التفاسير

< >
عرض

لَّيْسَ عَلَى ٱلضُّعَفَآءِ وَلاَ عَلَىٰ ٱلْمَرْضَىٰ وَلاَ عَلَى ٱلَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى ٱلْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٩١
وَلاَ عَلَى ٱلَّذِينَ إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنْفِقُونَ
٩٢
إِنَّمَا ٱلسَّبِيلُ عَلَى ٱلَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَآءُ رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ ٱلْخَوَالِفِ وَطَبَعَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ
٩٣
يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا ٱللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
٩٤
-التوبة

اللباب في علوم الكتاب

ثمَّ ذكر أهل العذر فقال: { لَّيْسَ عَلَى ٱلضُّعَفَآءِ } قال ابنُ عبَّاسٍ: يعني: الزَّمنى، والمشايخ والعجزة.
وقيل: هم الصُّبيان. وقيل: النِّسوان. { وَلاَ عَلَىٰ ٱلْمَرْضَىٰ } وهم أصحاب العمى، والعرج والزمانة ومن كان موصُوفاً بمرض يمنعه من التمكن من المحاربة، { وَلاَ عَلَى ٱلَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ } يعني: الفقراء؛ لأنَّ حضورهُم يكون كلاًّ ووبالاً على المجاهدين، "حَرَجٌ" إثم. وقيل: ضيق عن القعود في الغزو. ثم إنَّه تعالى شرط في جواز هذا التأخير شرطاً مُعيَّناً، فقال { إِذَا نَصَحُواْ للَّهِ وَرَسُولِهِ }. قرأ أبو حيوةَ: "نَصَحُوا اللهَ" بغير لام. وقد تقدَّم أن "نَصَحَ" يتعدَّى بنفسه وباللامِ. والنُّصح: إخلاص العملِ من الغِشّ. ومنه: التَّوبة النصُوح. قال نفطويه: نصح الشيء: إذا خلص، ونصح له القول: أي: أخلصه له. قال عليه الصلاة والسلام:
"الدِّينُ النَّصيحَةُ ثلاثاً. قالوا لمنْ؟ قال: للهِ ولكتابِهِ ولرسُوله ولأئمَّةِ المسلمينَ وعامَّتهمْ."
قال العلماءُ: النَّصيحة للهِ: إخلاص الاعتقاد في الوحدانيَّةِ، ووصفه بصفات الألوهيَّةِ وتنزيهه عن النَّقائص، والرَّغبة في محابه، والبُعْد من مساخطه، والنَّصيحة لرسوله: التصديق بنُبُوَّتِهِ والتزام طاعته في أمره ونهيه، وموالاة من والاه، ومعاداة من عاداه، وتوقيره، ومحبَّتِهِ ومحبَّةِ آل بيته، وتعظيمه وتعظيم سنَّته، وإحياؤها بعد موته بالبحث عنها، والنفقة فيها، والذب عنها، ونشرها، والدُّعاء إليها، والتخلُّق بأخلاقه الكريمة، وكذا النصح لكتاب الله قراءته، والتفقه فيه، والذَّب عنه، وتعليمه وإكرامه، والتخلُّق به.
والنصح لأئمة المسلمين: ترك الخروج عليهم، وإرشادهم إلى الحقِّ، وتثبيتُهُمْ فيما أغفلوه من أمر المسلمين، ولزوم طاعتهم، والقيام بواجب حقهم. وأمَّا النصحُ للعامَّةِ: فهو ترك معاداتهم وإرشادهم، وحب الصَّالحين منهم، والدعاء لجميعهم، وإرادة الخير لكافتهم. والمعنى: أنَّهُمْ إذا أقاموا لا يلقوا الأراجيف، ولا يثيروا الفتنَ، ويسعوا في إيصال الخير إلى المجاهدين ويقوموا بإصلاح مهمَّات بيوتهم، ويسعوا في إيصال الأخبار السارة من بيوتهم إليهم، ويخلصوا الإيمان والعمل لله، فهذه أمورٌ جارية مجرى الإعانة على الجهادِ.
ثم قال تعالى: { مَا عَلَى ٱلْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ } فقوله "مِنْ سبيلٍ" فاعلٌ بالجار قبله لاعتماده على النَّفْي، ويجوز أن يكون مبتدأ، والجار قبله خبره. وعلى كلا القولين فـ "مِنْ" مزيدةٌ فيه، أي: ما على المحسنين سبيل. والمعنى: أنَّهُ لا إثم عليه بسبب القعود عن الجهاد.
{ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }. قال قتادةُ: نزلت في عائذ بن عمرو وأصحابه. وقال الضحاكُ نزلت هذه الآية في عبد الله ابن أم مكتوم، وكان ضريراً.
فصل
قال بعضهم: في هذه الآية نوعٌ من البديع، يُسمَّى التلميح، وهو أن يشارَ إلى قصةٍ مشهورةٍ، أو مثل سائرٍ، أو شعرٍ نادرٍ، في فحوى كلامك من غير ذكره؛ ومنه قوله: [البسيط]

