التفاسير

< >
عرض

مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَٰجِدَ ٱللهِ شَٰهِدِينَ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَٰلُهُمْ وَفِي ٱلنَّارِ هُمْ خَٰلِدُونَ
١٧
إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَٰجِدَ ٱللَّهِ مَنْ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَأَقَامَ ٱلصَّلَٰوةَ وَءَاتَىٰ ٱلزَّكَٰوةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ ٱللَّهَ فَعَسَىٰ أُوْلَـٰئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ ٱلْمُهْتَدِينَ
١٨
-التوبة

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله } الآية.
اعلم أنَّهُ تعالى بَدَأ السُّورة بذكر البراءة من الكُفَّار، وبالغ في ذلك، وذكر من أنواع قَبَائحِهمْ مَا يوجب تلك البراءةَ، ثمَّ إنَّه تعالى حكى عنهم شبهاً احتجوا بها في أنَّ هذه البراءة غير جائزةٍ، وأنَّهُ يجبُ مخالطتهم ومناصرتهم، فأولها هذه الآية، وذلك أنَّهم ذكروا أنهم موصوفون بصفات حميدةٍ توجبُ مخالطتهم ومعاونتهم، ومناصرتهم، ومن جملةِ تلك الصِّفات، كونهم عامرين للمسجدِ الحرامِ.
قال ابنُ عبَّاسٍ: لمَّا أسر العبَّاسُ يوم بدرٍ، وعيَّرَهُ المسلمون بالكُفرِ، وقطيعة الرَّحمِ، وأغلظ له عليٌّ القول، فقال العبَّاسُ: ما لكم تذكرون مساوئنا، ولا تذكرون محاسننا؟ فقال له عليٌّ: ألكُم محاسن؟ فقال: نعم، إنَّا لنعْمُرُ المسْجِدَ الحَرامَ، ونحجب الكَعْبَة، ونسْقِي الحاجَّ، ونفكُّ العاني؛ فأنزل اللهُ تعالى ردّاً على العبَّاسِ: { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ اللهِ } أي: ما ينبغي للمشركين أن يعمرُوا مساجد الله، أوجب على المسلمين منعهم من ذلك؛ لأنَّ المساجد تعمر لعبادة الله وحده.
واعلم أنَّ عمارة المَسْجِد قسمان:
إمَّا بلزومها وكثرة إتيانها، يقال: فلان يعمرُ مجلس فلان إذا كثر غشيانه، وإمَّا بالعمارةِ المعروفة بالبناء، فإن كان المراد هو الثاني كان المعنى أنَّه ليس للكافر أن يقدم على مرمَّةِ المسجد، لأنَّ المسجد موضع العبادة، فيجب أن يعظم، والكافرُ يهينه، وأيضاً فالكافرُ نجس في الحكم، لقوله تعالى:
{ { إِنَّمَا ٱلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ } [التوبة:28]، وتطهير المسجد واجبٌ، لقوله تعالى: { أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ } [البقرة:125]، وأيضاً فالكافرُ لا يحترز من النَّجاسة، فدخوله المسجد تلويث للمسجد، وقد يؤدّي إلى فسادِ عبادة المصلين.
وأيضاً إقدامه على مرمة المسجد يجري مجرى الإنعام على المُصلين، ولا يجوز أن يصير الكافر صاحب المنّة على المسلمين، وقد ذهب جماعةٌ منهم الواحديُّ؛ إلى أنَّ المُرادَ منه: العمارة المعروفة من بناء المسجدِ، ومرمته عند الخراب، فيمنع منه الكافر، حتى ولو أوصى بها لم تقبل، ويمنع من دخول المساجدِ، وإن دخل بغير إذن استحق التعزير، وإن دخل بإذن لم يعزر، والأولى تعظيمُ المساجد، ومنعهم منها، وقد أنزل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وفد ثقيف في المسجد وهم كفَّار، وشد ثمامة بن أثال الحنفي في سارية من سواري المسجد، وهو كافر، وحمل بعضهم العمارة على المسجد على الوجه الأول.
