التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ حَسْبُكَ ٱللَّهُ وَمَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ
٦٤
يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ حَرِّضِ ٱلْمُؤْمِنِينَ عَلَى ٱلْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ يَغْلِبُوۤاْ أَلْفاً مِّنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ
٦٥
ٱلآنَ خَفَّفَ ٱللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوۤاْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّابِرِينَ
٦٦
-الأنفال

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { يَٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ حَسْبُكَ ٱللَّهُ } الآية.
لمَّا وعده بالنَّصر عند مخادعة الأعداء، وعده بالنَّصر والظفر في هذه الآية مطلقاً، وعلى هذا التقرير لا يلزم منه التكرار، وهذه الآية نزلت بالبيداء في غزوة بدر قبل القتال، والمرادُ بقوله { ومنِ اتَّبعكَ من المؤمنينَ } الأنصار.
وعن ابنِ عبَّاسٍ: "نزلت في إسلامِ عُمر".
قال سعيدُ بن جبير: "أسلم مع النَّبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة وثلاثون رجلاً وست نسوة، ثم أسلم عمر، فنزلت هذه الآية".
قال المفسِّرُون: فعلى هذا القول هذه الآية مكية، [كتبت في] سورة مدنية بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قوله "ومن اتَّبعكَ" فيه أوجهٌ.
أحدها: أن يكون "مَنْ" مرفوع المحلِّ، عطفاً على الجلالة، أي: يكفيك الله والمؤمنون. وبهذا فسّره الحسن البصري وجماعة وهو الظاهر ولا محذور في ذلك حيث المعنى.
فإن قالوا: من كان الله ناصره امتنع أن يزداد حاله، أو ينقص بسبب نصرة غير الله، وأيضاً إسناد الحكم إلى المجموع يوهم أنَّ الواحدَ من ذلك المجموع لا يكفي في حصولِ ذلك المهم وتعالى الله عنه.
ويجابُ: بأنَّ الكُلَّ من اللَّهِ، إلاَّ أنَّ من أنواع النُّصرة ما يحصل بناء على الأسباب المألوفةِ المعتادةِ، ومنها ما يحصلُ لا بناءً على الأسباب المألوفة المعتادة؛ فلهذا الفرق اعتبر نصر المؤمنين، وإن كان بعضُ الناس استصعب كون المؤمنين يكونون كافين النبي صلى الله عليه وسلم وتأوَّل الآية على ما سنذكره.
الثاني: أنَّ "مَنْ" مجرورُ المحلِّ، عطفاً على الكافِ في: "حَسْبُكَ"، وهذا رأي الكوفيين وبهذا فسَّر الشعبي وابن زيد، قالا: "معناه: وحسبُ من اتَّبعك".
الثالث: أنَّ محلَّه نصبٌ على المعيَّة.
قال الزمخشري: "ومنِ اتَّبعكَ" الواو بمعنى "مع" وما بعدهُ منصوبٌ، تقول: حَسْبُكَ وزَيْداً درهمٌ، ولا تَجُرُّ؛ لأنَّ عطف الظّاهر المجرور على المكنيّ ممتنعٌ؛ وقال: [الطويل]

2735 - .........................
فَحَسْبُكَ والضَّحَّاكَ سَيْفٌ مُهَنَّدُ

والمعنى: كَفَاك وكَفَى تُبَّاعكَ المؤمنين اللَّه ناصراً.
قال أبو حيَّان: "وهذا مخالفٌ لكلام سيبويه؛ فإنَّه قال "حَسْبُك وزَيْداً درهم" لمَّا كان فيه معنى: كفاك، وقبُحَ أن يحملوه على الضمير دون الفعل، كأنَّهُ قال: حسبك وبحسبِ أخاك" ثم قال: "وفي ذلك الفعل المضمر ضميرٌ يعودُ على الدرهم والنيةُ بالدرهم التقديمُ، فيكون من عطف الجمل، ولا يجوزُ أن يكون من باب الإعمال، لأنَّ طلبَ المبتدأ للخبر وعمله فيه ليس من قبيل طلب الفعل، أو ما جرى مجراه، ولا عمله فلا يُتوهَّم ذلك فيه".