2829- اليَوْمَ خَمْرٌ ويبْدُو في غدٍ خبرٌ والدَّهْرُ مِنْ بيْنِ إنعامٍ وإبْآسِ

يُشير إلى قول امرئ القيس لمَّا بلغه قتلُ أبيه: "اليوم خَمْرٌ، وغداً أمرٌ".
وقول الآخر: [الطويل]

2830- فواللهِ مَا أدْرِي أأحلامُ نَائِمٍ ألمَّتْ بِنَا أم كان في الرَّكْبِ يُوشَعُ؟

يشير إلى قصَّة يوشع عليه الصلاة والسلام، واستيقافه الشَّمس.
وقول الآخر: [الطويل]

2831- لَعمرٌو مَعَ الرَّمضَاءِ والنَّارُ تَلتَظِي أرَقُّ وأحْفَى مِنْكَ في ساعةِ الكَرْبِ

أشار إلى البيت المشهور: [البسيط]

2832- المُسْتجيرُ بعمْرٍو عندَ كُرْبتِهِ كالمُسْتَجيرِ مِنَ الرَّمْضَاءِ بالنَّارِ

فكأنه قوله: { مَا عَلَى ٱلْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ } اشتهر ما هو بمعناه بين النَّاس؛ فأشار إليه من غير ذكر لفظه. ولمَّا ذكر أبو حيان التلميح لم يُقَيِّدَهُ بقوله: "من غير ذكره". ولا بُدَّ منه لأنَّه إذا ذكره بلفظه كان اقتباساً وتضميناً.
فصل
اختلفوا في قوله: { مَا عَلَى ٱلْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ } هل يفيدُ العموم؟ فقال بعضهم: لا؛ لأنَّ اللفظ مقصورٌ على أقوام مُعَيَّنينَ نزلت الآية فيهم. وقال آخرون: بلى؛ لأنَّ العبرةَ بعموم اللفظِ لا بخصوصِ السَّببِ، والمُحسن هو الآتي بالإحسان، ورأس الإحسان لا إله إلاَّ اللهَ، فكلُّ مَنْ قالها واعتقدها، كان من المسلمين، فاقتضت نفي جميع المسلمين؛ فدلَّ هذا اللفظ بعمومه على أنَّ الأصلَ حرمة القتلِ، وحرمة أخذ المالِ وأن لا يتوجه عليه شيء من التَّكاليفِ، إلاَّ بدليلٍ منفصل، فصارت هذه الآية بهذا الطريق أصلاً مُعتبراً في الشريعة، في تقرير أنَّ الأصل براءة الذِّمة، إلى أن يرد نص خاص.
قوله: { وَلاَ عَلَى ٱلَّذِينَ }. فيه أوجه:
أحدها: أن يكون معطوفاً على "الضُّعفاء"، أي: ليس على الضعفاءِ، ولا على الذين إذا ما أتوكَ، فيكونون داخلين في خبر "ليس" مُخْبراً بمتعلقهم عن اسمها، وهو "حَرَجٌ".
الثاني: أن يكون معطوفاً على "المُحْسنينَ" فيكونون داخلين فيما أخبر به من قوله: "مِنَ سبيلٍ"، فإنَّ "مِنْ سبيلٍ" يحتمل أن يكون مبتدأ، وأن يكون اسم "ما" الحجازية، و "مِنْ" مزيدةٌ في الوجهين.
الثالث: أن يكون "ولا علَى الَّذِينَ" خبراً لمبتدأ محذوف، تقديره: ولا على الذين إذا ما أتوكَ.. إلى آخر الصلة، حرجٌ، أو سبيلٌ وحذف لدلالةِ الكلامِ عليه، قاله أبُو البقاءِ. ولا حاجةَ إليه، لأنَّه تقديرٌ مُسْتغنًى عنه إذ قدَّر شيئاً يقومُ مقامهُ هذا الموجودُ في اللفظ والمعنى. وهذا الموصولُ، أعني قوله: { وَلاَ عَلَى ٱلَّذِينَ إِذَا مَآ أَتَوْكَ }، يحتملُ أن يكون مندرجاً في قوله: { وَلاَ عَلَى ٱلَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ } وذكروا على سبيل نفي الحرج عنهم، وألا يكونوا مندرجين، بل أن يكون هؤلاء وجدوا ما ينفقونَ، إلاَّ أنَّهُمْ لمْ يَجدُوا مرْكُوباً. وقرأ معقل بنُ هارون "لنَحْملَهُمْ" بنون العظمة، وفيها إشكالٌ، إذ كان مقتضى التركيب: قلت: لا أجدُ ما يحملكم عليه الله.
