التفاسير

< >
عرض

فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَىٰ يُوسُفَ آوَىٰ إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ٱدْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ آمِنِينَ
٩٩
وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى ٱلْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَاً وَقَالَ يٰأَبَتِ هَـٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بَيۤ إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ ٱلسِّجْنِ وَجَآءَ بِكُمْ مِّنَ ٱلْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ ٱلشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِيۤ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَآءُ إِنَّهُ هُوَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْحَكِيمُ
١٠٠
-يوسف

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما وقع ما ذكر، وكان قد أرسل معهم من الدواب والمال والآلات ما يتجهزون به، أقبلوا على التجهيز كما أمرهم يوسف عليه الصلاة والسلام، ثم قدموا مصر وهم اثنان وسبعون نفساً من الذكور والإناث، وكأنهم أسرعوا في ذلك فلذلك قال: { فلما } بالفاء { دخلوا على يوسف } في المكان الذي تلقاهم إليه في وجوه أهل مصر وضرب به مضاربه { آوى إليه أبويه } إكراماً لهما بما يتميزان به، قيل: هو المعانقة، والظاهر أنها أمه حقيقة، وبه قال الحسن وابن إسحاق - كما نقله الرماني وأبو حيان، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنها خالته، وغلب الأب في هذه التثنية لذكورته كما غلب ما هو مفرد في أصله على المضاف في العمرين { وقال } مكرماً للكل { ادخلوا مصر } أي البلد المعروف، وأتى بالشرط للأمن لا للدخول، فقال: { إن شاء الله } أي الملك الأعلى الذي له الأمر كله { آمنين * } من جميع ما ينوب حتى مما فرطتموه في حقي وحق أخي.
ولما ذكر الأمن الذي هو ملاك العافية التي بها لذة العيش، أتبعه الرفعة التي بها كمال النعيم، فقال: { ورفع أبويه } أي بعدما استقرت بهم الدار بدخول مصر مستويين { على العرش } أي السرير الرفيع؛ قال الرماني: أصله الرفع. { وخروا } أي انحطوا { له سجداً } الأبوان والإخوة تحقيقاً لرؤياه ممن هو غالب على كل أمر، والسجود - وأصله: الخضوع والتذلل - كان مباحاً في تلك الأزمنة { وقال } أي يوسف عليه الصلاة والسلام { ياأبت } ملذذاً له بالخطاب بالأبوة { هذا } أي الذي وقع من السجود { تأويل رؤياي } التي رأيتها، ودل على قصر الزمن الذي رآها فيه بالجار فقال: { من قبل } ثم استأنف قوله: { قد جعلها ربي } أي الذي رباني بما أوصلني إليها { حقاً } أي بمطابقة الواقع لتأويلها، وتأويل ما أخبرتني به أنت تحقق أيضاً من اجتبائي وتعليمي وإتمام النعمة عليّ؛ والتأويل: تفسير بما يؤول إليه معنى الكلام؛ وعن سلمان رضي الله عنه أن ما بين تأويلها ورؤياها أربعون سنة. { وقد أحسن } أي أوقع إحسانه { بي } تصديقاً لما بشرتني به من إتمام النعمة، وتعدية { أحسن } بالباء أدل على القرب من المحسن من التعدية بـ " إلى " وعبر بقوله: { إذا أخرجني من السجن } معرضاً عن لفظ " الجب" حذراً من إيحاش إخوته مع أن اللفظ يحتمله احتمالاً خفياً { وجاء بكم } وقيل: إنهم كانوا أهل عمد وأصحاب مواش، يتنقلون في المياه والمناجع، فلذلك قال: { من البدو } من أطراف بادية فلسطين، وذلك من أكبر النعم كما ورد في الحديث
" " من يرد الله به خيراً ينقله من البادية إلى الحاضرة" والبدو: بسيط من الأرض يرى فيه الشخص من بعيد، وأصله من الظهور، وأنس إخوته أيضاً بقوله مثبتاً الجار لأن مجيئهم في بعض أزمان البعد: { من بعد أن نزغ } عبر بالماضي ليفهم أنه انقضى { الشيطان } أي أفسد البعيد المحترق بوسوسته التي هي كالنخس { بيني وبين إخوتي } حيث قسم النزع بينه وبينهم ولم يفضل أحداً من الفريقين فيه، ولم يثبت الجار إشارة إلى عموم الإفساد للبينين، كل ذلك إشارة إلى تحقق ما بشر به يعقوب عليه الصلاة والسلام من إتمام النعمة وكمال العلم والحكمة؛ ثم علل الإحسان إليهم أجمعين بقوله: { إن ربي } أي المحسن إليّ على وجوه فيها خفاء { لطيف } - أي يعلم دقائق المصالح وغوامضها، ثم يسلك - في إيصالها إلى المستصلح - سبيل الرفق دون العنف، فإذا اجتمع الرفق في الفعل واللطف في الإدراك فهو اللطيف - قاله الرازي في اللوامع. وهو سبحانه فاعل اللطف في تدبيره ورحمته { لما يشاء } لا يعسرعليه أمر؛ ثم علل هذه العلة بقوله: { إنه هو } أي وحده { العليم } أي البليغ العلم للدقائق والجلائل { الحكيم * } أي البليغ الإتقان لما يصنعه طبق ما ختم به يعقوب عليه الصلاة والسلام بشراه في أول السورة، أي هو منفرد بالاتصاف بذلك لا يدانيه أحد في علم ليتعرض إلى أبطال ما يقيمه من الأسباب، ولا في حكمة ليتوقع الخلل في شيء منها.