وقد سبق الزمخشريَّ إلى كونه مفعولاً معه الزجاج، إلاَّ أنه جعل "حسب" اسم فعلٍ، فإنه قال: "حَسْبُ" اسمُ فعل، والكافُ نصبٌ، والواو بمعنى "مع". وعلى هذا يكون "اللَّهُ" فاعلاً، وعلى هذا التقدير يجوز في "ومَنْ" أن يكون معطوفاً على الكاف، لأنَّها مفعول باسم الفعل، لا مجرورٌ، لأنَّ اسم الفعل لا يُضاف.
ثم قال أبو حيان: "إلاَّ أنَّ مذهب الزجاج خطأٌ، لدخول العوامل على "حَسْب" نحو: بِحَسْبك درهم، وقال تعالى:
{ فَإِنَّ حَسْبَكَ ٱللَّهُ } [الأنفال:62]، ولم يثبت في موضع كونه اسم فعل، فيحمل هذا عليه".
وقال ابنُ عطية - بعدما حكى عن الشعبي، وابن زيد ما تقدَّم عنهما من المعنى -: فـ "مَنْ" في هذا التأويل في محلِّ نصب، عطفاً على موضع الكاف؛ لأنَّ موضعها نصبٌ على المعنى بـ: "يَكْفِيكَ" الذي سَدَّتْ "حسبك" مَسَدَّه.
قال أبو حيان "هذا ليس بجيد؛ لأنَّ "حَسْبك" ليس ممَّا تكونُ الكافُ فيه في موضع نصب، بل هذه إضافة صحيحة ليست من نصب، و "حَسْبك" مبتدأ مضافٌ إلى الضمير وليس مصدراً، ولا اسم فاعل، إلاَّ إن قيل: إنَّه عطف على التوهم كأنه توهَّم أنه قيل: يكفيك الله، أو كفاك الله، لكن العطف على التوهُّم لا ينقاسُ".
والذي ينبغي أن يحمل عليه كلامُ الشعبي وابن زيد أن تكون "مَنْ" مجرورة بـ "حَسْب" محذوفة، لدلالة "حَسْبك" عليها؛ كقوله: [المتقارب]

2736 - أكُلَّ امرىءٍ تَححسَبينَ امْرَأً ونارٍ توقَّدُ باللَّيْلِ نَارَا

أي: وكلَّ نار، فلا يكُونُ من العطفِ على الضمير المجرور.
قال ابن عطيَّة: "وهذا الوجهُ من حذفِ المضاف مكروه بأنه ضرورةٌ".
قال أبو حيان: "وليس بمكروهٍ، ولا ضرورة بل أجازه سيبويه، وخرَّج عليه البيت وغيره من الكلام".
قال شهابُ الدين: "قوله: "بل هذه إضافةٌ صحيحة، ليست من نصب" فيه نظر؛ لنَّ النَّحويين على أنَّ إضافة "حَسْب" وأخواتها إضافةٌ غيرُ محضة، وعلَّلُوا ذلك بأنها في قوة اسم فاعل ناصبٍ لمفعولٍ به، فإنَّ "حَسْبكَ" بمعنى: كافيك، و "غيرك" بمعنى مُغايرك، و "قيد الأوابد" بمعنى: مُقيدها.
قالوا: ويدلُّ على ذلك أنَّها تُوصفُ بها النَّكرات، فيقال: مررت برجلٍ حسبك من رجلٍ".
وجوَّز أبو البقاء: الرفع من ثلاثة أوجهٍ: أنَّهُ نسقٌ على الجلالةِ كما تقدَّم، إلاَّ أنَّهُ قال: فيكون خبراً آخر، كقولك: القائمان زيد وعمرو، ولم يُثَنِّ "حَسْبك"؛ لأنه مصدرٌ.
وقال قومٌ: هذا ضعيفٌ؛ لأن الواو للجمع، ولا يَحْسُن ههنا، كما لا يَحْسُن في قولهم: "مَا شَاء اللَّهُ وشِئْتَ"، و "ثم" هاهنا أولى. يعني أنَّهُ من طريق الأدب لا يُؤتَى بالواو التي تقتضي الجمع، بل يأتي بـ "ثم" التي تقتضي التراخي والحديثُ دالٌّ على ذلك.
الثاني: أن يكون خبر مبتدأ محذوف تقديره: وحسب من اتبعك.
الثالث: هو مبتدأ والخبر محذوف تقديره: ومن اتبعك كذلك، أي: حسبهم الله.
