التفاسير

< >
عرض

وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا ٱسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ ٱلْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ ٱللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ
٦٠
وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَٱجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ
٦١
وَإِن يُرِيدُوۤاْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ ٱللَّهُ هُوَ ٱلَّذِيۤ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِٱلْمُؤْمِنِينَ
٦٢
وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً مَّآ أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
٦٣
-الأنفال

اللباب في علوم الكتاب

قوله: { وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا ٱسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ }.
لمَّا أوجب على رسوله أن يُشرِّد من صدر منه نقض العهدِ، وأن ينبذ العهد إلى من خاف منه النَّقض أمره في هذا الآية بالإعداد للكُفَّارِ.
وقيل: إنَّ الصحابة لمَّا قصدوا الكفار يوم بدر بلا آلة ولا عدة أمرهم الله تعالى ألاَّ يعودوا لمثله، وأن يعدُّوا للكفار ما أمكنهم من آلة وعدة وقوة. والإعداد: اتخاذ الشيء لوقت الحاجة. والمراد بالقوة: الآلات التي تكون لكم قوة عليهم من الخيل والسلاح.
قال - عليه الصَّلاة والسَّلام - على المنبر
"ألا إنَّ القُوَّة الرَّمي ألا إنَّ القُوَّة الرَّمي ألا إنَّ القُوَّة الرَّميُ" .
وقال بعضهم: القوة هي الحصون.
وقال أهل المعاني: هذا عام في كل ما يتقوى به على الحرب.
وقوله عليه الصلاة والسلام
"القُوَّةُ هي الرَّمْيُ" لا ينفي كون غير الرمي معتبراً، كقوله عليه الصلاة والسلام: "الحَجُّ عرفة" و "النَّدمُ توْبةٌ" لا ينفي اعتبار غيره.
فإن قيل: قوله: { وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا ٱسْتَطَعْتُم } كان يكفي، فلم خصَّ الرمي والخيل بالذكر؟.
فالجوابُ: أنَّ الخيل لما كانت أصل الحروب وأوزارها الَّتي عقد الخير في نواصيها، وهي أقوى الدّواب وأشد العدة وحصون الفرسان، وبها يُجالُ في الميدان، خصَّها بالذِّكر تشريفاً وأقسم بغبارها تكريماً، فقال:
{ وَٱلْعَادِيَاتِ ضَبْحاً } [العاديات: 1] الآياتُ، ولمَّا كانت السهامُ من أنجع ما يتعاطى في الحروب والنكاية في العدوِّ، وأقربها تناولاً للأرواح، خصَّها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذكر لها؛ ونظير هذا قوله تعالى: { وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } [البقرة: 89] بعد ذكر الملائكة، ومثله كثير.
قوله "مِن قُوَّةٍ" في محلِّ نصبٍ على الحالِ، وفي صاحبها وجهان:
أحدهما: أنَّهُ الموصول، والثاني: أنه العائد عليه، إذ التقديرُ: ما استطعتموه حال كونه بعض القوة، ويجوزُ أن تكون "مِنْ" لبيان الجِنْسِ.
قوله: "ومِن ربَاطِ"، جوَّزُوا فيه أن يكون جمع "رَبْط" مصدر: رَبَط يَربط، نحو: كَعْب وكِعَاب، وكَلْب وكِلاب، وأن يكُون مصدراً لـ "رَبَطَ"، نحو: صَاحَ صِيَاحاً.
قالوا: لأنَّ مصادر الثلاثي لا تنقاس، وأن يكون مصدر: "رَابِط"، ومعنى المفاعلة: أنَّ ارتباط الخيل يفعله كلُّ واحد لفعل الآخر، فيرابط المؤمنون بعضهم بعضاً، قال معناه ابن عطيَّة.
قال أبُو حيَّان: قوله "مصادرُ الثلاثي غير المزيد لا تَنْقَاسُ" ليس بصحيحٍ، بل لها مصادر منقاسةٌ ذكرها النحويون.
قال شهابُ الدِّين: "في المسألة خلافٌ مشهور، وهو لم ينقل الإجماع على عدم القياسِ حتى يرُدَّ عليه بالخلاف؛ فإنَّهُ قد يكون اختيار أحد المذاهب، وقال به، فلا يُردُّ عليه بالقول الآخر".
وقال الزمخشريُّ: "والرِّباط: الخَيْلُ التي تُرْبط في سبيل الله ويجوز أن يُسمَّى بالرباط الذي هو بمعنى المرابطة، ويجوزُ أن يكون جمع: رَبيط يعني: بمعنى مَربُوط، كـ: فَصِيل وفِصَال. والمصدرُ هنا مضافٌ لمفعوله"
وقرأ الحسنُ، وأبو حيوة، ومالك بن دينار: "ومِنْ رُبُط" بضمتين، وعن الحسن أيضاً "رُبْط" بضم وسكون، نحو: كتاب وكُتْب.
قال ابنُ عطيَّة "وفي جَمْعه، وهو مصدرٌ غيرُ مختلفٍ نظرٌ".
قال شهابُ الدِّين "لا نُسَلِّم والحالةُ هذه أنه مصدر، بل حكى أبو زيدٍ أنَّ "الرِّبَاط" الخمسةُ من الخيلِ فما فوقها، وأن جمعها "رُبُط" ولو سُلِّم أنَّهُ مصدرٌ فلا نُسَلِّم أنَّهُ لم تختلف أنواعه، وقد تقدَّم أنَّ "رباطاً" يجوزُ أن يكون جمعاً لـ "رَبْط" المصدر، فما كان جواباً هناك، فهو جوابٌ هنا".
فصل
قال القرطبي: "روى أبُو حاتمٍ عن أبي زيد: الرِّباطُ من الخيل: الخَمْسُ فما فوقها، وجماعته "رُبُط"، وهي التي ترتبط، يقال منه: رَبَطَ يَرْبط ربطاً، وارتبط يرتبط ارتباطاً ومربط الخيل ومرابطها وهي ارتباطها بإزاء العدو" قال: [الكامل]

