التفاسير

< >
عرض

ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذٰلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ
٤٨
ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذٰلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ ٱلنَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ
٤٩
وَقَالَ ٱلْمَلِكُ ٱئْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَآءَهُ ٱلرَّسُولُ قَالَ ٱرْجِعْ إِلَىٰ رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ ٱلنِّسْوَةِ ٱللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ
٥٠
قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوۤءٍ قَالَتِ ٱمْرَأَتُ ٱلْعَزِيزِ ٱلآنَ حَصْحَصَ ٱلْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدْتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ ٱلصَّادِقِينَ
٥١
-يوسف

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما أتم المشورة، رجع إلى بقية عبارة الرؤيا، فقال: { ثم يأتي } ولما كانت مدة الإتيان غير مستغرقة لزمان البعد، أتى بالجار فقال: { من بعد ذلك } أي الأمرالعظيم، وهي السبع التي تعملون فيها هذا العمل { سبع } أي سنون { شداد } بالقحط العظيم، وهن ما أشارت إليه رؤيا صاحبك الذي طار برزقه الطيور، وسار بروحه غالب المقدور، ودلت عليه رؤيا الملك من البقرات العجاف والسنابل اليابسات { يأكلن } أسند الأكل إليهن مجازاً عن أكل أهلهن تحقيقاً للأكل { ما قدمتم } أي بالادخار من الحبوب { لهن } والتقديم: التقريب إلى جهة القدام، وبشرهم بأن الشدة تنقضي ولم يفرغ ما أعدوه، فقال: { إلا قليلاً مما تحصنون * } والإحصان: الإحراز، وهو إلقاء الشيء فيما هو كالحصن المنيع - هذا تعبير الرؤيا، ثم زادهم على ذلك قوله: { ثم يأتي } وعبر بالجار لمثل ما مضى فقال: { من بعد ذلك } أي الجدب العظيم { عام } وهو اثنا عشر شهراً، ونظيره الحول والسنة، وهو مأخوذ من العلوم - لما لأهله فيه من السبح الطويل - قاله الرماني. والتعبير به دون مرادفاته إشارة إلى أنه يكون فيه - من السعة بعموم الريّ وظهور الخصب وغزير البركة - أمر عظيم، ولذا اتبعه بقوله: { فيه }.
ولما كان المتشوف إليه الإغاثة، على أنه من المعلوم أنه لا يقدر عليها إلا الله، قال بانياً للمفعول: { يغاث الناس } من الغيث وهو المطر، أو من الغوث وهو الفرج، ففي الأول يجوز بناءه من ثلاثي ومن رباعي، يقال غاث الله الأرض وأغاثها: أمطرها، وفي الثاني هو رباعي خاصة، يقال: استغاث به فأغاثه، من الغوث وهو واوي، ومعناه النفع الذي يأتي على شدة حاجته بنفي المضرة، والغيث يائي وهو المطر الذي يأتي في وقت الحاجة { وفيه } أي ذلك العام الحسن.
ولما كان العصر للأدهان وغيرها لا يكون إلا عن فضله، قال: { يعصرون * } أي يخرجون عصارات الأشياء وخلاصاتها، وكأنه أخذ من انتهاء القحط ابتداء الخصب الذي دل عليه العصر في رؤيا السائل، والخضرة والسمن في رؤيا الملك فإنه ضد القحط، وكل ضدين انتهاء أحدهما ابتداء الآخر لا محالة، فجاء الرسول فأخبر الملك بذلك، فأعجبه ووقع في نفسه صدقه { وقال الملك } أي الذي العزيز في خدمته { ائتوني به } لأسمع ذلك منه وأكرمه، فأتاه الرسول ليأتي به إلى الملك { فلما جاءه } أي يوسف عليه الصلاة والسلام عن قرب من الزمان { الرسول } بذلك وهو الساقي { قال } له يوسف: { ارجع إلى ربك } أي سيدك الملك { فاسأله } بأن تقول له مستفهماً { ما بال النسوة } ولوح بمكرهن به ولم يصرح، ولا ذكر امرأة العزيز كرماً وحياء فقال: { ٱللاَّتِي قطعن أيديهن } أي ما خبرهن في مكرهن الذي خالطني، فاشتد به بلائي فإنهن يعلمن أن امرأة العزيز ما دعتهن إلا بعد شهادتهن بأنها راودتني، ثم اعترفت لهن بأنها راودتني، وأني عصيتها أشد عصيان، فإذا سألهن بان الحق، فإن ربك جاهل بأمرهن.