وقرأ الشعبيُّ "ومَنْ" بسكون النون "أْتْبَعك" بزنة "أكْرَمَكَ".
قوله تعالى: { يَٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ حَرِّضِ ٱلْمُؤْمِنِينَ عَلَى ٱلْقِتَالِ } الآية.
لمَّا بيَّن أنه تعالى كافيه بنصره، وبالمؤمنين، بيَّن ههنا أنه ليس من الواجب أن يتكل على ذلك إلا بشرط أن يحرض المؤمنين على القتال؛ فإنه تعالى كفيل بالكفاية بشرط أن يحصل منهم التعاون على القتال، والتحريض كالتحضيض والحث.
يقال: حَرَّضَ وَحَرَّشَ وحرَّكَ وحثَّ بمعنىً واحد.
وقال الهرويُّ "يقال: حَارَضَ على الأمر، وأكَبَّ، وواكبَ، وواظبَ، وواصبَ بمعنًى".
قيل: وأصله من الحَرَض، وهو الهلاك، قال تعالى:
{ حَتَّىٰ تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ ٱلْهَالِكِينَ } [يوسف: 85].
وقال: [البسيط]

2737 - إنِّي امْرؤٌ نَابَنِي همٌّ فأحْرَضَنِي حتَّى بَليتُ وحتَّى شَفَّنِي سَقَمُ

قال الزجاج: "تأويل التحريض في اللُّغةِ أن يُحَثَّ الإنسان على شيءٍ حتى يُعلمَ منه أنَّه حارضٌ والحارض: المقاربُ للهلاك" واستبعد النَّاسُ هذا منه، وقد نَحَا الزمخشريُّ نحوه، فقال: "التَّحريضُ: المبالغةُ في الحثِّ على الأمر، من الحرَض، وهو أن ينهكه المرض، ويتبالغ فيه حتى يُشْفِيَ على الموت أو تُسَمِّيه حَرضاً، وتقولُ له: ما أراك إلاَّ حَرضاً".
وقرأ الأعمش "حَرِّصْ" بالصاد المهملة، وهو من "الحِرْصِ"، ومعناه مقارب لقراءة العامة.
قوله: { إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ } الآيات.
أثبت في الشرط الأول قيداً، وهو الصبرُ، وحذف من الثاني: وأثبت في الثاني قيداً، وهو كونهم من الكفرة، وحذف من الأوَّلِ، والتقديرُ: مائتين من الذين كفروا، ومائة صابرة فحذف من كلٍّ منهما ما أثبت في الآخر، وهو في غاية الفصاحة.
وقرأ الكوفيون: { وإن يكُنْ منْكُم مائةٌ يَغلِبُوا }، { فإنْ يكنْ منكُم مائةٌ صابرةٌ } بتذكير "يكن" فيهما، ونافع وابن كثير وابن عامر بتأنيثه فيهما، وأبو عمرو في الأولى كالكوفيين وفي الثانية كالباقين.
فَمَنْ ذكَّر فللفصل بين الفعل وفاعله بقوله: "مِنكُمْ"؛ لأنَّ التأنيث مجازي، إذ المراد بـ "المائة" الذُّكور، ومنْ أنَّثَ فلأجل اللفظِ، ولم يلتفت للمعنى، ولا للفصل.
وأمَّا أبو عمرو فإنَّما فرَّق بين الموضعين فذكَّر في الأول، لما ذكر؛ ولأنَّهُ لحظ قوله: "يغلبوا" وأنَّثَ في الثاني، لقوة التأنيث بوصفه بالمؤنث في قوله: "صَابِرَةٌ"، وأمَّا: { إِن يكُن منكُم عشرُون } و { إن يكُن منكُم ألفٌ } فبالتذكير عند جميع القرَّاء، إلاَّ الأعرج، فإنه أنَّثَ المسند إلى "عشرون".
فصل
هذا خبرٌ والمرادُ به الأمر، كقوله تعالى:
{ وَٱلْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } [البقرة: 233].
والمعنى: { إن يكن منكم عشرون صابرون } فليصبروا وليجتهدوا في القتالِ حتَّى "يَغلبُوا مائتيْنِ" ويدلُّ على أن المراد الأمر وجوه:
أولها: لو كان المرادُ الخبر، لزم أن يقال لم يغلب قط مائتان من الكُفَّارِ عشرين من المؤمنين، وذلك باطل.