2728 - أمَرَ الإلهُ بربْطِهَا لِعَدُوِّهِ في الحَرْبِ إنَّ اللَّهَ خَيْرُ مُوفِّقِ

روي أنَّ رجلاً قال لابن سيرين: إنَّ فلاناً أوْصَى بثلثِ ماله للحصون، فقال: هي للخيل؛ ألم تسمع قول الشاعر: [الكامل]

2729 - ولَقَدْ علِمْتُ عَلَى تَجَنُّبِيَ الرَّدَى أنَّ الحُصُونَ الخَيْلُ لا مَدَرُ القُرَى

قال عكرمة: "رباط الخَيْلِ: الإناث" وهو قول الفرَّاء؛ لأنها اولى ما يربط لتناسلها ونمائها، ذكرهُ الواحديُّ.
ولقائل أن يقول: بل حمل اللَّفظ على الفُحُولِ أولى؛ لأنَّ المقصود برباط الخَيْلِ المحاربة عليها، والفحول أقوى على الكر والفر والعدو، فوجب تخصيص هذا اللفظ بها.
ولمَّا تعارض هذان الوجهان وجب حمل اللفظ على مفهومه الأصلي، وهو كونه خيلاً مربوطاً سواء كانت فحولاً أو إناثاً.
وروي عن خالد بن الوليد "أنه كان لا يركبُ في القتال إلا الإناث، لقلَّة صهيلها".
روى ابن محيريز قال: "كان الصَّحابةُ يستحبُّون ذكور الخيل عند الصفوف، وإناث الخيل عند الشتات والغارات".
قال عليه الصَّلاة والسَّلام:
"الخَيْلُ مَعْقُودٌ بنواصيها الخَيْرُ إلى يومِ القيامةِ الأجْرُ والمَغْنَمُ" وروى أبو هريرة قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
"مَن احتبس فرساً في سبيل اللَّهِ إيماناً باللَّهِ، وتصْديقاً بوعْدِهِ، كان شبعه وريُّةُ وبولُهُ حسنات في ميزانِهِ يوْمَ القيامةِ" .
فصل
وهذه الآية تدل على جواز وقف الخيل والسلاح، واتخاذ الخزائن والخزان [لها عدة] للأعداء، ويؤيدهُ حديث ابن عمر في الفرس الذي حمل عليه في سبيل الله، وقوله عليه الصلاة والسلام في حقِّ خالد: "وأمَّا خَالدٌ فإِنَّكُم تَظْلمُونَ خالِداً فإنَّه قَد احْتبسَ أدْراعَهُ وأعْتَادَهُ في سبيلِ اللَّهِ". وما روي أنَّ امرأة جعلت بعيراً في سبيل اللَّهِ، فأرادَ زوجُها الحجَّ، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ادفعيه إليه ليحج عليه فإن الحجَّ فريضةٌ من اللَّهِ"؛ ولأنَّهُ مال ينتفع به في وجه قربة، فجاز أن يوقف كالرباع.
ثم إنه تعالى ذكر ما لأجله أمر بإعداد هذه الأشياء. فقال: { تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ }؛ لأنَّ الكفار إذا علموا كون المسلمين متأهبين للجهاد، مستعدين له بجميع الأسلحة والآلات هابوهم.
