التفاسير

< >
عرض

يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ ٱلأَدْبَارَ
١٥
وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَىٰ فِئَةٍ فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ
١٦
-الأنفال

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { يَآأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً } الآية.
في "زَحْفاً" وجهان:
أحدهما: أنه منصوبٌ على المصدر، وذلك النّاصب له في محلِّ نصب على الحال، والتقديرُ: إذا لقيتُمُ الذين كَفَرُوا زَاحِفينَ زَحْفاً أو يَزْحَفُونَ زحفاً.
والثاني: أنه منصوبٌ على الحال بنفسه، ثُمَّ اختلفوا في صاحب الحال، فقيل: الفاعلُ أي وأنتم زَحْفٌ من الزُّحوفِ، أي: جماعة، أو وأنتم تمشون إليهم قليلاً قليلاً، على حسب ما يُفَسَّر به الزَّحْف، وسيأتي.
وقيل: هو المفعول، أي: وَهُمْ جَمٌّ كثير، أو يمشون إليكم.
وقيل: هي حالٌ منهما، أي: لقيتموهم مُتزاحفين بعضكم إلى بعض، والزَّحْفُ الدُّنو قليلاً قليلاً، يقال: زَحَفَ يَزْحَفُ إليه بالفتح فيهما فهو زَاحفٌ زَحْفاً، وكذلك تَزَحَّفَ وتَزَاحَفَ وأزْحَفَ لنا عَدُوُّنَا، أي: دَنَوا لقتالنا.
وقال اللَّيْثُ: الزَّحْفُ: الجماعةُ يمشون إلى عدوِّهم؛ قال الأعشى: [الكامل]

2686 - لِمَنِ الظَّعَائنُ سَيْرُهُنَّ تَزَحُّفُ مِثْلَ السَّفينِ إذَا تَقَاذَفُ تَجْدِفُ

وهذا من باب إطلاق المصدر على العين، والزَّحْفُ: الدَّبيب أيضاً، مِنْ زَحَفَ الصبيُّ قال امرؤُ القيس: [المتقارب]

2687 - فَزَحْفاً أتَيْتُ عَلَى الرُّكْبَتَيْنِ فَثَوْباً لَبِسْتُ وثَوْباً أجُرّ

ويجوزُ جمعُهُ على: زُحُوف ومَزَاحِف، لاختلافِ النوع؛ قال الهذليُّ: [الوافر]