وثانيها: قوله تعالى: { ٱلآنَ خَفَّفَ ٱللَّهُ عَنكُمْ } نسخ والنسخُ لا يليق إلاَّ بالأمر.
وثالثها: قوله تعالى { وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّابِرِينَ } وذلك ترغيب في الثبات على الجهادِ.
فصل
قوله تعالى: { إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ } يدُلُّ على أنَّهُ تعالى ما أوجبَ هذا الحكم إلاَّ بشرط كونه صابراً قادراً على ذلك، وإنَّما حصل هذا الشَّرط عند حصول أشياء.
منها: أن يكون شديد الأعضاء، قوياً جلداً، وأن يكون قوي القلب شجاعاً غير جبان، وأن يكون غير متحرّفٍ إلاَّ لقتال أو متحيزاً إلى فئة؛ فعند حصول هذه الشرائط كان يجبُ على الواحد أن يثبتَ للعشرةِ.
وإنَّما حسن هذا التكليف؛ لأنه مسبوق بقوله: { حَسْبُكَ ٱللَّهُ وَمَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [الأنفال: 64] فلمَّا وعد المؤمنين بالكفاية والنُّصرةِ كان هذا التكليف سهلاً؛ لأنَّ من تكفَّل بنصره فإن أهل العالم لا يقدرون على إيذائه.
فإن قيل: هذه الآية تدلُّ على وجوب ثبات الواحد للعشرة، فما الفائدة في العدولِ عن هذه اللَّفظةِ الوجيزة إلى تلك الكلمات الطويلة؟.
والجوابُ: أن هذا الكلام إنَّما ورد على وفْق الواقعة؛ لأنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبعث السَّرايا، والغالبُ أن تلك السَّرايا ما كان ينتقص عددها عن العشرين، وما كانت تزيدُ على المائة فلهذا ذكر الله هذين العددين.
قوله: { بأنَّهُم قومٌ لا يفقهُونَ } وهذا كالعلَّة لتلك الغلبة؛ لأنَّ من لا يؤمنُ باللَّهِ ولا يؤمنُ بالمعاد، فالسعادةُ ليست عنده إلاَّ هذه الحياة الدنيويَّة، ومن كان هذ معتقده فإنه يشح بهذه الحياة ولا يعرضها للزوال.
وأمَّا من اعتقد أن لا سعادة في هذه الحياة وأنَّ السعادة لا تحصل إلاَّ في الدَّار الآخرة، فإنَّه لا يبالي بهذه الحياة الدنيا، ولا يقيم لها وزناً، فيقدم على الجهاد بقلب قوي عزم صحيح، وإذا كان الأمر كذلك، كان الواحد في الثبات يقاوم العدد الكثير.
وأيضاً: فإن الكُفَّار إنَّما يعولُون على قوتهم وشوكتهم، والمسلمون يستغيثون بربهم بالدعاء، والتضرع، ومنْ كان كذلك كان النصر والظفر به أليق وأولى.
فصل
كان هذا يوم بدر فرض الله على الرَّجل الواحد من المؤمنين قتال عشرة من الكافرين فثقلت على المؤمنين، فخفَّف اللَّهُ عنهم فقال: { ٱلآنَ خَفَّفَ ٱللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً } في الواحد عن قتال العشرة وفي المائة عن قتال الألف.
وقرأ المفضل عن عاصم "وعُلِمَ" مبنياً للمفعول، و { أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً } في محلِّ رفع لقيامه مقام الفاعل، وهو في محلِّ نصبٍ على المفعول به في قراءة العامة؛ لأن فاعل الفعل ضميرٌ يعودُ على اللَّهِ تعالى.
قوله: "ضَعْفاً" قرأ عاصم وحمزة هنا، وفي الرُّوم في كلماتها الثلاث
{ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً } [الروم: 54] بفتح الضاد والباقون بضمها. وعن حفص وحده خلافٌ في الروم.
وقرأ عيسى بن عمر: "ضُعُفاً" بضم الضاد والعين وكلها مصادر.
وقيل: الضَّعْفُ - بالفتح - في الرأي والعقل، وبالضم في البدن.