قوله "تُرْهِبُونَ" يجوزُ أن يكون حالاً من فاعل: "أعِدُّوا"، أي: حَصِّلُوا لهم هذا حال كونكم مُرْهِبين، وأن يكُون حالاً من مفعوله، وهو الموصولُ، أي: أعِدُّوه مُرْهَباً بِهِ.
وجاز نسبته لكلٍّ منهما؛ لأنَّ في الجملة ضميريها، هذا إذا أعدنا الضمير من "بِهِ" على "ما" الموصولة، أمَّا إذا أعَدْنَاه على الإعدادِ المدلُولِ عليه بـ "أعِدُّوا"، أو على "الرِّباط"، أو على: "القُوَّةِ" بتأويل الحول؛ فلا يتأتَّى مجيئُها من الموصول، ويجوز أن يكون حالاً من ضمير "لَهُمْ"، كذا نقله أبو حيَّان عن غيره، فقال: "تُرْهبون" قالوا: حال من ضمير "أعِدُّوا"، أو من ضمير "لهم"، ولم يتعقَّبْهُ بنكير، وكيف يصحُّ جعله حالاً من الضمير في "لَهُمْ" ولا رابط بينهما؟ ولا يصحُّ تقدير ضمير في جملة "تُرهبون" لأخذه معموله. وقرأ الحسنُ ويعقوبُ، ورواها ابن عقيل عن أبي عمرو: "تُرَهِّبُون" مضعَّفاً عدَّاه بالتضعيف، كما عدَّاه العامَّةُ بالهمزةِ، والمفعول الثَّاني على كلتا القراءتين محذوف؛ لأنَّ الفعل قبل النَّفْلِ بالهمزة، أو بالتَّضعيف متعدٍّ لواحد، نحو: "رَهَّبْتُك" والتقدير: تُرهِّبون عدوَّ اللَّه قتالكم، أو لقاءكم.
وزعم أبو حاتم أنَّ أبا عمرو نقل قراءة الحسن بياء الغيبة وتخفيف "يُرْهبون"، وهي قراءة واضحة، فإنَّ الضمير حينئذٍ يرجع إلى من يرجع إليهم ضمير "لَهُمْ"، فإنَّهُم إذا خافوا خَوَّفُوا من وراءهم.
قوله "عَدُوَّ اللَّهِ" العامَّة قرءوا بالإضافة، وقرأ السلميُّ منوناً، و "لِلَّه" بلام الجرِّ، وهو مفرد، والمراد به الجنس، فمعناه: أعداء لله.
قال صاحبُ اللَّوامح "وإنما جعله نكرةً بمعنى العامَّة؛ لأنَّها نكرةٌ أيضاً لم تتعرَّف بالإضافة إلى المعرفة؛ لأنَّ اسم الفاعل بمعنى الحالِ، أو الاستقبال، ولا يتعرَّف ذلك وإن أضيف إلى المعارف، وأمَّا "وعَدُوَّكُمْ" فيجوزُ أن يكون كذلك نكرة، ويجوز أن يتعرَّف لأنه قد أُعيد ذكره، ومثله: رأيت صاحباً لكم، فقال لي صاحبكم" يعني: أن "عَدُوًّا" يجوز أن يُلمحَ فيه الوصفُ فلا يتعرَّف، وألاَّ يلمح فيتعرف.
قوله "وآخَرِينَ" نسق على "عَدُوَّ اللَّهِ"، و "مِن دُونِهِمْ" صفة لـ "آخرينَ".
قال ابن عطيَّة: "مِن دُونِهم" بمنزلة قولك: دون أن تكون هؤلاء، فـ "دون" في كلام العربِ، و "مِنْ دُونِ" تقتضي عدم المذكور بعدها من النَّازلة التي فيها القول؛ ومنه المثل: [الكامل]

