التفاسير

< >
عرض

وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّـكُمْ مِّنْ أَرْضِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ ٱلظَّالِمِينَ
١٣
وَلَنُسْكِنَنَّـكُمُ ٱلأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذٰلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ
١٤
وَٱسْتَفْتَحُواْ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ
١٥
مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَىٰ مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ
١٦
يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ ٱلْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ
١٧
مَّثَلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ ٱشْتَدَّتْ بِهِ ٱلرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَىٰ شَيْءٍ ذٰلِكَ هُوَ ٱلضَّلاَلُ ٱلْبَعِيدُ
١٨
-إبراهيم

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما انقضت هذه المحاورة وقد علم منها كل منصف ما عليه الرسل من الحلم والعلم والحكمة، وما عليه مخالفهم من الضلال والجهل والعناد، وكان في الكلام ما ربما أشعر بانقضائه، ابتدأ تعالى عنهم محاورة أخرى، عاطفاً لها على ما مضى، فقال: { وقال الذين كفروا لرسلهم } مستهينين بمن قصروا التجاءهم عليه، مؤكدين لاستشعارهم بإنكار من رأى مدافعة الله عن أوليائه لقولهم: والذي يحلف به! ليكونن أحد الأمرين: { لنخرجنكم من أرضنا } أي التي لنا الآن الغلبة عليها { أو لتعودن في ملتنا } بأن تكفوا عن معارضتنا كما كنتم دعوى الرسالة، فإطلاق ملتهم على السكوت عنهم من إطلاق اسم الكل على الجزء على زعمهم مثل { جعلوا أصابعهم في آذانهم } [نوح:7] وهو مجاز مرسل، فصبروا على ذلك كما أخبروا به توكلاً على ربهم واستمروا على نصيحتهم لهم بدعائهم إلى الله { فأوحى إليهم } أي كلمهم في خفاء بسبب توعد أممهم لهم، مختصاً لهم بذلك { ربهم } المحسن إليهم الذي توكلوا عليه، تسكيناً لقلوبهم وتسلية لنفوسهم، وأكد لما - لمن ينظر كثرة الكفار وقوتهم - من التوقف في مضمون الخبر ولا سيما إن كان كافراً، قائلاً: { لنهلكن } بما لنا من العظمة المقتضية لنفوذ الأمر؛ والإهلاك: إذهاب الشيء إلى حيث لا يقع عليه الإحساس { الظالمين * } أي العريقين في الظلم، وربما تبنا على بعض من أخبرنا عنه بأنه كفر، وهو من لم يكن عريقاً في كفره الذي هو أظلم الظلم { ولنسكننكم } أي دونهم { الأرض } أي مطلقها وخصوص أرضهم، وأشار إلى عدم الخلود بالجار فقال: { من بعدهم } بأن نورثكموها سواء قدرناهم على إخراجكم أم لا، فكأنه قيل: هل ذلك خاص بهم؟ فقيل: لا، بل { ذلك } أي الأمر العالي المرام { لمن خاف مقامي } أي المكان الذي يقوم فيه من أحاسبه: ماذا تكون عاقبته فيه، وهو أبلغ من: خافني، { وخاف وعيد * } لا بد أن أهلك ظالمه وأسكنه أرضه بعده، فاستبشروا بذلك الوعد من الله تعالى { واستفتحوا } على أعدائهم فأفلحوا وأنجحوا { وخاب كل جبار عنيد } فأهلكناهم كلهم، وكان لنا الغنى والحمد بعد إهلاكهم كما كان قبله؛ والعناد: الامتناع من الحق مع العلم به كبراً وبغياً، من عند عن الحق عنوداً، والجبرية: طلب علو المنزلة بما ليس وراءه غاية في الصفة، فهو ذم للعبد من حيث إنه طالب ما ليس له؛ ثم أتبعه ما هو كدليل على خيبته من أن سيره إلى ما أمامه من العذاب، فهو واقع فيه لا محالة وهو لا يشعر، وعبر عن غفلته عنه بقوله: { من ورائه جهنم } أي لا بد أنه يتبوأها.
