التفاسير

< >
عرض

قَالَ ٱلْمَلأُ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ
٦٠
قَالَ يَٰقَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَـٰلَةٌ وَلَٰكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ
٦١
-الأعراف

اللباب في علوم الكتاب

قوله: "قَالَ الم‍َلأ".
قال ابن عطية: وقرأ ابن عامر: "المَلَؤُ" بواوٍ، وهي كذلك في مصاحفِ الشَّامِ، وهذه القراءةِ ليست مَشْهُورةً عنه قال المفسِّرُونَ: الملأ: الكبراء والسَّاداتُ الذين جعلَوا أنفسهم أضداد الأنبياء، ويدلُّ على ذلك قوله: "مِنْ قَوْمِهِ"؛ لأنَّهُ يقتضي التَّبْعِيضَ، وذلك البَعْضُ لا بدَّ وأن يكونوا موصوفين بِصِفَةٍ لأجلها استحقُّوا هذا الوَصْفَ بأن يكونوا هم الذين يملئون صدور المَجَالس، وتمتلىء القلوب من هَيْبَتِهِم، وتمتلىءُ الأبصارُ من رُؤيتهم، وهذه الصِّفاتُ لا تحصل إلا في الرُّؤسَاءِ.
قوله: "إنَّا لَنَرَاكَ" يجوزُ أن تكون الرُّؤيَةُ قلبية فتتعدى لاثنين ثانيهما "في ضلالٍ"، وأن تكون البَصريَّة وليس بظاهر فالجارُّ حال، وجعل الضَّلالِ ظَرْفاً مبالغة في وصفهم له بذلكَ، وزادوا في المبالغة بأن أكَّدُوا ذلك بأن صَدَّرُوا الجملة بـ "إنَّ" وفي خبرها اللاَّم.
وقوله: { لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ } الضَّلالُ، والضَّلالةُ، العدول عن الحق.
فإن قيل: قولهم: إنَّا لنراك في ضلال جوابه أن يقال: ليس في ضلال فَلِمَ أجاب بقوله { لَيْسَ بِي ضلالةٌ }.
فالجوابُ أنَّ قوله: { لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ } من أحسن الردِّ وأبلغه؛ لأنَّهُ نفى أن تلتبس به ضلالة واحدة فضلاً عن أن يحيط به الضلالُ، فكان المعنى: ليس بي نوع من أنْواعِ الضَّلالة ألْبَتَّةَ، فكان هذا أبْلَغَ في عموم السّلب فلو قال: لستُ ضالاًّ لم يُؤدِّ هذا المعنى.
واعلم أنَّ القَوْمَ إنما نسبوا نوحاً في ادِّعَاءِ الرِّسالةِ إلى الضَّلال لأمور:
أحدها: أنَّهُمْ استبعدوا أن يكون للَّهِ رَسُولاً إلى خلقه، لاعتقادهم أن المقصود من الإرْسَالِ التَّكْلِيفُ: والتَّكْلِيفُ لا منفعة فيه للمَعْبُودِ؛ لأنَّهُ متعالٍ عن النَّفْع والضَّرَرِ، ولا مَنْفَعَةَ فيه للعابد؛ لأنَّهُ فِي الحالِ مضرَّة، وما يوحى فيه من الثَّواب والعقاب فاللَّهُ - تعالى - قادر على تحصيله بغير واسطة تكليفٍ، فيكونُ التَّكليف عبثاً، واللَّهُ منزهٌ عن العَبَثِ.
وثانيها: أنَّهُم وإن جَوَّزُوا التَّكْلِيفَ إلا أنَّهُم قالُوا: ما علمنا حسنه بالعَقْلِ فعلناه، وما علمنا قُبْحَهُ تركناه حَذَراً من خَطَرِ العقابِ، فاللَّهُ تعالى مُنَزَّهٌ عن أنْ يكلِّفَ عبده ما لا طاقة له به، وإذا كان رسولُ العقل كافياً، فلا حاجة إلى بعثه رسولاً آخر.
وثالثها: أي بتقدير أنَّهُ لا بدَّ من الرسول، فإرسال الملائكة أولى؛ لأنَّ مهابتهم أشَدُّ، وطهارتهم أكملُ، وبعدهم عن الكذب أعْظَمُ.
ورابعها: اعلم أنَّ بتقدير أن يَبْعَثَ رَسُولاً من البشرِ، فلعلَّ القوم اعتقدوا أن الفقيرَ الذي ليس له أتباعٌ، ولا رئاسة لا يليق به منصب الرسالة، أو لعلَّهم اعتقدُوا أنَّ ادعاء نوح الرِّسالة من باب الجُنُونِ وتخييلات الشَّيطان، فلهذه الأسباب حَكَمُوا على نوح بالضَّلالِ، وقد أجابهم نُوحٌ ببقية الآيَةِ على ما يأتي في أثنائها.
ثمَّ إنَّهُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لما نفى العيبَ عن نفسه، وصف نفسه بأشرف الصِّفات وهو قوله: { وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ ٱلْعَالَمِينَ } جاءت "لَكِنَّ" هنا أحسن مجيء؛ لأنَّها بين نقيضين؛ لأنَّ الإنسان لا يخلو من أحدَ شَيْئَيْنِ: ضلال، أو هدى، والرِّسَالة لا تجامع الضَّلال.
و "مِنْ رَبِّ" صفة لـ "رَسُول"، و "مِنْ" لابتداء الغاية المجازية.