2730-...................... وأمِرَّ دُونَ عُبَيْدةَ الوَذَمُ

يعني: أنَّ الظَّرفية هنا مجازية، لأنَّ "دون" لا بد أن تكون ظرفاً حقيقة، أو مجازاً.
قوله { لاَ تَعْلَمُونَهُمُ ٱللَّهُ يَعْلَمُهُمْ } في هذه الآية قولان:
أحدهما: أنَّ "علم" هنا متعدِّيةٌ لواحدٍ؛ لأنها بمعنى "عرف"، ولذلك تعدَّت لواحد.
والثاني: أنَّها على بابها، فتتعدى لاثنين، والثاني محذوفٌ، أي: لا تعلمونهم فازعين، أو محاربين.
ولا بُدَّ هنا من التَّنبيه على شيءٍ، وهو أنَّ هذين القولين لا يجوز أن يكونا في قوله "اللَّهُ يَعْلمُهُم" بل يجب أن يقال: إنَّها المتعدية إلى اثنين، وأنَّ ثانيهما محذوف، لما تقدَّم من الفرق بين العِلْم والمعرفة. منها: أنَّ المعرفة تستدعي سَبْقَ جهل، ومنها: أن متعلقها الذوات دون النسب، وقد نصَّ العلماءُ على أنهُ لا يجوزُ أن يطلق ذلك - أعني الوصف بالمعرفةِ - على اللَّهِ تعالى.
فصل
قوله تعالى: { وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ }.
قال الحسن وابن زيد: "هم المُنافقون". "لا تعلمُونَهم"؛ لأنهم معكم يقولون: لا إله إلا الله وقال مجاهدٌ ومقاتل: "هم بنُو قريظة" وقال السديُّ: "هم أهل فارس".
وروي ابنُ جريجٍ عن سلمان بن موسى قال: هم كُفَّارُ الجِن، لما روي
"أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ: { وآخرين من دُونهم لا تَعْلمُونَهُم } فقال: إنَّهم الجنُّ، ثم قال: إنَّ الشَّيطانَ لا يُخَبِّل أحداً في دار فيها فرس حبيس" وعن الحسنِ: أنه قال: "صهيلُ الفرس يرهب الجن" .
وقيل: المرادُ العدو من المسلمين، فكما أنَّ المسلم يعاديه الكافر، فقد يعاديه المسلم أيضاً.
ثم قال تعالى: { وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } فهذا عام في الجهادِ وفي سائر وجوه الخيرات: "يُوفَّ إليْكُم".
قال ابنُ عبَّاسٍ: "يُوفَّ لكُم أجره" أي: لا يضيع في الآخرة أجره؛ { وَأَنتُمْ لا تُظلَمُونَ } أي: لا تنقصون من الثَّواب. ولما ذكر ابن عباس هذا التفسير تلا قوه تعالى
{ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْئاً } [الكهف: 33].
قوله تعالى: { وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَٱجْنَحْ لَهَا } الآية.
لمَّا بيَّن ما يرهب به العدو من القوة، بيَّن بعده أنَّهم عند هذا الإرهاب إذا مالوا إلى المصالحة، فالحكمُ قبولُ المصالحِة، والجنوحُ: المَيْلُ، وجَنَحَتِ الإبلُ: أمالت أعناقها؛ قال ذو الرُّمَّةِ: [الطويل]

