التفاسير

< >
عرض

وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى ٱلأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ ٱلْجَنَّةِ أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ
٤٦
-الأعراف

اللباب في علوم الكتاب

أي بين أصحاب الجنَّة وأصحاب النَّار، وهذا هو الظَّاهر كقوله: { فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ } [الحديد: 13].
وقيل: بين الجنَّة والنَّار، وبه بدأ الزَّمخشريُّ.
فإن قيل: وأي حاجة إلى ضرب هذا السُّورِ بين الجنَّة والنَّار، وقد ثبت أن الجنَّة. فوق والنَّار في أسفل السَّافِلِينَ؟.
فالجوابُ: بُعد إحداهما عن الأخرى لا يمنعُ أن يحصل بينهما سور وحجاب.
قوله: "وَعَلى الأعْرَافِ": قال الزَّمَخْشَرِيُّ: أي: وعلى أعراف الحجاب.
قال القرطبيُّ: أعراف السّور وهي شُرَفُه، ومنه عُرْفُ الفَرَسِ وعرف الدِّيكِ، كأَنَّهُ جعل "أل" عوضاً من الإضافة وهو مذهب كوفي، وتقدَّم تحقيقه.
وجعل بعضهم نفس الأعْرَافِ هي نفس الحِجابِ المتقدم ذكره، عبر عنه تارةً بالحجاب، وتارةً بالأعراف.
قال الوَاحِدِيُّ - ولم يذكر غيره -: "ولذلك عُرِّفَت الأعراف؛ لأنَّهُ عني بها الحِجَاب" قال ابن عباس.
والأعراف: جمع عُرْف بضمِّ العَيْنِ، وهو كلُّ مرتفع من أرض وغيرها استعارةً من عُرْف الدّيك، وعُرْف الفرس.
قال يَحْيَى بْنُ آدَمَ: سألت الكِسَائِيَّ عن واحد الأعراف فسكت، فقلت: حدثتنا امرأتك عن جَابِرٍ عن مُجَاهِدٍ عن ابن عباس قال: "الأعراف سُورٌ له عرف مثل عرف الدِّيك" فقال: نعم، وإن واحده عُرْفُ بعيرٍ، وإن جماعته أعْرَاف، يا غُلام هات القرطاس كأنَّهُ عرف بارتفاعه دون الأشياء المنخفضة، فإنَّهَا مجهولة غالباً.
قال أمية بن أبي الصلت: [البسيط]

2470 - وَآخَرُونَ عَلَى الأعْرَافِ قَدْ طَمِعُوا فِي جَنَّةٍ حَفَّهَا الرُّمَّانُ والخَضِرُ

ومثله أيضاً قوله: [الرجز]

2471 - كُلُّ كِنَازِ لَحْمِهِ نِيَافِ كالجَبَلِ المُوفِي عَلَى الأعْرَافِ

وقال الشَّمَّاخ: [الطويل]

2472 - فَظَلَّتْ بأعْرَافٍ تَعَادَى كأنَّهَا رِمَاحٌ نَحَاهَا وِجْهَةَ الرِّيحِ رَاكِزُ

