التفاسير

< >
عرض

وَإِن كُنتُمْ عَلَىٰ سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً فَرِهَٰنٌ مَّقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ ٱلَّذِي ٱؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ ٱللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ تَكْتُمُواْ ٱلشَّهَٰدَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ
٢٨٣
للَّهِ ما فِي ٱلسَّمَٰوٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِيۤ أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ ٱللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
٢٨٤
ءَامَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَٱلْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِٱللَّهِ وَمَلاۤئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ ٱلْمَصِيرُ
٢٨٥
لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا ٱكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَٱعْفُ عَنَّا وَٱغْفِرْ لَنَا وَٱرْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلَٰـنَا فَٱنْصُرْنَا عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْكَافِرِينَ
٢٨٦
-البقرة

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما كان التقدير: هذا إذا كنتم حضوراً يسهل عليكم إحضار الكاتب والشاهد، عطف عليه قوله: { وإن كنتم } ولما كان الإنسان في السفر يكون مستجمع القوى كامل الآلات تام الأهبة عبر بأداة الاستعلاء فقال: { على سفر } يعوز مثله إحضار كاتب { ولم تجدوا كاتباً فرهان } أي فيغنيكم عن الكتب رهن يكون بدلاً عنه، وقرىء: فرهان، وكلاهما جمع رهن - بالفتح والإسكان، وهو التوثقة بالشيء مما يعادله بوجه ما. وأشار بأن بدليتها لا تفيد إلا بما وصفها من قوله: { مقبوضة } أي بيد رب الدين وثيقة لدينه.
ولما كان التقدير: هذا إن تخوفتم من المداين، عطف عليه قوله: { فإن أمن } ولما كان الائتمان تارة يكون من الدائن وتارة يكون من الراهن قال: { بعضكم بعضاً } أي فلم تفعلوا شيئاً من ذلك { فليؤد } أي يعط، من الأداء وهو الإتيان بالشيء لميقاته. ولما كان المراد التذكير بالإحسان بالائتمان ليشكر ولم يتعلق غرض بكونه من محسن معين بني للمفعول قوله: { الذي اؤتمن } من الائتمان وهو طلب الأمانة وهو إيداع الشيء لحفيظته حتى يعاد إلى المؤتمن - قاله الحرالي: { أمانته } وهو الدين الذي ترك المؤتمن التوثق به من المدين إحساناً إليه وحسن ظن به، وكذا إن كان الائتمان من جهة الراهن { وليتق الله } المستجمع لصفات العظمة { ربه } أي الذي رباه في نعمه وصانه من بأسه ونقمه وعطّف عليه قلب من أعطاه وائتمنه ليؤدي الحق على الصفة التي أخذه بها فلا يخن في شيء مما اؤتمن عليه.
ولما كانت الكتابة لأجل إقامة الشهادة وكانت الأنفس مجبولة على الشح مؤسسة على حب الاستئثار فيحصل بسبب ذلك مخاصمات ويشتد عنها المشاحنات وربما كان بعض المخاصمين ممن يخشى أمره ويرجى بره فيحمل ذلك الشهود على السكوت قال سبحانه وتعالى: { ولا تكتموا الشهادة } أي سواء كان صاحب الحق يعلمها أو لا. ولما نهى أتبع النهي التهديد فقال: { ومن يكتمها فإنه آثم } ولما كان محلها القلب الذي هو عمدة البدن قال: { قلبه } ومن أثم قلبه فسد، ومن فسد قلبه فسد كله، لأن القلب قوام البدن، إذا فسد فسد سائر الجسد.
ولما كان التقدير: فإن الله سبحانه وتعالى عالم بأنه كتم وكان للشهداء جهات تنصرف بها الشهادة عن وجه الإقامة عطف عليه قوله - ليشمل التهديد تلك الأعمال بإحاطة العلم: { والله } أي المحيط بجميع صفات الكمال. ولما كان الإنسان هو المقصود الأعظم من سائر الأكوان فكانت أحواله مضبوطة بأنواع من الضبط كأن العلم البليغ مقصور عليه فلذلك قدم قوله: { بما تعملون } أي كله وإن دق سواء كان فعل القلب وحده أو لا { عليم * } قال الحرالي: فأنهى أمر ما بين الحق والخلق ممثولاً وأمر ما بين الخلق والخلق مثلاً - انتهى.