ولما كان المرجع وجود السقي للصديد مطلقاً، بني للمفعول قوله: { ويسقى } أي فيها { من ماء صديد } وهو غسالة أهل النار كقيحهم ودمائهم { يتجرعه } أي يتكلف بلعه شيئاً فشيئاً لمرارته وحرارته، فيغص به ويلقى منه من الشدة ما لا يعلم قدره إلا الله { ولا يكاد يسيغه } ولا يقرب من إساغته، فإن الإساغة جر الشيء في الحلق على تقبل النفس { ويأتيه الموت } أي أسبابه التي لو جاءه سبب منها في الدنيا لمات { من كل مكان } والمكان: جوهر مهيأ للاستقرار، فهو كناية عن أنه يحصل له من الشدائد ما يميت من قضى بموته { وما هو بميت } أي بثابت له الموت أصلاً. لأنا قضينا بدوام حياته زيادة في عذابه، والموت: عرض يضاد الإدراك في البنية الحيوانية { ومن ورائه } أي هذا الشخص، بعد ذلك في يوم الجزاء الذي لا بد منه، وما خلقنا السماوات والأرض إلا من أجله { عذاب غليظ * } يأخذه في ذلك اليوم - مع ما قدمته له في الدنيا - وهو غافل عنه أخذ ما يكون من وراء، فيكون أشد كما هو الحال الآتي بغتة، أو يكون المعنى أن من بعد هذا العذاب في جهنم عذاباً آخر، لا تحتمل عقولكم وصفه بأكثر من الغلظ. فلما فرغ من محاوراتهم، وما تبعها مما بين فيه أنه لا يغنيهم من بطشه شيء، ضرب لهم في ذلك مثلاً فقال: { مثل } وهو مستعار هنا للصفة التي فيها غرابة { الذين كفروا } مستهينين { بربهم } مثل من قصد أمراً ثم لم ينظر لنفسه في السلوك إليه بل اغتر بمن جار به عن الطريق، فأبعد كل البعد حتى وصل إلى شعاب لا يمكن فيها المقام، ولا يتأتى منها الرجوع فهلك ضياعاً.
ولما كان الفرق بين الإنسان والعدم إنما هو بالعمل، ذكر ما علم منه أن المثل لأعمالهم على طريق الجواب لمن كأنه قال: ما مثلهم؟ فقال: { أعمالهم } أي المكارم التي كانوا يعملونها في الدنيا من الصلة والعتق وفداء الأسرى والجود ونحو ذلك، في يوم الجزاء، ويجوز أن يكون مبتدأ ثانياً - كما قال الحوفي وابن عطية. وهو وخبره خبر المبتدأ الأول، ولا يحتاج إلى رابط لأنه نفس المثل الذي معناه الصفة { كرماد } وهو ما سحقه الاحتراق سحق الغبار { اشتدت به الريح } أي أسرعت بالحركة على عظم القوة؛ والريح: جسم رقيق مثبت في الجو من شأنه الهبوب، والرياح خمس: شمال وجنوب وصباً ودبور ونكباء { في يوم عاصف } أي شديد الريح، فأطارته في كل صوب، فصاروا بحيث { لا يقدرون } أي يوم الجزاء؛ ولما كان الأمر هنا متمحصاً للأعمال، قدم قوله: { مما كسبوا } في الدنيا من أعمالهم في ذلك اليوم { على شيء } بل ذهب هباء منثوراً لبنائه على غير أساس، فثبت بمقتضى ذلك أن الذين كفروا بربهم واستحبوا الحياة الدنيا على الآخرة في ضلال بعيد، بل { ذلك } أي الأمر الشديد الشناعة { هو } أي خاصة { الضلال البعيد * } الذي لا يقدر صاحبه على تداركه.