وقال الزَّجَّاجُ، والحسنُ في أحد قوليه: إن قوله: "وَعَلى الأعْرَافِ" وعلى معرفة أهْل الجَنَّة والنَّار، كَتَبَةٌ رجال يعرفون كل من أهل الجنة والنَّار بسيماهم، للحسن: هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم فضرب على فَخِذِهِ ثم قال: هم قومٌ جعلهم الله على تعرف أهل الجنّة وأهل النّار، يميزون البعض من البعض والله لا أدري لعل بعضهم الآن معنا.
قال المهدويُّ: "إنَّهم عدول القِيَامَةِ الذين يَشْهَدُونَ على النَّاس بأعمالهم، وهم في كُلِّ أمَّةٍ"، واختار هذا القول النَّحَّاسُ وقال: "هو من أحسن ما قيل فيه، فهم على السور بين الجنَّةِ والنَّارِ".
فأمَّا القائلون بالقول الأوَّلِ فقد اختلفوا في الذين هم على الأعراف على قولين:
فقيل: هم الأشْرَافُ من أهل الطَّاعَةِ، وقال أبو مجلز: "هم ملائكة يعرفون أهل الجنَّة وأهل النَّار"، فقيل له: يقول الله - عز وجل - { وَعَلَى ٱلأَعْرَافِ رِجَالٌ }، وتزعم أنَّهُمْ ملائكة، فقال: "الملائكة ذكور لا إناث".
وقيل: هم الأنْبِيَاءُ - عليهم الصَّلاة والسَّلام - أجلسهم الله على أعلى ذلك السُّور إظهاراً لشرفهم وعلوّ مرتبتهم.
وقيل: هم الشُّهَدَاءُ.
فإن قيل: هذه الوجوه باطلة لأنه تعالى قال في صفة أصحاب الأعراف: "لم يدخلوها وهم يطمعون في دخولها"، وهذا الوَصْفُ لا يليق بالملائكة والأنبياء والشُّهداء.
فالجوابُ: قالوا: لا يبعد أن يقال: إنَّهُ تعالى بيَّن من صفة أهْلِ الأعراف أن دخولهم الجنة يتأخر، والسَّبب فيه أنَّهُ تعالى ميّزهم عن أهل الجنَّة وأهل النَّار، وأجلسهم على تلك الأماكن المرتفعة ليشاهدوا أحوال أهل الجنّة في الجنَّة، وأحوال أهل النّار في النَّار، فيلحقهم السُّرور العظيم بمشاهدة تلك الأحوال، ثم إذا استقرَّ أهل الجنَّة في الجنَّةِ، وأهلُ النَّارِ في النَّارِ، فحينئذٍ ينقلهم اللَّهُ إلى أماكنهم العَالِيَة في الجنَّةِ. فثبت أنَّ كونهم غير داخلين في الجنَّة لا يمنع من كمال شرفهم وعلو درجتهم.
وأمّا قوله: "وَهُمْ يَطْمَعُونَ"والطمع هنا يحتمل أن يكون على بابه أو يكون بمعنى اليقين قال تعالى حِكايَةً عن إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام -:
{ وَٱلَّذِيۤ أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ ٱلدِّينِ } [الشعراء: 82].
وذلك الطمع طمع يقين، وقال الشَّاعرُ: [المتقارب]