"أَن يَعْمُرُواْ" اسم "كان". قرأ ابنُ السميفع "يُعْمِرُوا" بضم الياء وكسر الميم، من: "أعمر" رباعياً، والمعنى: أن يعينوا على عمارته. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو "مسجد اللهِ" بالإفراد، وهي تحتملُ وجهين، أن يُراد به مسجدٌ بعينه، وهو المسجد الحرام، لقوله
{ { وَعِمَارَةَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ } [التوبة:19]، وأن يكون اسم جنسٍ، فيندرج فيه سائر المساجد، ويدخل المسجدُ الحرامُ دخولاً أوليّاً وقرأ الباقون: "مَساجِد" بالجمع، وهي أيضاً محتملةٌ للأمرين، ووجه الجمع إمَّا لأنَّ كُلَّ بقعةٍ من المسجد الحرام يقال لها: مسجدٌ، وإمَّا لأنه قبلةُ سائر المساجد، فصَحَّ أن يُطْلقَ عليه لفظُ الجمع لذلك.
[قال الفرَّاءُ: ربما ذهب العربُ بالواحد إلى الجمع، وبالجمع إلى الواحد ألا ترى إلى الرجل يركب البرذون؛ فيقول: أخذت في ركوب البراذين، وفلان يجالس الملوك، وهو لا يجلس إلا مع ملك واحد، ويقال: فلان كثير الدرهم والدينار يريد: الدراهم والدنانير].
قوله: "شَاهِدِينَ" الجمهور على قراءته بالياء نصباً على الحال من فاعل: "يَعْمُرُوا" أراد: وهم شاهدون. وقرأ زيد بن علي: "شَاهِدُون" بالواو رفعاً على خبر ابتداءٍ مضمر، والجملةُ حالٌ أيضاً.
قوله "على أنفُسهم" الجمهور على "أنفُسهم" جمع "نَفْس" وقرىء "أنفسهم" بضم الفاء، ووَجْهُهَا أن يُرادَ بـ "الأنْفَس" - وهو الأشرف الأجل من النَّفَاسة -: رسولُ صلى الله عليه وسلم.
قيل: لأنه ليس بطنٌ من بطون العرب إلاَّ وله فيهم ولادة، وهذا المعنى منقولٌ في تفسير قراءة الجمهور أيضاً، وهو مع هذه القراءة أوضح.
فصل
قال الحسنُ: "لم يقولوا نحن كفار، ولكن كلامهم بالكفر شاهد عليهم بالكفر".
وقال الضحاك عن ابن عبَّاسٍ: "شهادتهم على أنفسهم بالكفر سجودهم للأصنام، فكانوا يطوفون بالبيت عراة، وكانت أصنامهم منصوبة بخارج البيت الحرام عند القواعد، وكلَّما طافُوا شَوْطاً سَجَدُوا لأصْنَامِهِمْ، ولم يَزْدَادُوا بذلك من الله إلاَّ بُعْداً".
وقال السدي: "شهادتهم على أنفسهم بالكفر، هو أن النصراني يسأل من أنت؟ فيقول: أنا نصراني، واليهودي يقول أنها يهودي، ويقال للمشرك ما دينك؟ فيقول: مشرك".
وقيل: إنَّهم كانُوا يقولون: لبيك لا شريك لك إلاَّ شريك هو لك تملكه وما ملك، ونقل عن ابن عباس أنه قال: "المرادُ أنهم يشهدون على الرسول بالكفر، قال: وإنَّما جازَ هذا التفسيرُ، لقوله تعالى:
{ { لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ } [التوبة:128].
قال القاضي "هذا عدول عن الحقيقة، وإنما يجوز المصير إليه لو تعذَّر إجراءُ اللفظ على حقيقته، أمَّا لما بيَّنا أنَّ ذلك جائز لم يجز المصير إلى هذا المجاز".
قوله { أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ } لأنها لغير الله، ثم قال: { وَفِي ٱلنَّارِ هُمْ خَالِدُونَ } هذه جملةٌ مستأنفة و "في النَّارِ" متعلقٌ بالخبرِ، وقُدِّم للاهتمام به، ولأجل الفاصلة.