ولما كان هذا موطناً يسأل فيه عن علم ربه سبحانه لذلك، قال مستأنفاً مؤكداً لأنهم عملوا في ذلك الأمر بالجهل عمل المكذب بالحساب الذي هو نتيجة العلم: { إن ربي } أي المدبر لي والمحسن إلي بكل ما أتقلب فيه من شدة ورخاء { بكيدهن } لي حين دعونني إلى طاعة امرأة العزيز { عليم * } وأنا لا أخرج من السجن حتى يعلم ربك ما خفي عنه أمرهن الذي علمه ربي، لتظهر براءتي على رؤوس الأشهاد مما وصموني به من السجن الذي من شأنه أن لا يكون إلا عن جرم، وإن لم تظهر براءتي لم ينقطع عني كلام الحاسدين، ويوشك أن يسعوا في حط منزلتي عند الملك، ولئلا يقولوا: ما لبث هذا السجن إلا لذنب عظيم فيكون في ذلك نوع من العار لا يخفى، وفي هذا دليل على أن السعي في براءة العرض حسن، بل واجب، وأخرج الكلام على سؤال الملك عن أمرهن - لا على سؤاله في أن يفحص عن أمرهن - لأن سؤال الإنسان عن علم ما لم يعلم يهيجه ويلهبه إلى البحث عنه، بخلاف سؤاله في أن يفتش لغيره، ليعلم ذلك الغير، فأراد بذلك حثه لأن يجدّ في السؤال حتى يعلم الحق، ليقبل بعد ذلك جميع ما حدثه به؛ والكيد: الاحتيال في إيصال الضرر.
وإنما فسرت" بال" بذلك لأن مادته - يائية بتراكيبها الخمسة: بلى، وبيل، ولبى، وليب، ويلب، وواوية بتراكيبها الستة: بول، وبلو، وولب، ووبل، ولوب، ولبو، ومهموزة - بتراكيبها الأربعة: لبأ، وبأل، وأبل وألب - تدور على الخلطة المحيلة المميلة، وكأن حقيقتها البلاء بمعنى الاختبار والامتحان والتجربة، ويكون في الخير والشر، أي خالطه بشيء يعرف منه خفي أمره؛ قال القزاز: والفتنة تكون في الشر خاصة، والبلاء: النعمة، من قولك: أبليته خيراً - إذا اصطنعته عنده، وقد تقدم في سورة الأنفال شيء من معاني المادة، وناقة بلو سفر وبلى سفر - إذا أنضاها السفر، وإذا كانت قوية عليه، والبلوى: البلية، وأبليت فلاناً عذراً، أي جئت فيما بيني وبينه ما لا لوم فيه، أي خالطته بشيء أزال اللوم، والبلية: دابة كانت تشد في الجاهلية عند قبر صاحبها ولا تعلف ولا تسقي حتى تموت، ويقال: الناس بذي بلى وبذي بليان، أي متفرقين، كأن حقيقته أنه حل بهم صاحب خلطة شديدة فرقت بينهم، وبلى الشيء - بالكسر بلى مقصوراً وبلاء ممدوداً - إذا فنى وعطب، وبلي فلان بكذا - مبنياً للمفعول، وابتلى به - إذا أصابه ذلك؛ والبول: ولد الرجل، والعدد الكثير، والانفجار، وضد الغائط، ولا ريب أن كلاً من ذلك إذا خالطه الحيوان أحال حاله؛ والبال: الاكتراث والفكر والهم، ومن ذلك عندي: ما باليت به: لم أكترث به، وكذا ما أباليه بالة، وهي مصدر منه، ولم أبال به، ولم أبل، ولكنهم قلبوه من: باولت به، لئلا يلتبس بالبول - والله أعلم، وحقيقتهما: ما استعملتُ بالي الذي هو فكري فيه وإن أعمل هو فكره في أمري، أي إنه أقل من أن يفكر في أمره، ومن المعلوم أن الفكر محل الخلطة المميلة، والبال: المر الذي يعتمل به في أرض الزرع - لمشقة العمل به، والبال: سمكة غليظة تسمى جمل البحر - لأن من خالطته أحالت أمره، والبال: رخاء العيش، والحال، والبالة: القارورة - كأنها من البول، والجراب، ووعاء الطيب، والولب: الوصل، ولبت الشيء: وصلته، وولب هو: وصل ودخل وأسرع، والوالب: الذاهب في وجهه - كأنه خالطه من الهم ما حمله على ذلك، وولب الزرع - إذا صارت له والبة، وهي أفراخ تولدت من أصوله، والوالبة: نسل القوم، ونسل المال، والوالبة: سريع النبات؛ ولاب يلوب - إذا عطش، واللابة: الحرة، وهي مكان ذو حجارة سود كبيرة متصلة صلبة حسنة، فمن خالطها أتعبته وأعطشته، وبها سميت الإبل السود المجتمعة، والصمان، واللابة: شقشقة البعير، وهي شيء كالرئة يخرجه البعير من فيه إذا هاج - كأنها هي التي أهاجته، والملاب: ضرب من الطيب، والزعفران، والملوب - كمعظم - من الحديد: الملوى، واللوب - بالضم: البضعة التي تدور في القد - لأنها تغير ما في القدر بدورانها، واللواب أيضاً: اللعاب، والأب: عطشت إبله، واللبوة: أنثى الأسد؛ والوابل: المطر الكثير الشديد الوقع الضخم القطر، والوابلة: نسل الإبل والغنم، ورأس العضد الذي في الحق، وما التف من لحم الفخذ، والموابلة: المواظبة، والميبل: ضفيرة من قد مركبة في عود تضرب به الإبل، ووبل الصيد: طرد حثيث شديد، بالنعجة وبلة شديدة - إذا أرادت الفحل، والوبال: الشدة وسوء العاقبة، وهو من الشدة والثقل، وأصابه وبل الجوع، أي جوع شديد، والوبيل: المرعى الوخيم، واستوبلت الأرض - إذا لم توافقك في مطعمك وإن كنت محباً لها، وهي من الوبيل - للطعام الذي لا يشتهي، والوبيل من العقوبة: الشديدة، وهو أيضاً العصا، وخشبة القصار التي يدق بها الثياب بعد الغسل، وخشبة صغيرة يضرب بها الناقوس، والحزمة من الحطب؛ وبلى: حرف يجاب بها الاستفهام الداخل على كلام منفي فتحيله إلى الإثبات بخلاف "نعم" فإنه يجاب بها الكلام الموجب، وتأتي "بلى" في النفي من غير استفهام، يقال: ما أعطيتني درهماً، فتقول: بلى؛ ولبى من الطعام - كرضى: أكثر منه، واللباية - بالضم: شجر الأمطىّ؛ واللياب - بتقديم التحتانية وزن سحاب: أقل من ملء الفم؛ واليلب - محركة: الترسة، ويقال: الدرق، والدروع من الجلود، أو جلود يخرز بعضها إلى البعض، تلبس على الرؤوس خاصة، والعظيم من كل شيء، والجلد؛ والأبيل - كأمير: العصا، والحزين - بالسريانية، ورئيس النصارى، أو الراهب، أو صاحب الناقوس، صنيع مختصر العين يقتضي أن همزته زائدة، وصنيع القاموس أنها أصلية، وعلى كلا التقديرين هو من مدار المادة، فإن من خالطته العصا غيرته، وكذا الرئيس؛ ومن مهموزة اللبأ - كضلع: أول اللبن، وهو أحق الأشياء بالإحالة، وألبأ الفصيل: شدة إلى رأس الخلف - أي حلمة ضرع الناقة - ليرضع اللبأ، ولبأت وهي ملبىء: وقع اللبأ في ضرعها، ولا يكون ذلك إلا بما يخالطها، فيحيل ذلك منها، واللبء - بالفتح: أول السقي، وهو أشد مما في الأثناء في الخلطة والإحالة، وبهاء: الأسدة، وخلطتها محيلة للذكور من نوعها، ولغيرها بالنفرة منها، وكذا اللبوة - بالواو، وعشار ملابي - كملاقح: دنا نتاجها، وهو واضح في الإحالة: ولبأت الشاة ولدها وألبأته: أرضعته اللبأ، ولبأت الشاة والتبأتها: حلبت لبأها؛ والبئيل - كأمير: الصغير الضعيف، بؤل - ككرم، ويقال ضئيل بئيل؛ والإبل - بكسرتين وتسكن الباء - معروف، واحد يقع على الجمع، ليس بجمع ولا اسم جمع، جمعه آبال، الإحالة في خلطتها بالركوب والحمل وغيرهم واضحة، والإبل: السحاب الذي يحمل ماء المطر، وهو ظاهر في ذلك، وتأبّل عن امرأته: امتنع عن غشيانها - من الإزالة، ونسك: أي امتنع عن خلطة الدنيا المحيلة، وبالعصا: ضرب، ومن خالطته العصا أحالته، وأبل العشب أبولاً: طال، فاستمكن منه الإبل، وهو ظاهر في الإحالة، والإبالة - كالإجانة: القطعة من الطير والخيل والإبل أو المتتابعة منها، من نظر شيئاً من ذلك أحاله عن حاله، وكأمير: العصا، ورئيس النصارى، أو الراهب، أو صاحب الناقوس، وكل ذلك واضح في الإحالة، والأبل - بالضم الباء: الحزمة من الحشيش، وخلطتها محيلة لما يأكلها، والإبالة - ككتابة: السياسة، وهي في غاية الإحالة لمن خولط بها، والأبلة - كفرحة: الحاجة والطلبة، وهي معروفة في ذلك، والمباركة في الإبل، وإنه لا يأتبل: لا يثبت على رعية الإبل ولا يحسن مهنتها، أو لا يثبت عليها راكباً، أي إنه سريع التأثر والإحالة من خلطتها، وتأبيل الإبل: تسمينها، أي مخالطتها بما أحالها، والإبلة - بالكسر: العداوة، وإحالتها معروفة، بالضم - العاهة، وهي كذلك، وبالفتح أو بالتحريك: الثقل والوخامة والإثم كذلك، وتأبيل الميت: تأبينه، أي الثناء عليه بعد موته، وهو يهيج الحزن عليه، وجاء في إبالته - بالكسر، وأبلته - بضمتين مشددة: أصحابه، ولا شك أن من جاء كذلك أحال من أتاه، وضغث على إبالة كإجانة ويخفف: بلية على أخرى، أو خصب على خصب - كأنه ضد، وهو واضح الإحالة، وأبلت الإبل تأبُل وتأبل أبولا وأبلا: جزأت - أي اكتفت - بالرطب عن الماء، والرُطُب بضمتين: الإخضر من البقل والشجر أو جماعة العشب الأخضر، والأبول: الإقامة في المرعى، ولا شك في أن من خالطه ذلك أحاله؛ وألب إليه القوم: أتوه من كل جانب، وذلك محيل، وألب الإبل: ساقها، والإبل: انساقت وانضم بعضها إلى بعض، والحمار طريدته: طردها شديداً، وجمع، واجتمع، وأسرع، وعاد، والإحالة في كل ذلك ظاهرة، والسماء: دام مطرها، أي فأحال الأرض وأهلها، والتألب كثعلب: المجتمع منا ومن حمر الوحش والوعل، وهي بهاء، وما كان كذلك أحال ما خالطه، والإلب - بالكسر: الفتر، وشجرة كالأترج سم، وذلك ظاهر في الإحالة، وبالفتح: نشاط الساقي، وميل النفس إلى الهوى، والعطش، والتدبير على العدو من حيث لا يعلم، ومسك السخلة، والسم، والطرد الشديد، وشدة الحمى والحر، وابتداء برء الدمل، وكل ذلك ظاهر الإحالة، وريح ألوب: باردة تسفي التراب، ورجل ألوب: سريع إخراج الدلو، أو نشيط، فمن خالطه أحاله، وهم عليه ألب وإلب واحد: مجتمعون عليه بالظلم والعداوة، وذلك محيل لا شك فيه، والإلبة بالضم: المجاعة، وبالتحريك: اليلبة، والتأليب: التحريض والإفساد، وكل ذلك ظاهر في الإحالة، وكذا المئلب - للسريع، والألب: الصفو، وهو محيل، والألب - بالتحريك: اليلب، وقد مضى أنها الترسة - والله أعلم.