ولما أخبر عن سعة علمه دل عليه بسعة ملكه المستلزم لسعة قدرته ليدل ذلك على جميع الكمال لأنه قد ثبت كما قال الأصبهاني إن الصفات التي هي كمالات حقيقة ليست إلا القدرة والعلم المحيط فقال واعداً للمطيع متوعداً للعاصي مصرحاً بأن أفعال العباد وغيرها مخلوق له: - وقال الحرالي: ولما كان أول السورة إظهار كتاب التقدير في الذكر الأول كان ختمها إبداء أثر ذلك الكتاب الأول في الأعمال والجزاء التي هي الغاية في ابتداء أمر التقدير فوقع الختم بأنه سلب الخلق ما في أيديهم مما أبدوه وما أخفوه من أهل السماوات و الأرض؛ انتهى - فقال: { لله } أي الملك الأعظم. ولما كانت ما ترد لمن يغفل وكان أغلب الموجودات والجمادات عبر بها فقال: { ما في السماوات } أي كله على علوها واتساعها من ملك وغيره { وما في الأرض } مما تنفقونه وغيره من عاقل وغيره، يأمر فيهما ومنهما بما يشاء وينهى عما يشاء ويعطي من يشاء ويمنع من يشاء ويضاعف لمن يشاء.
ولما كان التقدير: فهو يعلم جميع ما فيهما من كتمانكم وغيره ويتصرف فيه بما يريد، عطف عليه محذراً من يكتم الشهادة أو يضمر سوءاً غيرها أو يظهره قوله تعالى: { وإن تبدوا } أي تظهروا { ما في أنفسكم } من شهادة أو غيرها { أو تخفوه } مما وطنتموه في النفس وعزمتم عليه وليس هو من الخواطر التي كرهتموها ولم تعزموا عليها. قال الحرالي: من الإخفاء وهو تغييب الشيء وأن لا يجعل عليه علم يهتدي إليه من جهته { يحاسبكم } من المحاسبة مفاعلة من الحساب والحسب، وهو استيفاء الأعداد فيما للمرء وعليه من الأعمال الظاهرة والباطنة يعني ليجازي بها { به الله } أي بذكره لكم وأنتم تعلمون ما له من صفات الكمال. قال الحرالي: وفي ضمن هذا الخطاب لأولي الفهم إنباء بأن الله سبحانه وتعالى إذا عاجل العبد بالحساب بحكم ما يفهمه ترتيب الحساب على وقوع العمل حيث لم يكن فيحاسبكم مثلاً فقد أعظم اللطف به، لأن من حوسب بعمله عاجلاً في الدنيا خف جزاؤه عليه حيث يكفر عنه بالشوكة يشاكها حتى بالقلم يسقط من يد الكاتب، فيكفر عن المؤمن بكل ما يلحقه في دنياه حتى يموت على طهارة من ذنوبه وفراغ من حسابه كالذي يتعاهد بدنه وثوبه بالتنظيف فلا يتسخ ولا يدرن ولا يزال نظيفاً - انتهى وفيه تصرف.
ولما كان حقيقة المحاسبة ذكر الشيء والجزاء عليه وكان المراد بها هنا العرض وهو الذكر فقط بدلالة التضمن دل عليه بقوله مقدماً الترجئة معادلة لما أفهمه صدر الآية من التخويف: { فيغفر لمن يشاء } أي فلا يجازيه على ذلك كبيرة كان أو لا { ويعذب من يشاء } بتكفير أو جزاء.
