التفاسير

< >
عرض

فَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ ذُو ٱنْتِقَامٍ
٤٧
يَوْمَ تُبَدَّلُ ٱلأَرْضُ غَيْرَ ٱلأَرْضِ وَٱلسَّمَٰوَٰتُ وَبَرَزُواْ لِلَّهِ ٱلْوَاحِدِ الْقَهَّارِ
٤٨
وَتَرَى ٱلْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي ٱلأَصْفَادِ
٤٩
سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَىٰ وُجُوهَهُمُ ٱلنَّارُ
٥٠
لِيَجْزِىَ ٱللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ
٥١
هَـٰذَا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ وَلِيَعْلَمُوۤاْ أَنَّمَا هُوَ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ
٥٢
-إبراهيم

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما تقرر ذلك من علمه سبحانه وقدرته، تسبب عنه أن يقال وهو كما تقدم في أن المراد الأمة لبلوغ الأمر كل مبلغ، خوطب به الرأس ليكون أوقع في قلوبهم: { فلا تحسبن الله } أي الذي له الكمال كله، فإن من ظن ذلك كان ناقص العقل { مخلف وعده رسله } في أنه يعز أوليائه ويذل أعداءه ويهلكهم بظلمهم، ويسكن أولياءه الأرض من بعدهم؛ ثم علل ذلك بقوله - مؤكداً لأن كثرة المخالفين وقوتهم على تمادي الأيام تعرّض السامع للإنكار: { إن الله } أي ذا الجلال والإكرام { عزيز } أي يقدر ولا يقدر عليه { ذو انتقام * } ممن يخالف أمره.
ولما تقررت عظمة ذلك اليوم الذي تشخص فيه الأبصار، وكان أعظم يوم يظهر فيه الانتقام، بينه بقوله: { يوم تبدل } أي تبديلاً غريباً عظيماً { الأرض } أي هذا الجنس { غير الأرض } أي التي تعرفونها { والسماوات } بعد انتشار كواكبها وانفطارها وغير ذلك من شؤونها؛ والتبديل: تغيير الشيء أو صفته إلى بدل { وبرزوا } أي الظالمون الذين كانوا يقولون: إنهم لا يعرضون على الله للحساب؛ والبروز: ظهور الشخص مما كان ملتبساً به { لله } أي الذي له صفات الكمال { الواحد } الذي لا شريك له { القهار * } الذي لا يدافعه شيء عن مراده، فصاروا بذلك البروز بحيث لا يشكون أنه لا يخفى منهم خافية، وأما المؤمنون فلم يزالوا يعلمون ذلك: روى مسلم والترمذي
"عن عائشة رضي الله عنها قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن قوله تعالى: { يوم تبدل الأرض } الآية قلت: يا رسول الله فأين يكون للناس يومئذ؟ قال: على الصراط"
. ولما ذكر بروزهم له ذكر حالهم في ذلك البروز فقال: { وترى المجرمين } أي وتراهم، ولكنه أظهر لتعدد صفاتهم التي أوجبت لهم الخزي؛ والإجرام: قطع ما يجوز من العمل بفعل ما لا يجوز { يومئذ } أي إذ كانت هذه الأمور العظام { مقرنين } أي مجموعاً كل منهم إلى نظيره، أو مجموعة أيديهم إلى أعناقهم جمعاً فيه شدة وضيق { في الأصفاد * } أي القيود، والمراد هنا الأغلال، أي السلاسل التي تجمع الأيدي فيها إلى الأعناق ويقرنون فيها مع أشكالهم؛ ثم بين لباسهم بقوله: { سرابيلهم } أي قمصهم السابغة { من قطران } وهو ما يهنأ به الإبل، ومن شأنه أنه سرع فيه اشتعال النار، وهو أسود اللون منتن الريح.
ولما كان هذا اللباس مع نتنه وفظاعته شديد الانفعال بالنار، بين أنه يسلطها عليهم فقال: { وتغشى } ولما كان الوجه أشرف ما في الحيوان، فإهانته إهانة عظيمة لصاحبه، ذكره وقدمه تعجيلاً لإفهام الإهانة فقال: { وجوههم النار } أي تعلوها باشتعالها، فعلم أنه يلزم من غشيانها لها اضطرامها فيما ضمخ بالقطران من باب الأولى؛ ثم بين علة هذه الأفعال في ذلك اليوم، فقال معبراً بالجزاء والكسب الذي هو محط التكليف وظن النفع، لاقتضاء سياق القهر لهما: بـ { ليجزي الله } أي الذي له الكمال كله { كل نفس } طائعة أو عاصية. ولما عظم الأمر بإسناد الجزاء إلى الاسم الأعظم الجامع لجميع صفات الكمال، اقتضى ذلك أن يكون نفس الكسب هو الجزاء، لأن ذلك أبدع وأدق في الصنع وأبرع بأن يصور بما يحق من الصور المليحة عند إرادة الثواب، والقبيحة عند إرادة العقاب، فلذلك أسقط الباء - التي ستذكر في "حم المؤمن" وقال: { ما كسبت } والجزاء: مقابلة العمل بما يقتضيه من خير أو شر؛ والكسب: فعل ما يستجلب به نفع أو يستدفع به ضر، ومن جزاء المؤمن عقوبة من عاداه في الله.