2731 - إذَا مَاتَ فوقَ الرَّحْلِ أحْيَيْتِ رُوحَهُ بِذكْراكِ والعِيسُ المَراسِيلُ جُنَّحُ

يقال: جَنَحَ اللَّيْلُ: أقْبَلَ.
قال النضرُ بن شميلٍ: "جنح الرَّجلُ إلى فلانٍ، ولفلان: إذا خضع له" والجُنُوح الاتِّباع أيضاً لِتضمُّنه الميل؛ قال النَّابغة - يصفُ طيراً يتبع الجيش: [الطويل]

2732 - جَوَانِحُ قَدْ أيْقَنَّ أنَّ قبيلهُ إذا ما التقَى الجَمْعَانِ أوَّلُ غَالِب

ومنه "الجَوانِحُ" للأضلاع، لميلها على حشوة الشخص، والجناحُ من ذلك، لميلانه على الطَّائر، وقد تقدَّم الكلامُ على بعض هذه المادة في البقرة.
قوله "لِلسَّلْمِ" تقدَّم الكلام على "السلم" في البقرة، وقرأ أبو بكر عن عاصم هنا بكسر السين، وكذا في القتال: "وتَدْعُوا إلى السَّلْم"، ووافقه حمزة ما في القتال و "لِلسَّلْمِ" متعلق بـ "جَنَحُوا".
فقيل: يتعدَّى بها، وبـ "إلى".
وقيل: هنا بمعنى "إلى". وقرأ الأشهبُ العقيليُّ: "فاجْنُحْ" بضمِّ النُّون، وهي لغة قيس، والفتح لغة تميم.
والضمير في "لها" يعود على "السلم"؛ لأنَّها تذكَّرُ وتُؤنث؛ ومن التَّأنيث قوله [المتقارب].

2733 - وأقْنَيْتُ لِلْحربِ آلاتِهَا وأعْدَدْتُ للسِّلْمِ أوزارَهَا

وقال آخر: [البسيط]

2734 - السِّلْمُ تأخُذُ مِنْهَا ما رضيتَ بِهِ والحَرْبُ يَكْفيكَ منْ أنْفاسِهَا جُرَعُ