2473 - وإنِّي لأطْمَعُ أنَّ الإلَهَ قَدِيرٌ بِحُسْنِ يَقِينِي يَقِينِي

القول الثاني: أن أصحاب الأعراف أقوامٌ يكونون في الدرجة النازلة] من أهل الثواب وهؤلاء ذكروا وجوهاً:
أحدها: أنَّهم أقوام تساوت حَسَنَاتُهُم وسيّئاتهم، فأوقفهم الله تعالى على الأعراف، لكونها درجة متوسطة بين الجنَّة والنار، ثم يدخلهم الله الجنَّة بفضله ورحمته، وهذا قولُ حذيفة وابن مسعود، واختيار الفرَّاءِ، وطعن الجُبَّائِيُّ والقاضي في هذا القول، واحتجُّوا على فساده من وجهين:
الأوَّل: قالوا: إن قوله تعالى:
{ وَنُودُوۤاْ أَن تِلْكُمُ ٱلْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [الأعراف: 43] يدلُّ على أنَّ كُلَّ من دخل الجنة فلا بُدَّ وأن يكون مستحقاً لدخولها، وذلك يمنع من القَوْلِ بوجود أقوام لا يستحقون الجَنَّة ولا النَّارَ، ثم إنَّهُم يدخلون الجنة بمحض التفضل، لا بسبب الاستحقاقِ.
الثاني: أنَّ كونهم من أصحابِ الأعْرَاف يدلُّ على أنَّهُ تعالى ميَّزَهُم من جميع أهْل القيامةِ، ثمَّ أْجْلَسَهُمْ على الأماكن العالية [وقيل هذا التشريف لا يليق إلاَّ بالأشراف وأما الذين تساوت حسناتهم وسيئاتهم فدرجتهم قاصرة، فلا يليق بهم ذلك التشريف].
والجواب عن الأوَّل: أنَّهُ يحتمل أن يكون قوله: { وَنُودُوۤاْ أَن تِلْكُمُ ٱلْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا } خطاب مع أقوام مُعَيَّنِينَ، فلم يلزم أن يكون كلّ أهل الجنَّة كذلك.
والجوابُ عَنِ الثَّانِي: أنَّا لا نسلّم أنَّهُ تعالى أجلسهم على تلك الأماكن العالية على سبيل التَّخصيص بمزيد التَّشْرِيفِ وإنَّمَا أجْلَسَهُم عَلَيْهَا؛ لأنَّها كالمرتَبَةِ المُتوسِّطَةِ بين الجنَّةِ والنَّارِ وهل النزاع إلاّ في ذلك؟‍‍‍‍!
الوجه الثاني: أنَّهُم أقوامٌ خرجوا إلى الغزو بغير إذن آبائهم فاستشهدُوا فحبسوا بين الجَنَّةِ والنَّارِ، وهذا داخل في القول الذي قبله؛ لأنَّ معصيتهم ساوت طاعتهم بالجهاد.
الثالث: قال عَبْدُ الله بْنُ الحَارثِ: "إنَّهُم مَسَاكِينُ أهْلِ الجَنَّةِ".
الرابع: قيل: إنَّهُمُ الفُسَّاقُ من أهل الصَّلاة يعفو اللَّه عنهم ويسكنهم في الأعراف.
وأمّا القَوْلُ الثَّاني بأن الأعراف عبارة عن الرّجال الذين يعرفون أهل الجنّة والنَّار، فهذا قول غير بعيد؛ لأنَّ هؤلاء الأقوام لا بدّ لهم من مكان عال، يشرفون منه على أهل الجَنَّةِ وأهل النَّارِ.
قوله: "يَعْرِفُونَ" في محلِّ رفع نعتاً لـ "رِجَال"، و "كلاًّ" أي: كل فريق من أصْحَابِ الجنَّةِ، وأصحاب النَّارِ.
قوله: "بِسِيمَاهُمْ" قال ابْنُ عبَّاس: "إنَّ سيما الرجل المسلم من أهل الجَنَّة بياض وجهه. قال تعالى:
{ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } [آل عمران: 106] [وكون وجوههم مسفرة ضاحكة مستبشرة وكون كل واحد أغر محجلاً من آثار الوضوء وعلامة الكفار سواد وجوههم]. وكون وجوههم عليها غبرة ترهقها قترة، وكون عيونهم زرقاً".
وقيل: إنَّ أصحاب الأعْرَافِ كَانُوا يَعْرِفُونَ المُؤمنينَ في الدنيا بظهور علاماتِ الإيمانِ والطَّاعة عليهم، ويعرفون الكافرين في الدُّنْيَا أيضاً بظهور علامات الكُفْرِ والفِسْقِ عليهم، فإذا شَاهَدُوا أولئك الأقوام في مَحْفَلِ القيامة ميزوا البعض عن البعض بتلك العلامات التي شاهدوها عليهم في الدُّنْيَا، وهذا هو المختار؛ لأنَّهُم لمَّا شاهدوا أهل الجَنَّةِ [في الجنة] وأهل النَّار في النَّار فأيّ حاجة إلى أن يستدلّ على كونهم من أهل الجَنَّة بهذه العلامات؟ لأنَّ هذا يجري مجرى الاستدلال على ما علم وجوده بالحسّ، وذلك باطل.
والآية تدلُّ على أنَّ أصحاب الأعْرَافِ مختصُّون بهذه المعرفة فلو حملناه على هذا الوَجْهِ لم يبقَ لهذا الاختصاص فائدة؛ لأنَّهَا أمور محسوسة، فلا يختص بمعرفتها شخص دون شخص.
قوله: { وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ ٱلْجَنَّةِ أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ }.
والمعنى: أنَّهُم إذا نظروا إلى أهل الجنَّةِ سلّموا على أهلها والضمير في "نَادُوا" وما بعده لرجال.
