلَّينا بينهم وبين الكافرين، فهو ضعيف؛ ألا ترى أنّ أَهل السُّوقِ يؤذي بعضُهُم بعضاً، ويشتمُ بعضهم بعضاً ثم إنَّ زيداً وعمراً إذا لم يمنع بعضهم عن بعض لا يُقَالُ إنَّهُ أرسل بعضهم على البعض، بل لفظ الإرْسَالِ إنَّمَا يصدق إذا كان تسلط بعضهم على البعض بسبب من جهته فكذا هاهنا.