قوله: "قُلْتَ" فيه أربعة أوجهٍ، أحدها: أنَّهُ جواب "إذا" الشَّرطيَّة، و "إذَا" وجوابها في موضع الصِّلةِ، وقعت الصِّلةُ جملة شرطية، وعلى هذا؛ فيكونُ قوله: "تولَّوا" جواباً لسؤال مقدر كأنَّ قائلاً قال: ما كان حالهم إذا أجيبوا بهذا الجواب؟ فأجيب بقوله: "تَوَلَّوْا".
الثاني: أنَّه في موضع نصب على الحال، من "أتوكَ"، أي: إذَا أتوكَ، وأنت قائلٌ: لا أجدُ ما أحملكم عليه، و "قَدْ" مقدرة، عند من يشترطُ ذلك في الماضي الواقع حالاً، كقوله:
{ { أَوْ جَآءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ } [النساء:90] في أحد أوجهه كما تقدَّم، وإلى هذا نحا الزمخشريُّ.
الثالث: أن يكون معطوفاً على الشَّرط؛ فيكون في محلِّ جرٍ بإضافة الظرف إليه بطريق النسق وحذف حرف العطف، والتقدير: وقلت، وقد تقدَّم الكلام على هذه المسألة وإلى هذا ذهب الجرجاني، وتبعه ابنُ عطيَّة، إلا أنَّه قدَّر العاطف فاءً أي: فقلت.
الرابع: أن يكون مستأنفاً. قال الزمخشريُّ "فإن قلت: هل يجُوزُ أن يكون قوله: "قلت لا أجدُ" استئنافاً مثله؟ - يعني مثل: { رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ ٱلْخَوَالِفِ } [التوبة:93] - كأنَّه قيل: إذا ما أتوك لتحملهم تولَّوا، فقيل: ما لهُم تولَّوا باكينَ؟ قلت لا أجدُ ما أحملهم عليه إلاَّ أنَّه وسط بين الشرط والجزاء، كالاعتراض؟ قلتُ: نعم، ويحسنُ" انتهى.
قال أبُو حيَّان "ولا يجوزُ، ولا يحسن في كلام العربِ، فكيف في كلام الله؟ وهو فهم أعجمي" قال شهابُ الدين: وما أدري ما سببُ منعه، وعدم استحسانه له مع وضوحه وظهوره لفظاً ومعنًى؟ وذلك لأنَّ تولِّيهم على حالة فيض الدَّمع ليس مرتباً على مجرَّد مجيئهم له عليه الصلاة والسلام ليحملهم، بل على قوله لهم: " لا أجدُ مَا أحْملكُمْ" وإذا كان كذلك فقوله - عليه الصلاة والسلام - لهم ذلك سببٌ في بكائهم؛ فحسن أن يجعل قوله: "قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ" جواباً لمنْ سأل عن علةِ تولِّيهم، وأعينُهم فائضةٌ دمعاً، وهو المعنى الذي قصده أبُو القاسم وعلى هذه الأوجه الأربعة المتقدمة في "قُلْتَ" يكون جواب الشَّرط قوله: "تولَّوا"، وقوله "لِتحْمِلهُمْ" علة لـ "أتَوْكَ". وقوله: "لا أجدُ" هي المتعديةُ لواحدٍ؛ لأنَّها من "الوُجْد"، و "مَا" يجوز أن تكون موصولةً، أو موصوفةً.