وقيل: أثبت الهاء في "لها"؛ لأنَّهُ قصد بها الفعلة والجنحة، كقوله: { { إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } [الأعراف: 153] أراد: من بعد فعلتهم.
وقال الزمخشريُّ: "السِّلْمُ تُؤنَّث تأنيث نقيضها، وهي الحربُ". وأنشد البيت المتقدم: السِّلم تأخذ منها.
فصل
قال الحسنُ وقتادةُ: هذه الآية نسخت بقوله:
{ فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ } [التوبة: 5].
وقوله
{ قَاتِلُواْ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ } [التوبة: 29].
وقال غيرهما: ليست منسوخة؛ لكنها تتضمَّنُ الأمر بالصُّلح إذا كان الصلاح فيه، فإذا رأى مصالحتهم، فلا يجوز أن يهادنهم سنة كاملة وإن كانت القوة للمشركين جاز مهادنتهم عشر سنين، ولا يجوز الزيادة عليها اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه هادن أهل مكَّة عشر سنين، ثم إنهم نقضُوا العهد قبل كمال المُدَّة.
وقوله { وَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ } أي: فوِّض الأمر فيما عقدته معهم إلى الله.
{ إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ } نبَّه بذلك على الزَّجر عن نقض العهد؛ لأنَّهُ عالم بما يضمر العبد سميع لما يقوله.
قال مجاهدٌ: "نزلت في قريظة والنضير" وورودها فيهم لا يمنع من إجرائها على ظاهر عمومها.
قوله تعالى { وَإِن يُرِيدُوۤاْ أَن يَخْدَعُوكَ } الآية.
أي: يريدوا أن يغدروا ويمكروا بك.
قال مجاهدٌ: يعني: بني قريظة { فَإِنَّ حَسْبَكَ ٱللَّهُ هُوَ ٱلَّذِيۤ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِٱلْمُؤْمِنِينَ } أي: بالأنصارِ.
فإن قيل: لما قال: { هو الذي أيَّدك } فأي حاجة مع نصره إلى المؤمنين، حتَّى قال "وبالمؤمنين".
فالجوابُ: أنَّ التَّأييدَ ليس إلا من الله، لكنه على قسمين:
أحدهما: ما يحصل من غير واسطة أسباب معتادة.
والثاني: ما يحصلُ بواسطة أسباب معتادة.
فالأول: هو المراد بقوله: "أيَّدكَ بنصْرِهِ".
والثاني: هو المرادُ بقوله: "وبالمؤمنين".
ثم بيَّن كيف أيد بالمؤمنين فقال { وألَّفَ بين قلوبهم } أي: بين الأوس والخزرج، كانت بينهم إحن وخصومات، ومحاربة في الجاهليَّة، فصيَّرهم الله إخواناً بعد أن كانوا أعداءً، وتبدلت العداوة بالمحبة القوية، والمخالصة التَّامة، ممَّا لا يقدر عليه إلاَّ الله تعالى.
{ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً مَّآ أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } أي: قادر قاهر، يمكنه التصرف في القلوب، ويقلبها من العداوة إلى الصداقة ومن النفرة إلى الرغبة، حكيم يقول ما يقوله على وجه الإحكام والإتقان، أو مطابقاً للمصلحة والصَّواب على اختلاف القولين في الجبر والقدر.
فصل
احتجوا بهذه الآية على أن أحوال القلوب من العقائد، والإرادات كلها من خلق الله تعالى؛ لأن تلك الألفة، والمودة، إنَّما حصلت بسب الإيمان ومتابعة الرسول - عليه الصلاة والسلام - فلو كان الإيمانُ فعلاً للعبد لا فعلاً لله تعالى، لكانت المحبَّة المترتبة عليه فعلاً للعبد لا فعلاً لله تعالى، وذلك خلاف صريح الآية.
قال القاضي: "لَوْلاَ ألطافُ الله تعالى ساعةً فساعةً، لما حصلت هذه الأحوال، فأضيفت تلك المخالصة إلى الله تعالى بهذا التَّأويل، كما يضافُ علم الولد وأدبه إلى أبيه، لأجل أنَّه لم يحصل ذلك إلاَّ بمعونة الأبِ وتربيته، فكذا ههنا".
وأجيب: بأن كل ما ذكرتموه عدول عن الظاهر، وحمل الكلام على المجاز، وأيضاً فكل هذه الألطاف كانت حاصلة في حق الكُفار، مثل حصولها في حقِّ المؤمنين، فلو لم يحصل هناك شيء سوى الألطاف؛ لم يكن لتخصيص المؤمنين بهذه المعاني فائدة، وأيضاً فالبرهانُ العقلي مقوٍّ لهذا الظَّاهر؛ لأن القلب يصح أن يصير موصوفاً بالرَّغْبَةِ بدلاً عن النُّفرة والعكس.
فرجحان أحدِ الطَّرفين على الآخر لا بدَّ له من مرجِّح، فإن كان المرجح هو العبدُ عاد التقسيم وإن كان هو الله تعالى، فهو المقصود.
فعلم أنَّ صريح هذه الآية متأكد بصريح البرهان العقلي، فلا حاجة إلى ما ذكره القاضي.