2688 - كَأنَّ مَزاحِفَ الحَيَّاتِ فِيهِ قُبَيْلَ الصُّبْحِ آثَارُ السِّيَاطِ

ومَزاحِف: جمع "مَزْحَف" اسم المصدر.
قوله: { فَلاَ تُوَلُّوهُمُ ٱلأَدْبَارَ } مفعول: "تولُّوهم" الثَّاني هو "الأدْبار"، وكذا "دُبُره" مفعول ثان لـ: "يُولِّهِمْ" وقرأ الحسن: بالسُّكونِ كقولهم: عُنْق في عُنُق، وهذا من باب التَّعريض حيث ذكر لهم حالةً تُسْتَهْجَنُ من فاعلها؛ فأتى بلفظ الدُّبُر دُونَ الظَّهر لذلك، وبعضهم من أهل علم البيان سمَّى هذا النوع كنايةً، وليس بشيء.
قوله: "إلاَّ مُتَحرفاً" في نصبه وجهان:
أحدهما: أنَّهُ حال.
والثاني: أنه استثناء وقد أوضح ذلك الزمخشري.
فقال: "فإن قلت: بِمَ انتصبَ: "إلاَّ مُتَحرِّفاً"؟ قلتُ: على الحالِ و "إلاَّ" لغوٌ، أو على الاستثناءِ من المُولِّين: أي ومنْ يُولِّهم إلا رجلاً منهم مُتَحرفاً أو مُتَحيزاً".
قال أبُو حيان: "لا يريدُ بقوله "إلاَّ" لغوٌ أنَّها زائدةٌ، إنَّما يريد أنَّ العامل وهو "يُولِّهِمْ" وصل لِمَا بعدها كقولهم في "لا" من قولهم: جئت بلا زاد - إنَّها لغوٌ. وفي الحقيقة هي استثناءٌ من حال محذوفة والتقدير: ومَنْ يُولِّهم ملتبساً بأية حال إلاَّ من حال كذا، وإن لم تُقدَّرُ حالٌ محذوفة لم يَصِحَّ دخولُ "إلاَّ" لأن الشَّرط عندهم واجبٌ، والواجبُ حكمُهُ ألاَّ تدخل "إلاَّ" فيه لا في المفعول، ولا في غيره من الفضلات، لأنه استثناء مُفرغ، والمفرَّغ لا يكون في الواجب، إنَّما يكون مع النفي أو النهي أو المؤول بهما، فإن جاء ما ظاهرُه خلافُ ذلك يُؤوَّل".
قال شهابُ الدِّينِ: "قوله لا في المفعول ولا في غيره من الفضلات، لا حاجة إليه لأنَّ الاستثناء المفرغ لا يدخل في الإيجاب مطلقاً، سواءٌ أكان ما بعد إلاَّ فضلةً أو عمدةً فذكرُ الفضلةِ والمفعول يوهم جوازه في غيرهما".
وقال ابنُ عطيَّة: "وأمَّا الاستثناءُ فهو من المُولِّين الذين تتضمَّنهم "مَنْ" فجعل نصبه على الاستثناء".
وقال جماعةٌ: إنَّ الاستثناءَ من أنواع التولِّي، ورُدَّ هذا بأنه لو كان كذلك لوجب أن يكون التركيبُ: إلاَّ تحيُّزاً أو تحرُّفاً، والتَّحيُّزُ والتَّحَوُّزُ: الانضمامُ، وتحوَّزت الحيَّة: انطوَتْ، وحُزْتُ الشَّيء: ضَمَمْتُهُ، والحَوْزَةُ: ما يَضُمُّ الأشياء، ووزنُ "متحيَِز"مُتَفَيعِل" والأصل "مُتَحَيْوِز" فاجتمعت الياء والواو، وسبقت إحداهما بالسُّكُون فقلبت الواو ياءً، وأدغمت في الباء بعدها، كـ: مَيِّت، ولا يجوزُ أن يكون: "مُتفَعِّلاً"؛ لأنَّه لو كان كذلك لكان "متحوِّزاً"، فأمَّا متحوِّز فـ "متفعِّل".
فصل
معنى الآية: إذا ذهبتم للقتال، فلا تولوهم الأدْبَارَ: أي لا تنهزموا، فتجعلوا ظهوركم ممَّا يليهم ثم بيَّن أنَّ الانهزام محرم إلاَّ في حالتين:
إحداهما: أن يكون مُتحَرّفاً للقتال، أي: أنه يجعل تحرفه أنه منهزم، ثم ينعطف عليه، وهو أحد أبواب خدع الحرب ومكايدها. يقال: تحرَّف وانحرف إذا زالَ عن وجهة الاستواء. والثانية: قوله { أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ } والتَّحيز الانضمام كما تقدَّم، والفئة الجماعةُ، فإذا كان هذا المنهزم منفرداً، وفي الكفار كثرة، وغلب على ظنه أنه إن ثبت قتل من غير فائدة، وإن انضمَّ إلى جمع من المسلمين ليستعين بهم ويعودون إلى القتال، فربَّمَا وجب عليه التَّحيُّز إلى هذه الفئة فضلاً عن أن يكون جائزاً.
والحاصل أن الانهزام من العدو حرام، إلاَّ في هاتين الحالتين، وهذا ليس بانهزام في الحقيقة ثمَّ قال تعالى: { وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ } إلاَّ في هاتين الحالتين { فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَمَأْوَاهُ } في الآخرة { جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ } [الأنفال: 16].
فصل
قال أبو سعيد الخدري: هذا في أصحاب بدر خاصة؛ لأن ما كان يجوز لهم الانهزام، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان معهم، ولم يكن فئة يتحيّزون إليها دون النبي صلى الله عليه وسلم وقد وعده الله بالنّصر والظّفر فلم يكن لهم التحيّز إلى فئةٍ أخرى.
وأيضاً فإنَّ اللَّه شدد الأمر على أهل بدرٍ؛ لأنه كان أول جهاد، ولو اتفق للمسلمين انهزام فيه، لزم منه الخلل العظيم.
فلهذا وجب التشديدُ والمبالغة، ومنع اللَّهُ في ذلك اليوم من أخذ الفداء من الأسرى لهذا السَّبب، وهذا قول الحسنِ وقتادة والضحاك.
قال يزيدُ بن أبي حبيب: أوجب اللَّهُ النار لِمَنْ فَرَّ يوم بدر، فلمَّا كان يوم أحد قال:
{ إِنَّمَا ٱسْتَزَلَّهُمُ ٱلشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا ٱللَّهُ عَنْهُمْ } [آل عمران: 155]. ثم كان يوم حنين بعده فقال: { ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ } [التوبة: 25].
ثم قال بعده
{ ثُمَّ يَتُوبُ ٱللَّهُ مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ } [التوبة: 27].
وقال عبدُ الله بنُ عُمَرَ:
"كُنَّا في جيش بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحاص النَّاسُ حَيْصَةً، فانْهَزَمْنَا، فقُلْنَا يا رسول الله: نَحْنُ الفَرَّارُونَ، فقال: لا بَلْ أنتُمْ العَكَّارُونَ أنَا فِئَةُ المُسلمينَ" .
وقال محمدُ بن سيرين: "لما قُتل أبو عبيدة جاء الخبر إلى عمر فقال: لو انحاز إليَّ كنتُ له فئةٌ فأنا فئةُ كلِّ مُسْلِمٍ".
وقيل: حكم الآية عام في كل حرب، ويؤيده قوله عليه الصلاة والسلام:
"من الكبائر الفِرَارُ يَوْمَ الزَّحْفِ" والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السَّبب.
وقال عطاءُ بن أبي رباح: "هذه الآية منسوخةٌ بقوله:
{ ٱلآنَ خَفَّفَ ٱللَّهُ عَنكُمْ } [الأنفال: 66] فليس للقوم أن يفرُّوا من مثلهم فنسخت تلك إلاَّ في هذه العدة.
وعلى هذا أكثر أهل العلم أنَّ المسلمين إذا كانوا على الشطر من عددهم لا يجوز لهم الفرار إلاَّ مُتحرفاً أو مُتحيِّزاً إلى فئةٍ، وإن كانوا أقلَّ من ذلك جاز لهم أن يولوا عنهم وينحازوا عنهم". قال ابن عباس: "مَنْ فرَّ من ثلاثة فلم يفر، ومن فَرَّ من اثنين فقد فرّ".