وهذا قول الخليل بن أحمد، هكذا نقله الراغب عنه. ولمَّا نقل ابنُ عطية هذا عن الثعلبي، قال: "وهذا القول تردُّه القراءة". وقيل: هما بمعنى واحد، لغتان: لغةُ الحجاز الضَّمُّ، ولغةُ تميم الفتح، نقله أبو عمرو، فيكونان كـ: الفَقْر والفُقْر، والمَكْث والمُكْث، والبَخَل والبُخْل.
وقرأ ابن عباس فيما حكى عنه النقاش وأبو جعفر "ضُعَفَاء" جمعاً على "فُعَلاءَ" كـ: ظَرِيف وظُرفَاء.
قوله "يَكُن مِنكُم"يكن" في هذه الأماكن يجوز أن تكون التامَّة، فـ "مِنكُمْ" إمَّا حالٌ من "عِشْرُون" لأنها في الأصل صفةٌ لها، وإمَّا متعلق بنفس الفعل، لكونه تاماً، وأن تكون الناقصة فيكون "مِنكُمْ" الخبرَ، والمرفوعُ الاسمَ، وهو "عِشْرُونَ"، و "مائة"، و "ألف".
فصل
روى عطاءٌ عن ابن عبَّاسٍ: "لما نزل التكليف الأوَّلُ ضَجَّ المهاجرون، وقالوا: يا ربَّنا نحن جياع، وعدونا شباع، ونحن في غربة وعدونا في أهلهم، ونحن قد أخرجنا من ديارنا وأموالنا، وعدونا ليس كذلك، وقال الأنصارُ: شُغلْنَا بعَدُوِّنَا، وواسينا إخواننا، فنزل التَّخفيف".
وقال عكرمةُ: "إنَّما أمر الرجل أن يصبر لعشرة، والعشرةُ لمائةٍ حال ما كان المسلمون قليلين، فلمَّا كثروا خفف الله عنهم، ولهذا قال ابن عباس: "أيُّمَا رجلٌ فرَّ من ثلاثة فلم يفر، فإن فر من اثنين فقد فَرَّ". والجمهورُ ادَّعُوا أن قوله: { ٱلآنَ خَفَّفَ ٱللَّهُ عَنكُمْ } ناسخ للآية المتقدمة".
وأنكر أبو مسلم الأصفهانيُّ هذا النسخ، وقال: "إن قوله في الآية الأولى: { إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ } فهذا الخبر محمول على الأمر، لكن بشرط كون العشرين قادرين على الصَّبر لمُقاتلةِ المائتين، وقوله: { ٱلآنَ خَفَّفَ ٱللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً } يدلُّ على أنَّ ذلك الشرط غير حاصل في حقِّ هؤلاء، فالآية الأولى دلَّت على ثبوت حكم بشرط مخصوص، وهذه الآية دلَّت على أنَّ ذلك الشَّرط مفقود في حقِّ هذه الجماعة، فلا جرم لم يثبت ذلك الحكم، وعلى هذا التقدير لم يحصل النسخ ألبتة".
فإن قيل: قوله تعالى: { إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ } معناه: ليكن العشرون صابرون لمقابلة المائتين، وعلى هذا التقدير فالنسخ لازم.
فالجوابُ: لم لا يجوزُ أن يكون المرادُ من الآية إن حصل عشرون صابرون في مقابلة المائتين فليشتغلوا بجهادهم؟.
والحاصلُ أنَّ لفظ الآية ورد بلفظ الخبر؛ خالفنا هذا الظَّاهر وحملناه على الأمر، أما على رعاية الشرط فقد تركناه على ظاهره، وتقديره: إن يحصل منكم عشرون موصوفون بالصبر على مقاومة المائتين، فليشتغلوا بمقاومتهم، وعلى هذا فلا نَسْخَ.
فإن قيل: قوله: { ٱلآنَ خَفَّفَ ٱللَّهُ عَنكُمْ } مشعر بأن هذا التَّكليف كان متوجهاً عليهم فالجوابُ: لا نسلم أنَّ لفظ التخفيف يدلُّ على حصول التثقيل قبله؛ لأنَّ عادة العربِ الرخصة بهذا الكلام، كقوله تعالى عند الرُّخْصَةِ للحر في نكاح الأمة، لمن لا يستطيع نكاح الحرة:
{ وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً } [النساء: 25] فكذا ههنا.