ولما قال يوسف عليه الصلاة والسلام ذلك وأبى أن يخرج من السجن قبل تبين الأمر، رجع الرسول إلى الملك فأخبره بما قال عليه الصلاة والسلام فكأنه قيل: فما فعل الملك؟ فقيل: { قال } للنسوة بعد أن جمعهن: { ما خطبكن } أي شأنكن العظيم؛ وقوله: { إذ راودتن } أي خادعتن بمكر ودوران ومراوغة { يوسف عن نفسه } دليل على أن براءته كانت متحققة عند كل من علم القصة، فكأن الملك وبعض الناس - وإن علموا مراودتهن وعفته - ما كانوا يعرفون المراودة هل هي لهن كلهن أو لبعضهن، فكأنه قيل: ما قلن؟ فقيل: مكرن في جوابهن إذ سألهن عما عملن من السوء معه فأعرضن عنه وأجبن بنفي السوء عنه عليه الصلاة والسلام، وذلك أنهن { قلن حاش لله } أي عياذاً بالملك الأعظم وتنزيهاً له من هذا الأمر، فأوهمن بذلك براءتهن منه؛ ثم فسرن هذا العياذ بأن قلن تعجباً من عفته التي لم يرين مثلها، ولا وقع في أوهامهن أن تكون لآدمي وإن بلغ ما بلغ: { ما علمنا عليه } أي يوسف عليه الصلاة والسلام، وأعرقن في النفي فقلن: { من سوء } فخصصنه بالبراءة، وهذا كما تقدم عند قول الملأ { أضغاث أحلام } هذا وهو جواب للملك الذي تبهر رؤيته وتخشى سطوته، فكان من طبع البلد عدم الإفصاح في المقال - حتى لا ينفك عن طروق احتمال فيكون للتفصي فيه مجال - وعبادة الملوك إلا من شاء الله منهم.
ولما تم ذلك، كان كأنه قيل: فما قالت التي هي أصل هذا الأمر؟ فقيل: { قالت امرأت العزيز } مصرحة بحقيقة الحال: { الآن حصحص الحق } أي حصل على أمكن وجوهه، وانقطع عن الباطل بظهوره، من: حص شعره. إذا استأصل قطعه بحيث ظهر ما تحته، ومنه الحصة: القطعة من الشيء، ونظيره: كب وكبكب، وكف وكفكف، فهذه زيادة تضعيف، دل عليه الاشتقاق وهو قول الزجاج - قاله الرماني. ووافقه الرازي في اللوامع وقال: وقال الأزهري: هو من حصحص البعير: أثرت ثفناته في الأرض إذا برك حتى تستبين آثارها فيه { أنا راودته } أي خادعته وراودته { عن نفسه } وأكدت ما أفصحت به مدحاً ونفياً لكل سوء بقولها مؤكداً لأجل ما تقدم من إنكارها: { وإنه لمن الصادقين * } أي العريقين في هذا الوصف في نسبة المراودة إليّ وتبرئة نفسه، فقد شهد النسوة كلهن ببراءته، وإنه لم يقع منه ما ينسب به شيء من السوء إليه، فمن نسب إليه بعد ذلك هماً أو غيره فهو تابع لمجرد الهوى في نبي من المخلصين.