فصل
قال أبُو العباس المقرىء: ورد لفظ التَّولِّي في القرآن على أربعة أوجه:
الأول: بمعنى الانصراف، قال تعالى: { تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ } [التوبة:92] ومثله قوله تعالى
{ { ثُمَّ تَوَلَّىٰ إِلَى ٱلظِّلِّ } [القصص:24] أي: انصرف.
الثاني: بمعنى: "أبَى"، قال تعالى
{ { فَإِن تَوَلَّوْاْ فَٱعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُصِيبَهُم } [المائدة:49] أي: أبَوْا أن يؤمنوا؛ ومثله قوله تعالى { فَإِنْ تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ وَٱقْتُلُوهُمْ } [النساء:89].
الثالث: بمعنى: "أعرض" قال تعالى
{ { وَمَن تَوَلَّىٰ فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً } [النساء:80].
الرابع: الإعراض عن الإقبال، قال تعالى
{ فَلاَ تُوَلُّوهُمُ ٱلأَدْبَارَ } [الأنفال:15].
قوله: { وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ } في محلِّ نصبٍ على الحال من فاعل "تولَّوا". قال الزمخشريُّ "تفيضُ من الدَّمع، كقولك: تفيض دمعاً". وقد تقدَّم الكلام على هذا في المائدة مستوفًى عند قوله
{ { تَرَىۤ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمْعِ } [المائدة:83] وأنَّهُ جعل "من الدَّمع" تمييزاً، و "مِنْ" مزيدة وتقدَّم الرَّد عليه في ذلك هناك.
قوله: "حَزَناً" في نصبه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنَّهُ مفعولٌ من أجله، والعاملُ فيه "تَفِيضُ" قاله أبو حيان. لا يقال: إنَّ الفاعل هنا قد اختلف، فإنَّ الفيض مسند للأعين، والحزنَ صادرٌ من أصحاب الأعين، وإذا اختلف الفاعل وجب جرُّه بالحرف؛ لأنَّا نقول: إنَّ الحزنَ يُسندُ للأعين أيضاً مجازاً، يقال: عين حزينةٌ وسخينةٌ، وعين مسرورةٌ وقريرة، في ضد ذلك. ويجوز أن يكون النَّاصب له "تولَّوا"، وحينئذٍ يتَّحدُ فاعلا العلَّةِ والمعلولِ حقيقةً.
الثاني: أنَّهُ في محلِّ نصبٍ على الحال، أي: تولَّوا حزينين، أو تفيض أعينهم حزينةً، على ما تقدَّم من المجاز.
الثالث: أنه مصدر ناصبُه مقدرٌ من لفظه، أي: يحزنون حزناً، قاله أبو البقاء. وهذه الجملةُ التي قدَّرها ناصبة لهذا المصدر هي أيضاً في محلِّ نصبٍ على الحال، إمَّا من فاعل "تولَّوا"، وإمَّا من فاعل "تَفِيضُ".
قوله: "أَلاَّ يَجِدُوا" فيه وجهان:
أحدهما: أنَّهُ مفعولٌ من أجله، والعامل فيه "حزناً" إن أعربناه مفعولاً له، أو حالاً. وأمَّا إذا أعربناه مصدراً فلا؛ لأنَّ المصدر لا يعملُ إذا كان مؤكداً لعامله. وعلى القول بأنَّ "حَزَناً" مفعول من أجله، يكون "ألاَّ يَجِدُوا" علة العلة يعني أن يكون علَّل فيض الدَّمع بالحزن، وعلَّل الحزن بعدم وجدان النَّفقة، وهو واضحٌ وقد تقدَّم نظيرُ ذلك في قوله:
{ { جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ ٱللَّهِ } [المائدة:38].
الثاني: أنه متعلق بـ "تَفِيضُ". قال أبو حيان: ولا يجوز ذلك على إعرابه "حَزَناً" مفعولاً له والعاملُ فيه "تفيضُ"، إذ العاملُ لا يقتضي اثنين من المفعول له إلاَّ بالعطفِ، أو البدلِ.
فصل
قال المفسِّرون: هم سبعة نفر سموا البكائين، معقل بن يسار، وصخر بن خنساء وعبد الله بن كعب الأنصاري، وعلية بن زيد الأنصاري، وسالم بن عمير، وثعلبة بن غنمة، وعبد الله بن معقل المزني، أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله: إنَّ الله ندبنا للخروج معك، فاحملنا. واختلفوا في قوله "لِتحْمِلهُم" قال ابنُ عبَّاس: سألوه أن يحملهم على الدَّوابِّ، وقيل: سألوه أن يحملهم على الخفاف المرقوعة والنعال المخصوفة ليغزوا معه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
"لا أجِدُ ما أحملكُم عليهِ" فتولَّوا وهم يبكُون وقال الحسنُ: "نزلت في أبي موسى الأشعري، وأصحابه، أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يستحملونه، ووافق ذلك منه غضباً فقال: والله لا أحْملكُمْ ولا أجِدُ ما أحْملُكُم عليْهِ فتولَّوا يبكون، فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطاهم ذوداً. فقال أبو موسى: ألست حلفت يا رسول الله؟ فقال: أما إنِّي إن شاء الله لا أحْلِفُ بيمينٍ فأرَى غيرَها خيراً منها، إلاَّ أتَيْتُ الذي هُو خَيْرٌ وكفَّرتُ عنْ يَمِيني" .
ولمَّا قال تعالى: { مَا عَلَى ٱلْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ } قال في هذه الآية: { إِنَّمَا ٱلسَّبِيلُ عَلَى ٱلَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ } في التخلف: "وهُمْ أغنِيَاءُ".
قوله: "... رضُوا" فيه وجهان:
أحدهما: أنَّهُ مستأنفٌ، كأنَّهُ قال قائلٌ: ما بالهم استأذنوا في القعودِ، وهُم قادرُون على الجهادِ؟ فأجيب بقوله: { رَضُوا بِأن يكونوا مع الخَوالفِ }، وإليه مال الزمخشريُّ.
والثاني: أنَّه في محلِّ نصب على الحالِ، و "قَدْ" مقدَّرةٌ في قول. وتقدَّم الكلام في: "الخَوالفِ". "وطبعَ اللهُ على قُلوبِهِمْ" قوله: "وطبعَ" نسقٌ على "رَضُوا" تنبيهاً على أنَّ السَّبب في تخلُّفهم رضاهم بقُعُودهم، وطبعُ الله على قلوبهم، وقوله: "إنَّما السَّبيلُ على" فأتَى بـ "عَلَى"، وإن كان قد يصلُ بـ "إلَى"؛ لأنَّ "عَلى" تدلُّ على الاستعلاء، وقلة منعة من تدخل عليه، نحو: لي سبيل عليك، ولا سبيل لي عليك، بخلاف "إلى" فإذا قلت: لا سبيل عليك، فهو مُغايرٌ لقولك: لا سبيل إليك، ومن مجيء "إلَى" معه قوله: [الطويل]