ولما أخبر سبحانه وتعالى بهذا أنه مطلق التصرف ختم الكلام دلالة على ذلك بقوله مصرحاً بما لزم تمام علمه من كمال قدرته: { والله } أي الذي لا أمر لأحد معه { على كل شيء قدير } أي ليس هو كملوك الدنيا يحال بينهم وبين بعض ما يريدون بالشفاعة وغيرها. قال الحرالي: فسلب بهذه الآية القدرة عن جميع الخلق - انتهى. وقد ذهب بعض العلماء إلى أن هذه الآية خاصة بأمر الشهادة، وقال الأكثرون: هي عامة كما فهمها الصحابة رضوان الله سبحانه وتعالى عليهم في الوسوسة وحديث النفس المعزوم عليه وغيره ثم خففت بما بعدها، روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال:
"لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم { لله ما في السماوات } الآية إلى { قدير } اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بركوا على الركب فقالوا: يا رسول الله! كُلّفنا من الأعمال ما نطيق: الصلاة والصيام والجهاد والصدقة وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أترون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: { سمعنا وعصينا } [البقرة: 93]، قولوا: { سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير } قالوا: { سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير }.
فلما اقترأها القوم وذلت بها ألسنتهم أنزل الله في إثرها { آمن الرسول بما أنزل إليه } إلى { المصير } فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى وأنزل { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها } إلى { أو أخطأنا } قال: نعم"
قال البغوي: وفي رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما: قد فعلت، واستمر إلى آخر السورة كلما قرؤوا جملة قال: نعم. فقد تبين من هذا تناسب هذه الآيات، وأما مناسبتها لأول السورة رداً للمقطع على المطلع فهو أنه لما ابتدأ السورة بوصف المؤمنين بالكتاب الذي لا ريب فيه على الوجه الذي تقدم ختمها بذلك بعد تفصيل الإنفاق الذي وصفهم به أولها على وجه يتصل بما قبله من الأوامر والنواهي والاتصاف بأوصاف الكمال أشد اتصال، وجعل رأسهم الرسول عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام تعظيماً للمدح وترغيباً في ذلك الوصف فأخبر بإيمانهم بما أنزل إليه بخصوصه وبجميع الكتب وجميع الرسل وبقولهم الدال على كمال الرغبة وغاية الضراعة والخضوع فقال استئنافاً لجواب من كأنه قال: ما فعل من أنزلت عليه هذه الأوامر والنواهي وغيرها؟ { آمن الرسول } أي بما ظهر له من المعجزة القائمة على أن الآتي إليه بهذا الوحي ملك من عند الله سبحانه وتعالى كما آمن الملك به بما ظهر له من المعجزة الدالة على أن الذي أتى به كلام الله أمره الله سبحانه وتعالى بإنزاله فعرفه إشارة إلى أنه أكمل الرسل في هذا الوصف باعتبار إرساله إلى جميع الخلائق الذين هم لله سبحانه وتعالى، وأنه الجامع لما تفرق فيهم من الكمال، وأنه المخصوص بما لم يعطه أحد منهم من المزايا والأفضال { بما أنزل إليه } أي من أن الله سبحانه وتعالى يحاسب بما ذكر وغير ذلك مما أمر بتبليغه ومما اختص هو به ورغب في الإيمان بما آمن به بقوله: { من ربه } أي المحسن إليه بجليل التربية المزكي له بجميل التزكية فهو لا ينزل إليه إلا ما هو غاية في الخير ومنه ما حصل له في دنياه من المشقة. قال الحرالي: فقبل الرسول هذا الحساب الأول العاجل الميسر ليستوفي أمره منه وحظه في دنياه، قال صلى الله عليه وسلم لما قالت له فاطمة رضي الله تعالى عنها عند موته: واكرباه!: "لا كرب على أبيك بعد اليوم" وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو نعيم في الحلية عن أنس رضي الله تعالى عنه "ما أوذي أحد في الله ما أوذيت" فنال حظه من حكمة ربه في دنياه حتى كان يوعك كما يوعك عشرة رجال، وما شبع من خبز بر ثلاثاً تباعاً عاجلاً حتى لقي الله؛ وكذلك المؤمن لا راحة له دون لقاء ربه ولا سجن عليه بعد خروجه من دنياه، "الحمى حظ كل مؤمن من النار" انتهى. ولما أخبر عن الرأس أخبر عمن يليه فقال: { والمؤمنون } معبراً بالوصف الدال على الرسوخ أي آمنوا بما ظهر لهم من المعجزة التي أثبتت أنه كلام الله سبحانه وتعالى بما دلت على أن الآتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولما أجمل فصل فقال مبتدئاً: { كل } أي منهم. قال الحرالي: فجمعهم في كلية كأن قلوبهم قلب واحد لم يختلفوا، لأن القبول واحد والرد يقع مختلفاً - انتهى. ثم أخبر عن ذلك المبتدأ بقوله: { آمن بالله } أي لما يستحقه من ذلك لذاته لما له من الإحاطة بالكمال { وملائكته } الذين منهم النازلون بالكتب، لأن الإيمان بالمنزل يستلزم ذلك { وكتبه } أي كلها { ورسله } كلهم، من البشر كانوا أو من الملائكة، فإن فيما أنزل إليه صلى الله عليه وسلم الإخبار بذلك. قال الحرالي: انقياداً لامتثال من البشر.
