التفاسير

< >
عرض

حَتَّىٰ إِذَا ٱسْتَيْأَسَ ٱلرُّسُلُ وَظَنُّوۤاْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَآءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَآءُ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ ٱلْقَوْمِ ٱلْمُجْرِمِينَ
١١٠
لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَىٰ وَلَـٰكِن تَصْدِيقَ ٱلَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ
١١١
-يوسف

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما كان المعنى معلوماً من هذا السياق تقديره: فدعا الرجال المرسلون إلى الله واجتهدوا في إنذار قومهم لخلاصهم من الشقاء، وتوعدهم عن الله بأنواع العقوبات إن لم يتبعوهم، وطال عليهم الأمر وتراخى النصر وهم يكذبونهم في تلك الإيعادات ويبكتونهم ويستهزئون بهم، واستمر ذلك من حالهم وحالهم، قال مشيراً إلى ذلك: { حتى إذا استيئس الرسل } أي يئسوا من النصر يأساً عظيماً كأنهم أوجدوه أو طلبوه واستجلبوه من أنفسهم { وظنوا أنهم قد كذبوا } أي فعلوا فعل اليأس العظيم اليأس الذي ظن أنه قد أخلف وعده من الإقبال على التحذير والتبشير والجواب - لمن استهزأ بهم وقال: ما يحبس ما وعدتمونا به - بإن ذلك أمره إلى الله، إن شاء أنجزه، وإن شاء أخره، ليس علينا من أمره شيء؛ ويجوز أن يراد أنهم لمن استبطؤوا النصر وضجروا مما يقاسون من أذى الأعداء، واستبطاء الأولياء { حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه } كما يقول الآئس { متى نصر الله } مع علمهم بأن الله تعالى له أن يفعل ما يشاء، عبر عن حالهم ذلك بما هنا - نقل الزمخشري في الكشاف والرازي في اللوامع معناه عن ابن عباس رضي الله عنهما، هذا على قراءة التخفيف، وأما على قراءة التشديد فالتقدير: وظنوا أنهم قد كذبهم أتباعهم حتى لقد أنكرت عائشة رضي الله عنها قراءة التخفيف، روى البخاري في التفسير وغيره عن عروة بن الزبير أنه سألها عن القراءة: أهي بالتشديد أم بالتخفيف؟ فقالت: إنها بالتشديد، قال قلت: فقد استيقنوا أن قومهم كذبوهم فما هو بالظن، قالت: أجل، لعمري لقد استيقنوا بذلك! فقلت لها: وظنوا أنهم قد كذبوا أي بالتخفيف - قالت: معاذ الله! لم تكن الرسل تظن ذلك بربها، قلت: فما هذه الآية؟ قالت: هم أتباع الرسل الذين آمنوا بربهم وصدقوهم، فطال عليهم البلاء، واستأخر عنهم النصر، حتى إذا استيأس الرسل ممن كذبهم من قومهم وظنوا أنهم أتباعهم قد كذبوهم جاءهم نصر الله عند ذلك. { جاءهم نصرنا } لهم بخذلان أعدائهم { فنجي من نشاء } منهم ومن أعدائهم { ولا يرد بأسنا } أي عذابنا لما له من العظمة { عن القوم } أي وإن كانوا في غاية القوة { المجرمين * } الذين حتمنا دوامهم على القطيعة كما قلنا { ألا يوم يأتيهم ليس مصروفاً عنهم } وحققنا بمن ذكرنا مصارعهم من الأمم، وكل ذلك إعلام بأن سنته جرت بأنه يطيل الامتحان، ويمد زمان الابتلاء والاعتبار، حثاً للأتباع على الصبر وزجراً للمكذبين عن التمادي في الاستهزاء.
ومادة "كذب" تدور على ما لا حقيقة له، وأكثر تصاريفها واضح في ذلك، ويستعمل في غير الإنسان، قالوا: كذب البرق والحلم والرجاء والطمع والظن، وكذبت العين: خانها حسها، وكذب الرأي: تبين الأمر بخلاف ما هو به، وكذبته نفسه: منته غير الحق، والكذوب: النفس، لذلك، وأكذبت الناقة وكذبت - إذا ضربها الفحل فتشول أي ترفع ذنبها ثم ترجع حائلاً، لأنها أخلفت ظن حملها، وكذا إذا ظن بها لبن وليس بها، ويقال لمن يصاح به وهو ساكن يرى أنه نائم: قد أكذب، أي عد ذلك الصياح عدماً، والمكذوبة من النساء: الضعيفة، لأنه لما اجتمع فيها ضعف النساء وضعفها عدت عدماً، والمكذوبة على القلب: المرأة الصالحة - كأنها لعزة الصلاح في النساء جعلت عدماً، وكذب الوحشي - إذا جرى ثم وقف ينظر ما وراءه، كأنه لم يصدق بالذي أنفره، ومنه كذب عن كذا - إذا أحجم عنه بعد أن أراده، أو لأنه كذب ما ظنه عند الحملة من قتل الأقران، وكذبك الحج أي أمكنك وكذبك الصيد مثله، وهو يؤول إلى الحث لأن المعنى أن الحج لعظم مشقته وطول شقته تنفر النفس عنه، فيكاد أن لا يوجد، وكذا الصيد لشدة فراره وسرعة نفاره وعزة استقراره يكاد أن لا يتمكن منه فيكون صيده كالكذب لا حقيقة له، فقد تبين حينئذ وجه كون "كذب" بمعنى الإغراء ولاح أن قوله "ثلاثة أسفار كذبن عليكم: الحج والعمرة والجهاد" معناه أنها لشدة الصعوبة لا تكاد تمكن من أرادها منها، مع أنه - لقوة داعيته لكثرة ما يرى فيها من الترغيب بالأجر - يكون كالظافر بها، ويؤيده ما قال ابن الأثير في النهاية عن الأخفش: الحج مرفوع ومعناه نصب، لأنه يريد أن يأمره بالحج كما يقال: أمكنك الصيد، يريد: ارمه، وقال أبو علي الفارسي في الحجة في قول عنترة:

كذب العتيق وماء شن بارد إن كنت سائلتي غبوقاً فاذهبي

وإن شئت قلت:إن الكلمة لما كثر استعمالها في الإغراء بالشيء والبعث على طلبه وإيجاده صار كأنه قال بقوله لها: عليك العتيق، أي الزميه، ولا يريد نفيه ولكن إضرابها عما عداه، فيكون العتيق في المعنى مفعولاً به إن كان لفظه مرفوعاً، مثل "سلام عليكم" ونحوه مما يراد به الدعاء واللفظ على الرفع، وحكى محمد بن السريرحمه الله عن بعض أهل اللغة في "كذب العتيق" أن مضر تنصب به وأن اليمن ترفع به، وقد تقدم وجه ذلك - انتهى. وأقرب من ذلك جداً وأسهل تناولاً وأخذاً أن الإنسان لا يزال منيع الجناب مصون الحجاب ما كان لازماً للصدق فإذا كذب فقد أمكن من نفسه وهان أمره، فمعنى "ثلاثة أسفار كذبن عليكم أمكنتكم من أنفسها، الحج كل سنة بزوال مانع الكفار عنه، والعمرة كل السنة بزوال المفسدين بالقتل وغيره في أشهر الحل، والجهاد كل السنة أيضاً لإباحته في الأشهر الحرم وغيرها، وتخريج مثل: كذبتك الظهائر، وغيره على هذا بين الظهور ولا وقفة فيه ولكون الكاذب يبادر إلى المعاذير ويحاول التخلص كان التعبير بهذا من باب الإغراء، أي انتهز الفرصة وبادر تعسر هذا الإمكان.
ولما ذكر سبحانه هذه القصص كما كانت، وحث على الاعتبار بها بقوله:{ أفلم يسيروا } وأشار إلى أنه بذلك أجرى سنته وإن طال المدى، أتبعه الجزم بأن في أحاديثهم أعظم عبرة، فقال حثاً على تأملها والاستبصار بها: { لقد كان } أي كوناً هو في غاية المكنة { في قصصهم } أي الخبر العظيم الذي تلي عليك تتبعاً لأخبار الرسل الذين طال بهم البلاء حتى استيأسوا من نوح إلى يوسف ومن بعده - على جميعهم أفضل الصلاة والسلام والتحية والإكرام { عبرة } أي عظة عظيمة وذكرى شريفة { لأولي الألباب } أي لأهل العقول الخالصة من شوائب الكدر يعبرون بها إلى ما يسعدهم بعلم أن من قدر على ما قص من أمر يوسف عليه السلام وغيره قادر على أن يعز محمداً صلى الله عليه وعلى آله وسلم ويعلي كلمته وينصره على من عاداه كائناً من كان كما فعل بيوسف وغيره - إلى غير مما ترشد إليه قصصهم من الحكم وتعود إليه من نفائس العبر؛ والقصص: الخبر بما يتلو بعضه بعضاً، من قص الأثر، والألباب: العقول، لأن العقل أنفس ما في الإنسان وأشرف.
ولما كان من أجل العبرة في ذلك القطع بحقية القرآن لما بينه من حقائق أحوالهم وخفايا أمورهم ودقائق أخبارهم على هذه الأساليب الباهرة والتفاصيل الظاهرة والمناهيج المعجزة القاهرة، نبه على ذلك بتقدير سؤال فقال: { ما كان } أي هذا القرآن العربي المشتمل على قصصهم وغيره { حديثاً يفترى } كما قال المعاندون - على ما أشير إليه بقوله: { أم يقولون افتراه }، والافتراء: القطع بالمعنى على خلاف ما هو به في الإخبار عنه، من: فريت الأديم { ولكن } كان { تصديق الذي } كان من الكتب وغيرها { بين يديه } أي قبله الذي هو كاف في الشهادة بصدقه وحقيته في نفسه { و } زاد على ذلك بكونه { تفصيل كل شيء } أي يحتاج إليه من أمور الدين والدنيا والآخرة؛ والتفصيل: تفريق الجملة بإعطاء كل قسم حقه { وهدى ورحمة } وبياناً وإكراماً. ولما كان الذي لا ينتفع بالشيء لا يتعلق بشيء منه، قال: { لقوم يؤمنون } أي يقع الإيمان منهم وإن كان بمعنى: يمكن إيمانهم، فهو عام، وما جمع هذه الخلال فهو أبين البيان، فقد انطبق هذا الآخر على أول السورة في أنه الكتاب المبين، وانطبق ما تبع هذه القصص - من الشهادة بحقية القرآن، وأن الرسل ليسوا ملائكة ولا معهم ملائكة للتصديق يظهرون للناس، وأنهم لم يسألوا على الإبلاغ أجراً - على سبب ما تبعته هذه القصص، وهو مضمون قوله تعالى:
{ فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك } [ هود: 12] الآية من قولهم { { لولا أُنزِلَ عليه كنز أو جاء معه ملك } [ هود: 12] وقولهم: إنه افتراه، على ترتيب ذلك، مع اعتناق هذا الآخر لأول التي تليه، فسبحان من أنزله معجزاً باهراً، وقاضياً بالحق لا يزال ظاهراً، وكيف لا وهو العليم الحكيم - والله سبحانه وتعالى أعلم.