2833- ألاَ ليْتَ شِعْرِي هَلْ إلى أمِّ سالمٍ سبيلٌ؟ فأمَّا الصَّبْرُ عَنْهَا فلا صَبْرَا

وقول الآخر: [البسيط]

2834- هَلْ مِنْ سبيلٍ إلى خَمْرٍ فأشْربهَا أمْ مِنْ سبيلٍ إلى نصْرِ بنِ حجَّاجِ

قوله تعالى: { يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ }.
روي أنَّ المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك كانوا بضعة وثمانين نفراً، فلمَّا رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءوا يعتذرون بالباطل، فقال الله { قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ } لم نصدقكم.
قوله: { قَدْ نَبَّأَنَا ٱللَّهُ } فيه وجهان:
أحدهما: أنَّها المتعدِّيةُ إلى مفعولين.
أولهما: "نا"، والثاني: "مِنْ أخْبارِكُمْ"، وعلى هذا ففي "مِنْ" وجهان:
أحدهما: أنَّها غيرُ زائدةٍ، والتقدير، قد نبَّأنا اللهُ أخْبَاراً من أخباركم، أو جملة من أخباركم، فهو في الحقيقة صفةٌ للمفعول المحذوف.
والثاني: أنَّ "مِنْ" مزيدةٌ عند الأخفشِ؛ لأنَّه لا يشترط فيها شيئاً، والتقدير: قد نبَّأنا الله أخباركم.
الوجه الثاني - من الوجهين الأولين -: أنَّها متعديةٌ لثلاثة، كـ "أعْلَم"، فالأولُ، والثاني ما تقدَّم، والثالث محذوفٌ اختصاراً للعلم به، والتقدير: نبَّأنا الله من أخباركم كذباً، ونحوه. قال أبو البقاء: "قد يتعدَّى إلى ثلاثةٍ، والاثنان الآخران محذوفانِ تقديره: أخباراً من أخباركم مثبتة. و "مِنْ أخباركُم" تنبيه على المحذُوف وليست "مِنْ" زائدة، إذ لو كانت زائدة، لكانت مفعولاً ثانياً، والمفعول الثالث محذوفٌ، وهو خطأ، لأنَّ المفعول الثاني متى ذُكِر في هذا الباب لزم ذكرُ الثالث".
وقيل: "مِنْ" بمعنى "عن". قال شهابُ الدِّين "قوله: إنَّ حذف الثالث خطأ" إن عنى حذف الاقتصارِ فمُسلَّم، وإن عنى حذف الاختصار فممنوعٌ، وقد تقدَّم مذاهب النَّاس في هذه المسألة.
وقوله: { قَدْ نَبَّأَنَا ٱللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ } علّة لانتفاءِ تصديقهم. ثم قال: { وَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ } فيما تستأنفون، أتتوبُون من نفاقكم أم تقيمون عليه؟ { ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ }.
فإن قيل: لمَّا قال: { وَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ } فلمَ لَمْ يقل، ثُمَّ تردُّونَ إليْهِ؟.
فالجواب: أنَّ في وصفه تعالى بكونه { عَالِمِ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ } ما يدلُّ على كونه مطلعاً على بواطنهم الخبيثة، وضمائرهم المملوءة بالكذب والكيد، وفيه تخويف شديد، وزجر عظيم لهم.