ولما كان في الناس من يؤمن ببعض الأنبياء ويكفر ببعض قال مؤكداً لما أفهمته صيغة الجمع المضاف من الاستغراق أي قالوا: { لا نفرق } كما فعل أهل الكتاب وعبر بما يشمل الاثنين فما فوقهما فقال: { بين أحد } أي واحد وغيره { من رسله } أي لا نجعل أحداً منهم على صفة الفرقة البليغة من صاحبه في ذلك بل نؤمن بكل واحد منهم، والذي دل على تقدير "قالوا" دون غيره أنه لما أكمل قولهم في القوة النظرية الكفيلة باعتقاد المبدأ أتبعه قولهم في القوة العملية الكائنة في الوسط عطفاً عليها: { وقالوا سمعنا } أي بآذان عقولنا كل ما يمكن أن يسمع عنك وعلمناه وأذعنا له { وأطعنا } أي لكل ما فيه من أمرك. قال الحرالي: فشاركوا أهل الكتاب في طليعة الإباء وخالفوهم في معاجلة التوبة والإقرار بالسمع والطاعة فكان لهؤلاء ما للتائب وعلى أولئك ما على المصر - انتهى.
ولما كان الإنسان محل الزلل والنقصان أشاروا إلى ذلك تواضعاً منهم كما هو الأولى بهم لمقام الألوهية فقالوا مع طاعتهم معترفين بالمعاد: { غفرانك } أي اغفر لنا أو نسألك غفرانك الذي يليق إضافته إليك لما له من الكمال والشرف والجلال ما قصرنا فيه ولا تؤاخذنا به فإنك إن فعلت ذلك هلكنا، والحاصل أنهم طلبوا أن يعاملهم بما هو أهله لا بما هم أهله فجرى بما جراهم عليه في قوله: { فيغفر لمن يشاء }. قال الحرالي: فهذا القول من الرسول صلى الله عليه وسلم كشف عيان، ومن المؤمنين نشء إيمان، ومن القائلين للسمع والطاعة قول إذعان، فهو شامل للجميع كل على رتبته - انتهى. وزادوا تملقاً بقولهم: { ربنا } ذاكرين وصف الإحسان في مقام طلب الغفران. قال الحرالي: وهو خطاب قرب من حيث لم يظهر فيه أداة نداء، ولم يجر الله سبحانه وتعالى على ألسنة المؤمنين في كتابه العزيز نداء بُعد قط؛ والغفران فعلان صيغة مبالغة تعطي الملء ليكون غفراً للظاهر والباطن وهو مصدر محيط المعنى نازل منزلة الاستغفار الجامع لما أحاط به الظاهر والباطن مما أودعته الأنفس التي هي مظهر حكمة الله سبحانه وتعالى التي وقع فيها مجموع الغفران والعذاب { فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء } ففي ضمنه بشرى بتعيين القائلين المذعنين ومن تبعهم بالقول لحال المغفرة، لأن هذه الخواتيم مقبولة من العبد بمنزلة الفاتحة لاجتماعهما في كونهما من الكنز الذي تحت العرش، وعلى ما ورد من قوله: "حمدني عبدي - إلى أن قال: ولعبدي ما سأل" وعلى ما ورد في دعاء هذا الختم في قوله: "قد فعلت قد فعلت" وبما ابتدأ تعالى به آية هذا الحساب وختمها به من سلب الأمر أولاً وسلب القدرة عما سواه آخراً، وكان في الابتداء والختم إقامة عذر القائلين، فوجب لهم تحقق الغفران كما كان لأبيهم آدم حيث تلقى الكلمات من ربه - انتهى.
