التفاسير

< >
عرض

وَٱسْتَبَقَا ٱلْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى ٱلْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَآءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوۤءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
٢٥
قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ
٢٦
وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ
٢٧
فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ
٢٨
يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَـٰذَا وَٱسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ ٱلْخَاطِئِينَ
٢٩
-يوسف

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ثم ذكر سبحانه وتعالى مبالغته في الامتناع بالجد في الهرب دليلاً على إخلاصه وأنه لم يهمّ أصلاً فقال: { واستبقا الباب } أي أوجد المسابقة بغاية الرغبة من كل منهما، هذا للهرب منها، وهذه لمنعه، فأوصل الفعل إلى المفعول بدون "إلى"، دليلاً على أن كلا منهما بذل أقصى جهده في السبق، فلحقته عند الباب الأقصى مع أنه كان قد سبقها بقوة الرجولية وقوة الداعية إلى الفرار إلى الله، ولكن عاقة إتقانها للمكر بكون الأبواب كانت مغلقة، فكان يشتغل بفتحها فتعلقت بأدنى ما وصلت إليه من قميصه، وهو ما كان من ورائه خوف فواته، فاشتد تعلقها به مع إعراضه هو عنها وهربه منها، ففتحه وأراد الخروج فمنعته { و } لم تزل تنازعه حتى { قدت قميصه } وكان القد { من دبر } أي الناحية الخلف منه، وانقطعت منه قطعة فبقيت في يدها { وألفيا } أي وجدا مع ما بهما من الغبار والهيئة التي لا تليق بهما { سيدها } أي زوجها، ولم يقل: سيدهما، لأن يوسف عليه الصلاة والسلام لم يدخل في رق - كما مضى - لأن المسلم لا يملك وهو السيد { لدا } أي عند ذلك { الباب } أي الخارج، على كيفية غريبة جداً، هكذا ينبغي أن يفهم هذا المقام لأن السيد لا يقدر على فتحه فضلاً عن الوصول إلى غيره لتغليق الجميع.
ولما علم السامع أنهما ألفياه وهما على هذه الحالة كان كأنه قيل: فما اتفق؟ فقيل: { قالت } مبادرة من غير حياء ولا تلعثم { ما } نافية، ويجوز أن تكون استفهامية { جزاء من أراد } أي منه ومن غيره كائناً من كان، لما لك من العظمة { بأهلك سوءاً } أي ولو أنه غير الزنا { إلا أن يسجن } أي يودع في السجن إلى وقت ما، ليحكم فيه بما يليق { أو عذاب أليم } أي دائم ثابت غير السجن؛ والجزاء: مقابلة العمل بما هو حقه، هذا كان حالها عند المفاجأة، وأما هو عليه الصلاة والسلام فجرى على سجايا الكرام بأن سكت ستراً عليها وتنزهاً عن ذكر الفحشاء، فكأنه قيل: فماذا قال حين قذفته بهذا؟ فقيل { قال } دافعاً عن نفسه لا هاتكاً لها { هي } بضمير الغيبة لاستيحائه عن مواجهتها بإشارة أو ضمير خطاب { راودتني عن نفسي } وما قال ذلك إلا حين اضطرته إليه بنسبته إلى الخيانة، وصدقه لعمري فيما قال لا يحتاج إلى بيان أكثر من الحال الذي كانا فيه، وهو أنهما عند الباب، ولو كان الطلب منه لما كانا إلا في محلها الذي تجلس فيه، وهو صدر البيت وأشرف موضع فيه { وشهد } ولما كان كل صالح للشهادة كافياً، فلم تدع ضرورة إلى تعيينه، قال: { شاهد } أي عظيم { من أهلها } لأن الأهل أعظم في الشهادة، رضيع ببراءته - نقله الرماني عن ابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهما وسعيد ابن جبير، كما شهد للنبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع صبي من أهل اليمامة يوم ولد بأنه رسول الله، فكان يدعي: مبارك اليمامة. فقال ذلك الشاهد { إن كان } أي حال المراوغة { قميصه } أي فيما يتبين لكم { قدَّ } أي شق شقاً مستأصلاً { من قبل } أي من جهة ما أقبل من جسده { فصدقت } ولا بد من تقدير فعل التبين، لأن الشروط لا تكون معانيها إلا مستقبلة ولو كانت ألفاظها ماضية.
ولما كان صدقها ليس قاطعاً في منع صدقه، قال: { وهو من الكاذبين * } لأنه لولا إقباله - وهي تدفعه عنها أو تهرب منه وهو يتبعها ويعثر في قميصه - ما كان القد من القبل { وإن كان } أي فيما يظهر لكم { قميصه } أي يوسف عليه الصلاة والسلام { قدَّ من دبر } أي من جهة ما أدبر منه، وبنى " قُدَّ" للمجهول للنزاع في القادّ { فكذبت } ولما كان كذلك كذبُها في إرادته السوء لا يعين صدقه في إرادتها له، قال: { وهو من الصادقين * } لأنه لولا إدباره عنها وإقبالها عليه لما وقع ذلك، فعرف سيدها صحة ذلك بلا شبهة، لأن معنى "إن" هنا الشرط في جهة التقرير للمعنى الذي يوجب غيره لا على الشك، وقدم أمارة صدقها لأنه مما يحبه سيدها، فهو في الظاهر اهتمام بها، وفي الحقيقة تقرير لكذبها مرتين: الأولى باللزوم، والثانية بالمطابقة.
ولما كان المعنى: فنظر، بنى عليه قوله: { فلما رءا } أي سيدها { قميصه } أي يوسف عليه الصلاة والسلام { قدَّ من دبر قال } لها وقد قطع بصدقه وكذبها، مؤكداً لأجل إنكارها { إنه } أي هذا القذف له { من كيدكن } معشر النساء؛ والكيد: طلب الإنسان بما يكرهه { إن كيدكن عظيم * } والعظيم: ما ينقص مقدار غيره عنه حساً أو معنى، فاستعظمه لأنه أدق من مكر الرجل وألطف وأخفى، لأن الشيطان عليهن لنقصهن أقدر، وكيدهن الذي هو من كيد الشيطان أضعفُ ضعيف بالنسبة إلى ما يدبره الله عز وجل في إبطاله؛ ثم قال العزيز آمراً له عليه السلام مسقطاً لحرف النداء دلالة على أن قربه من قلبه على حاله: { يوسف أعرض } أي انصرف بكليتك مجاوزاً { عن هذا } أي اجعله بمنزلة ما تصرف وجهك عنه إلى جهة العرض بأن لا تذكره لأحد ولا تهتم به، فإني لم أتأثر منك بوجه، لأن عذرك قد بان، وأقبل إليها فقال: { واستغفري } أي اطلبي الغفران { لذنبك } في أن لا يحصل لك عقوبة مني ولا من الله؛ واستأنف بيان ما أشار إليه بقوله: { إنك كنت } أي كوناً جبلياً { من الخاطئين } أي العريقين في الخطأ بغاية القوة، يقال: خطىء يخطأ - إذا أذنب متعمداً.