وقال أبُو البقاءِ: "وهم خالدون في النَّارِ، وقد وقع الظرفُ بين حرف العطف والمعطوف" وفيه نظرٌ، من حيثُ إنَّه يوهم أنَّ الجملة معطوفةٌ على ما قبلها، عطف المفرد على مثله تقديراً، وليس كذلك، بل هي مستأنفةٌ، وإذا كانت مستأنفة فلا يقال فيها: فصل الظَّرف بين حرف العطف والمعطوف، وإنَّما ذلك في المتعاطفين المفردين، أو ما في تأويلهما، وقد تقدَّم تحقيقه في قوله تعالى:
{ رَبَّنَآ آتِنَا فِي ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي ٱلآخِرَةِ حَسَنَةً } [البقرة:201] وفي قوله: { وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِٱلْعَدْلِ } [النساء:58].
وقرأ زيد بن علي خالدين بالياء، نصباً على الحالِ من الضمير المستتر في الجارِّ قبله، لأنَّ الجارَّ صار خبراً، كقولك: في الدار زيد قاعداً، فقد رفع زيد بن علي "شاهدين"، ونصب "خالدون" عكس قراءة الجمهور فيها.
فصل
احتج أهلُ السُّنَّةِ بهذه الآية على أنَّ الفاسق من أهل الصَّلاة، لا يخلد في النار من وجهين:
الأول: أن قوله { وَفِي ٱلنَّارِ هُمْ خَالِدُونَ } يفيد الحصر، أي: هم فيها خالدون لا غيرهم؛ لأنَّ هذا الكلام إنَّما ورد في حق الكفار.
الثاني: أنَّه تعالى جعل الخلود في النار للكافر جزاء على كفره، ولو كان هذا الحكم ثابتاً لغير الكفار، لما صحَّ تهديد الكافر به.
قوله: { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ ٱللَّهِ } جمهورُ القراء على الجمع، وقرأ الجحدريُّ، وحماد بن أبي سلمة عن ابن كثير بالإفراد، والتَّوجيهُ يؤخذ ممَّا تقَدَّم، والظَّاهر أن الجمع هنا حقيقةٌ؛ لأن المراد: جميع المؤمنين العامرين لجميع مساجد أقطار الأرض.
فصل
اعلم أنَّه تعالى لمَّا بيَّن أنَّ الكافر ليس له أن يشتغل بعمارة المسجد، بيَّن أنَّ المشتغل بهذا العمل يجب أن يكون موصوفاً بصفات أربع، فقال: { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ ٱللَّهِ مَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَأَقَامَ ٱلصَّلاَةَ وَآتَىٰ ٱلزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ ٱللَّهَ } فبين أنه لا بُدَّ من الإيمان بالله؛ لأن المسجد عبارة عن الموضع الذي يعبد الله فيه، والكافرُ يمتنع منه ذلك، وأمَّا كونه مؤمناً باليوم الآخر، لأنَّ عبادة الله إنَّما تفيد في القيامة، فمن أنكر القيامة، لم يعبد الله، ومن لم يعبد الله، لم يَبْنِ بناءً لعبادة الله.
فإن قيل: لِمَ لَمْ يذكر الإيمان بالرَّسول - عليه الصَّلاة والسَّلام -؟.
فالجوابُ: من وجوه:
الأول: أنَّ المشركين كانوا يقولون: إنَّ محمداً إنَّما ادَّعى الرِّسالةَ طلباً للرئاسة، فذكر ههنا الإيمان باللهِ واليوم الآخر، وترك ذكر النُّبوةِ، كأنه يقولُ: مطلوبي من تبليغ الرسالة ليس إلاَّ الإيمان بالمبدأ والمعاد، فذكر المقصود الأصليّ، وحذف ذكر النبوة، تنبيهاً للكفار على أنَّه لا مطلوب له من الرسالة إلاَّ هذا القدر.
الثاني: أنه لمَّا ذكر الصَّلاة، والصلاة لا تتم إلاَّ بالأذان والإقامة والتشهد، وهذه الأشياء مشتملة على ذكر النبوة، فكان كافياً.