ولما كان التقدير بما أرشد إليه { ربنا }: فإنه منك مبدأنا، عطف عليه قوله حثاً على الاجتهاد في كل ما أمر به ونهى عنه على وجه الإخلاص: { وإليك } أي لا إلى غيرك { المصير } أي مطلقاً لنا ولغيرنا. وقال ابن الزبير: ولما بين سبحانه وتعالى أن الكتاب هو الصراط المستقيم ذكر افتراق الأمم كما يشاء وأحوال الزائغين والمتنكبين تحذيراً من حالهم ونهياً عن مرتكبهم وحصل قبيل النزول بجملته وانحصار التاركين وأعقب بذكر ملتزمات المتقين وما ينبغي لهم امتثاله والأخذ به من الأوامر والأحكام والحدود وأعقب ذلك بأن المرء يجب أن ينطوي على ذلك ويسلم الأمر لمالكه فقال سبحانه وتعالى: { آمن الرسول بما أنزل } فأعلم أن هذا إيمان الرسول ومن كان معه على إيمانه وأنهم قالوا: { سمعنا وأطعنا } لا كقول بني إسرائيل.
{ { سمعنا وعصينا } } [البقرة: 93] وأنه أثابهم على إيمانهم رفع الإصر والمشقة والمؤاخذة بالخطأ والنسيان فقال: { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها }، فحصل من هذه السورة بأسرها بيان الصراط المستقيم على الاستيفاء والكمال أخذاً وتركاً وبيان شرف من أخذ به وسوء حال من تنكب عنه. وكان العباد لما علموا { { اهدنا الصراط المستقيم } [الفاتحة: 6] - إلى آخر السورة قيل لهم: عليكم بالكتاب - إجابة لسؤالهم؛ ثم بين لهم حال من سلك ما طلبوا فكان قيل لهم: أهل الصراط المستقيم وسالكوه هم الذين بيّن شأنهم وأمرهم، والمغضوب عليهم من المتنكبين هم اليهود الذين بين أمرهم وشأنهم، والضالون هم النصارى الذين بيّن أمرهم وشأنهم؛ فيجب على من رغب في سلوك الصراط المستقيم أن يحذر ما أصاب هؤلاء مما نبه عليه وأن يأخذ نفسه بكذا وكذا وأن ينسحب إيمانه على كل ذلك، وأن يسلم الأمر لله الذي تطلب منه الهداية، ويتضرع إليه بأن لا يؤاخذه بما يثمره الخطأ والنسيان، وأن لا يحمله ما ليس في وسعه، وأن يعفو عنه - إلى آخر السورة؛ انتهى.
ولما مُنّوا بالإيمان في سؤال الغفران عللوا السؤال بقولهم: { لا يكلف الله } أي الملك الأعظم الرحيم الأكرم الذي له جميع صفات الكمال { نفساً إلا وسعها } أي ما تسعه وتطيقه ولا تعجز عنه، وذلك هو الممكن لذاته الذي يتعلق اختيار العبد بفعله، ولم يخبر الله تعالى بأنه لا يقع لا المحال لذاته ولا الممكن لذاته سواء كان مما لا مدخل للإنسان في اختياره كالنوم أو كان له مدخل فيه وقد تعلق العلم الأزلي بعدم وقوعه وأخبر سبحانه وتعالى بعدم وقوعه معيناً لصاحبه، فهذا لا يقع التكليف به ويجوز التكليف به؛ وهذا الكلام من جملة دعائهم على وجه الثناء طلباً للوفاء بما أخبرهم به الرسول صلى الله عليه وسلم عنه سبحانه وتعالى خوفاً من أن يكلفوا بما لله سبحانه وتعالى كما دلت عليه الآية وقول المؤمنين عند نزولها وجواب النبي صلى الله عليه وسلم لهم أن يكلف به من المؤاخذة بالوساوس التي لا يقع العزم عليها لأنه مما تخفيه النفوس ولا طاقة على دفعه فهو من باب:

إذا أثنى عليك المرء يوماً كفاه من تعرضه الثناء