ولما كان حساب كل نفس جديراً بأن يستعظم، قال: { إن الله } أي الذي له الإحاطة المطلقة { سريع الحساب * } أي لا يشغله حساب نفس عن حساب أخرى ولا شأن عن شأن.
ولما اشتملت هذه السورة على ما قرع سمعك من هذه المواعظ والأمثال والحكم التي أبكمت البلغاء، وأخرست الفصحاء، وبهرت العقول، ترجمها سبحانه بما يصلح عنواناً لجميع القرآن فقال: { هذا } أي الكتاب الذي يخرج الناس من الظلمات إلى النور { بلاغ } أي كافٍ غاية الكفاية في الإيصال { للناس } ليصلوا به إلى الله بما يتحلون به من المزايا في سلوك صراطه القويم، فإن مادة "بلغ" بأي ترتيب كان - تدور على الوصول، وتارة تلزمها القوة وتارة الإعياء الناشىء عن الضعف:
بلغ المكان بلوغاً: وصل إليه؛ وبُلغ الرجل - كعني: جهد، والبليغ: الفصيح يبلغ بعبارته كنه ضميره، والبلاغ - كسحاب: الكفاية، لأنها توصل إلى القصد، وبالغ مبالغة - إذا اجتهد ولم يقصر، وتبلغت به العلة: اشتدت.
والغلباء: الحديقة المتكاثفة، ومن القبائل: العزيزة الممتنعة، والأغلب: الأسد.
ولغب: أعيا - لاجتهاده في البلوغ، واللغب: ما بين الثنايا من اللحم، واللغب - ككتف: الكلام الفاسد - يرجع إلى الإعياء، وكذا الضعيف الأحمق، والسهم الذي لم يحسن بريه كاللغاب - بالضم، والتغلب: طول الطرد.
والبغل من أشد الحيوان وأبلغها للقصد، وبغل تبغيلاً: بلّد وأعيا، والإبل: مشت بين الهملجة والعنق.
ولما كان متعلق البلاغ الذي قدرته بالوصول يتضمن البشارة، عطف عليه النذارة بانياً للمفعول، لأن النافع مطلق النذارة، وكل أحد متأهل لأن يكون واعظاً به مقبولاً، لأن من سمعه فكأنما سمعه من الله لتميزه بإعجازه عن كل كلام، فقال: { ولينذروا } أي من أي منذر كان فيقوم عليهم الحجة { به } فيحذروا عقاب الله فيتخلوا عن الدنايا.
ولما أشار إلى جميع الفروع فعلاً وتركاً، مع إشارته إلى أصل التوحيد لأنه أول الوصول، صرح به على حدته لجلالته في قوله: { وليعلموا أنما هو } أي الإله { إله واحد } فيكون همهم واحداً.
ولما تمت الإشارة إلى الدين أصلاً وفرعاً، نبه على المواعظ والأمثال بتذكر ما له من الآيات والمصنوعات، والبطش بمن خالفه من الأمم، وأشار إلى أن أدلة الوحدانية والحشر لا تحتاج إلى كبير تذكر، لأنها في غاية الوضوح ولا سيما بعد تنبيه الرسل، فأدغم تاء التفعل، فقال: { وليذكر } أي منهم { أولوا الألباب * } أي الصافية، والعقول الوافية، فيفتحوا عيون بصائرهم فيعلموا أنه لا وصول لهم مع الغفلة فيلزموا المراقبة فلا يزالوا في رياض المقاربة. ويعلموا - بما ركز في طبائعهم وجرى من عوائدهم - أن أقل حكامهم لا يرضى بأن يدع رعيته يتهارجون لا ينصف بينهم ولا يجزى أحداً منهم بما كسب، فيكون ذلك منه انسلاخاً من رتبة الحكم التي هي خاصته، فكيف يدعون ذلك في أحكم الحاكمين، فقد تكفلت هذه الآية على وجازتها بجميع علم الشريعة أصولاً وفروعاً، وعلم الحقيقة نهايات وشروعاً، على سبيل الإجمال وقد انطبق آخر السورة على أولها، لأن هذا عين الخروج من الظلمات إلى النور بهذا الكتاب الحامل على كل صواب - والله سبحانه وتعالى الموفق للصواب وحسن المآب.