وقوله: { أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ } كقوله:
{ أَن لَّعْنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلظَّالِمِينَ } [الأعراف: 44] إلا أنَّهُ لم يقرأ هنا إلاّ بـ "أن" الخفيفة فقط.
فصل في معنى السلام في الآية
والمعنى: يَقُولُون لهم: سلام عليكم، وقيل: سلمتم من العقوبة، وقوله: "وَهُمْ يَطْمَعُونَ" على هذا التأويل يعني وهم يعلمون أنَّهُمْ يدخلوها، وذلك معروف في اللُّغَةِ أن يكون طمع بمعنى علم، ذكره النَّحَّاسُ، وهذا قول ابن عباس وابن مسعود وغيرهم أنَّ المراد أصحاب الأعراف.
قال القطربيُّ: قوله "لم يدخلوها" في هذه الجملة أوجه:
أحدها: أنَّها حال من فاعل "نَادوا" أي: نادى أهل الأعراف حال كونهم غير داخلين الجنَّة.
وقوله: "وهُمْ يَطْمَعُون" يحتمل أن يكون حالاً من فاعل "يَدْخُلُوهَا"، ثم لك اعتباران بعد ذَلِكَ.
الأول: أن يكون المَعْنَى لم يَدخُلُوها طامِعِينَ في دخولها بل دخلوها على يأس من دخولها.
والثاني: المعنى لم يدخلوها حَالَ كونهم طامعين، أي: لم يدخلوها بعد، وهم في وقت عَدَمِ الدُّخُولِ طامعون، ويحتمل أن يكون مستأنفاً أخبر عنهم بأنَّهُم طامعون في الدُّخُول.
الوجه الثاني: أن تكون حالاً من مفعول "نَادوا" أي: نادوهم حال كونهم غير داخلين، وقوله: "وَهُمْ يَطْمَعُون" على ما تقدم آنفاً.
والوجه الثالث: أن تكون في محل رفع صفة لـ "رِجَالٍ"، قاله الزمخشريُّ وفيه ضعف من حيث إنَّهُ فصل فيه بين الموصوف وصفته بجملة قوله: "ونَادَوْا"، وليست جملة اعتراض.
والوجه الرابع: أنها لا مَحلَّ لها من الإعراب؛ لأنَّهَا جواب سائل سأل عن أصحاب الأعْرَافِ، فقال: ما صنع بهم؟ فقال: لم يدخلوها، وهم يَطْمَعُون في دخولها.
وقال مكي كلاماً عجيباً، وهو أن قال: "إن حملت المعنى على أنَّهُمْ دخلوها كان "وَهُمْ يَطْمَعُونَ" ابتداءً وخبراً في موضع الحال من الضَّمير المرفوع في "يَدْخُلُوهَا"، معناه: أنَّهم يَئِسُوا من الدُّخُول، فلم يكن لهم طَمَعٌ في الدُّخول، لكن دخلوا وهم على يأس من ذلك، فإن حملت معناه أنَّهُم لم يدخلوا بعد، ولكنهم يطمعون في الدُّخُول برحمة الله كان ابتداءً وخبراً مستأنفاً".
وقال بعضهم: جملة قوله: "لَمْ يَدْخُلُوهَا" من كلام أصحاب الجنَّةِ، وجملة قوله: "وهُمْ يَطْمَعُونَ" من كلام الملائكة.
قال عطاء ابن عباس: "إنَّ أصحاب الأعراف ينادون أصحاب الجنة بالسَّلام، فيردُّون عليهم السلام، فيقول أصحاب اللجنَّة للخَزنَةِ: ما لأصحابنا على أعراف الجنَّة لم يدخلوها؟ فتقولُ لهم الملائكة جواباً لهم وهم يَطْمَعُون"وهذا يبعد صحته عن ابن عباس إذ لا يلائم فصاحة القرآن.
فصل في معنى الآية
قال ابن الخطيب: معنى الآية أنَّهُ تعالى أخبر أنَّ أهل الأعراف، لم يدخلوا الجنة، ومع ذلك فهم يطمعون في دخولها.
ثم إن قلنا: إنَّ أصحابَ الأعْرَافِ هم أشراف أهل الجَنَّةِ، فالمعنى: أنه تعالى إنَّما جعلهم على الأعراف وأخّر إدخالهم الجَنَّة ليطلعوا على أهل الجَنَّةِ والنَّار، ثم إنَّهُ تعالى ينقلهم إلى الدّرجات العالية كما روي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قال:
"إنَّ أهْلَ الدَّرَجَاتِ العُلَى لَيَراهُمْ مِنْ تَحْتَهُمْ كَمَا تَرَوْنَ الكوكبَ الدريَّ في أفقِ السَّمَاءِ، وإنَّ أبَا بكر وعُمَرَ مِنْهُمْ"
وتحقيق الكلام أن أصحاب الأعراف هم أشراف أهل القيامة فعند وقوف أهل القيامةِ في الموقف يجلس الله أهل الأعراف في الأعراف وهي المواضع العالية الشريفة، فإذا أدخل أهل الجنَّة الجنة، وأهل النار النَّار نقلهم إلى الدرجات العالية، فهم أبداً لا يجلسون إلا في الدرجات العالية. وإن قلنا: أصحاب الأعراف هم الذين يكونون في الدَّرَجَّةِ النازلة من أهل النجاة، فالمعنى أنَّهُ تعالى يجلسهم في الأعرافِ، وهم يطمعون في فضل اللَّه وإحسانه أنْ يَنْقلَهُم من تلك المواضع إلى الجنة
قال الحَسَنُ: "الذي جعل الطمع في قلوبهم يوصلهم إلى ما يطمعون".