الثالث: أنَّه ذكر الصلاة، والمفرد المحلى بالألف واللام ينصرف إلى المعهود السابق، والمعهود عند المسلمين هي الأعمال التي كان يأتي بها محمد - عليه الصَّلاة والسَّلام - فكان ذكر الصَّلاة دليلاً على النبوة، وأمَّا قوله "وأَقَامَ الصَّلاةَ" فلأنَّ المقصود الأعظم من بناء المسجد إقامة الصلاة، وأمَّا قوله "وآتَى الزَّكاةَ" فلأنَّ الإنسانَ إذا كان مقيماً للصلاة، فإنَّه يحضرُ في المسجد، وفي المسجد طوائف الفقراء والمساكين، لطلب أخذ الزَّكاةِ، فتحصُل عمارة المسجد، وإن حملنا العمارة على البناء، فلأن الظَّاهرَ أنَّ الإنسان إذا لم يؤدّ الزكاة لا يعمر مسجداً.
وأما قوله { وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ ٱللَّهَ } أي: لا يبني المسجد لأجل الرِّياء والسمعة، ولكن يبنيه لمجرد طلب رضوان الله.
روي أنَّ أبا بكر - رضي الله عنه - بنى في أول الإسلام على باب داره مسجداً، فكان يصلي فيه، ويقرأ القرآن، والكفار يؤذونه بسببه، فيحتمل أن يكون المراد منه تلك الحالة، ولمَّا حصر عمارة المساجد فيمن كان موصوفاً بهذه الصفات الأربع، نبَّه بذلك على أنَّ المسجد يجبُ صونه عن غير العبادة فيدخل فيه فضول الحديث، وإصلاح مهمات الدنيا. قال عليه الصلاة والسلام:
"يأتِي في آخر الزمانِ ناسٌ من أمتِي يأتُون المساجدَ فيقعُدُون فيها حلقاً، ذكرُهُم الدُّنْيَا، وحُبُّ الدُّنْيَا، لا تُجالِسُوهُم فليْسَ للهِ بِهِمْ حَاجَة" وقال عليه الصلاة والسلام "الحديثُ في المسْجِدِ يَأكلُ الحسنات كما تأكل البهيمة الحشيش" ، وقال عليه الصلاة والسلام، قال الله تعالى: "إن بيوتي في الأرض المساجد، وإنَّ زُوَّاري فيها عُمَّارها، فطُوبَى لعبدٍ تطهَّر في بيتهِ ثمَّ زَارنِي في بَيْتِي، فحقٌّ على المَزُورِ أن يُكرم زائرهُ" ، وقال عليه الصلاة والسلام "مَنْ ألفَ المَساجِد ألفهُ الله" ، وقال عليه الصلاة والسلام "إذَا رأيْتُم الرَّجلَ يعتادُ المسجدَ فاشْهَدُوا له بالإيمان" ، وقال عليه الصلاة والسلام "مَنْ أسرجَ في مسجدٍ سراجاً لم تزلِ الملائِكةُ وحملةُ العرشِ يَسْتغفرُونَ لهُ ما دامَ في ذلكَ المسْجدِ ضَوؤهُ" ، وهذه الأحاديث نقلها الزمخشريُّ.
قوله: { فَعَسَىٰ أُوْلَـٰئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ ٱلْمُهْتَدِينَ } قال المفسرون: "عسى" من الله واجب، لكونه متعالياً عن الشَّك والتردد.
وقال أبو مسلم: "عسى" ههنا راجع إلى العباد، وهو يفيدُ الرجاء، فكان المعنى: إنَّ الذين يأتون بهذه الطاعات، إنَّما يأتون بها على رجاء الفوز بالاهتداء، لقوله تعالى:
{ { يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً } [السجدة:16] والتحقيق فيه: أنَّ العبد عند الإتيان بهذه الأعمال، لا يقطعُ على الفوز بالثَّواب؛ لأنه يجوزُ من نفسه أنه قد أخَلَّ بقيد من القيود المعتبرة في حصول القبول، وقال الزمخشريُّ "المرادُ منه تبعيد للمشركين عن مواقف الاهتداء، وحسم لأطماعهم من الانتفاع بأعمالهم التي استعظموها وافتخروا بها". فبيَّن تعالى أنَّ الذين آمنوا وضَمُّوا إلى إيمانهم العمل بالشرائع، والخشية من الله فهؤلاء صار حصول الاهتداء لهم دائراً بين "لَعَلَّ" و "عَسَى"، فما بالُ هؤلاء المشركين، يقطعون بأنَّهم مهتدون، ويجزمون بفوزهم بالخير من عند اللهِ تعالى.