وتحقيقه أنَّ هؤلاء العشرين كانوا في محلِّ أن يقال إنَّ ذلك الشرط حاصِلٌ فيهم، فكان ذلك التكليف لازماً عليهم فلمَّا بيَّن اللَّهُ تعالى أنَّ ذلك الشرط غير حاصل فيهم، وأنَّه تعالى علم أن فيهم ضعفاً لا يقدرون على ذلك فقد تخلصوا عن ذلك الخوف، فصحَّ أن يقال: خفَّف اللَّهُ عنهم، وممَّا يدل على عدم النَّسْخِ أنَّهُ تعالى ذكر هذه الآية مقارنة للآية الأولى، وجعل النَّاسِخ مقارناً للمنسوخ لا يجوزَ.
فإن قيل: المعتبر في النَّاسخِ والمنسوخ بالنُّزُولِ دون التلاوة، فقد يتقدم الناسخِ وقد يتأخر، ألا ترى في عدة الوفاة الناسخ مقدم على المنسوخ.
فالجوابُ: أنَّ الناسخ لمَّا كان مقارنته للمنسوخ لا يجوز في الوجود، وجب ألا يكون جائزاً في الذكر، اللهم إلاَّ لدليل قاهر، وأنتم ما ذكرتم ذلك.
وأمَّا قوله في عدة الوفاة الناسخ مقدم على المنسوخ، فأبو مسلم ينكر كلّ أنواع النسخ في القرآن فكيف يمكن إلزام هذا الكلام عليه؟ فهذا تقرير قول أبي مسلم.
قال ابن الخطيب: "إن ثبت إجماع الأمَّة على الإطلاق قبل أبي مسلمٍ على النَّسْخِ فلا كلام، فإن لم يحصل الإجماعُ القاطع؛ فنقولُ: قول أبي مسلمٍ حسن صحيح".
فصل
احتجَّ هشام على قوله: إنَّ الله تعالى لا يعلم الجزئيات إلاَّ عند وقوعها بقوله { ٱلآنَ خَفَّفَ ٱللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً } فإنَّ معنى الآية: الآن علم اللَّهُ أن فيكم ضَعْفاً، وهذا يقتضي أنَّ علمه تعالى بضعفهم ما حصل إلاَّ في هذا الوقتِ
وأجاب المتكلمون بأنَّ معنى الآية: أنَّهُ تعالى قبل حدوث الشيء لا يعلمه حادثاً واقعاً.
فقوله { ٱلآنَ خَفَّفَ ٱللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً } معناه: أن الآن حصل العلم بوقوعه وحصوله، وقبل ذلك كان الحاصل هو العلم بأنه سيقع أو سيحدث.
فصل
الذي استقر عليه حكم التكليف بمقتضى هذه الآية أنَّ كلَّ مسلم بالغ مكلف وقف بإزاء كافرين، عبداً كان أو حراً فالهزيمة عليه محرمة ما دام معه سلاح يقاتل، فإن لم يبق معه سلاح، فله أن ينهزم، وإن قاتله ثلاثة حلت له الهزيمةُ والصبر أحسن.
روى الواحديُّ في البسيط: "أنه وقف جيش مؤتة، وهم ثلاثة ألاف وأمراؤهم على التَّعاقب زيد بن حارثة ثمَّ جعفر بن أبي طالب ثمَّ عبد الله بن رواحة لمائتي ألف من المشركين، مائة ألف من الرُّومِ، ومائة ألف من المستعربة، وهم لخم وجذام".
قوله: "بإذنِ اللَّهِ" أي: أنه لا تقع الغلبةُ إلاَّ بإذن اللَّهِ، والإذن ههنا هو الإرادة وذلك يدل على مسألة خلق الأفعال، وإرادة الكائنات.
ثم ختم الآية بقوله: { وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّابِرِينَ } والمرادُ ما ذكره في الآية الأولى في قوله { إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ } فبيَّن ههنا أنَّ الله مع الصَّابرين والمقصود أن العشرين لو صبروا ووقفوا، فإنَّ نصري معهم وتوفيق مقارن لهم وهذا يدلُّ صحَّة مذهب أبي مسلم، وهو أن ذلك الحكم لم ينسخ، بل هو ثابت كما كان فإنَّ العشرين إن قدروا على مصابرة المائتين، بقي ذلك الحكم، وإنْ لم يقدروا على مصابرتهم فالحكمُ المذكور هنا زائل.