ولعل العدول عن الخطاب إلى الغيبة بذكر الاسم الأعظم من باب التملق بأن له من صفات العظمة ما يقتضي العفو عن ضعفهم ومن صفات الحلم والرحمة والرأفة ما يرفه عنهم ويحتمل أن يكون ذلك من قول الله سبحانه وتعالى جزاء لهم على قولهم { سمعنا وأطعنا } - الآية، فأفادهم بذلك أنه لا يحاسبهم بحديث النفس الذي لا عزم فيه؛ فانتفى ما شق عليهم من قوله { وإن تبدوا ما في أنفسكم } - الآية، بخلاف ما أفاد بني إسرائيل قولهم { سمعنا وعصينا } [البقرة: 93] من الآصار في الدنيا والآخرة، فيكون حينئذ استئنافاً جواباً لمن كأنه قال: هل أجاب دعاءهم؟ ويكون شرح قوله أول السورة: { أولئك على هدى من ربهم } [البقرة: 5] ويؤيد هذا الاحتمال اتباعه لحكم ما في الوسع على طريق الاستئناف أو الاستفتاح بقوله: { لها } أي خاصاً بها { ما كسبت } وذكر الفعل مجرداً في الخير إيماء إلى أنه يكفي في الاعتداد به مجرد وقوعه ولو مع الكسل بل ومجرد نيته. قال الحرالي: وصيغة فعل مجردة تعرب عن أدنى الكسب فلذلك من همّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة - انتهى. { وعليها } أي بخصوصها { ما اكتسبت } فشرط في الشر صيغة الافتعال الدالة على الاعتمال إشارة إلى أن من طبع النفس الميل إلى الهوى بكليتها وإلى أن الإثم لا يكتب إلاّ مع التصميم والعزم القوي الذي إن كان عنه عمل ظاهر كان بجد ونشاط ورغبة وانبساط، فلذلك من همّ بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه، وربما جاءت العبارة بخلاف ذلك لمعنى في ذلك السياق اقتضاه المقام.
ولما بشرهم بذلك عرفهم مواقع نعمه في دعاء رتبه على الأخف فالأخف على سبيل التعلي إعلاماً بأنه لم يؤاخذهم بما اجترحوه نسياناً ولا بما قارفوه خطأ ولا حمل عليهم ثقلاً بل جعل شريعتهم حنيفية سمحاً ولا حملهم فوق طاقتهم مع أن له جميع ذلك، وأنه عفا عن عقابهم ثم سترهم فلم يخجلهم بذكر سيئاتهم، ثم رحمهم بأن أحلهم محل القرب فجعلهم أهلاً للخلافة؛ فلاح بذلك أنه يعلي أمرهم على كل أمر ويظهر دينهم على كل دين، إذ كان سبحانه وتعالى هو الداعي عنهم، وليكون الدعاء كله محمولاً على الإصابة ومشمولاً بالإجابة فقال سبحانه وتعالى: { ربنا لا تؤاخذنا } أي لا تفعل معنا فعل من يناظر خصماً فهو يناقشه على كل صغير وكبير { إن نسينآ } أي ففعلنا ما نهيتنا عنه { أو أخطأنا } أي فعلناه ذاكرين له لكنا لم نتعمد سوءاً. قال الحرالي: والخطأ هو الزلل عن الحد عن غير تعمد بل مع عزم الإصابة أو ودّ أن لا يخطىء، وفي إجرائه من كلام الله سبحانه وتعالى على لسان عباده قبوله - انتهى. وإعادة ربنا في صدر كل جملة من هذا الطراز كما تقدمت الإشارة إليه في التذكير بعظم المقام في حسن التربية ولطف الإحسان والرأفة.
ولما كان ذلك قد يكون فإن له أن يكلف بما يشاء مع تحميل ما تعظم مشقته من التكاليف فإنه لا يسأل عما يفعل قال: { ربنا ولا تحمل علينا إصراً } أي ثقلاً. قال الحرالي: هو العهد الثقيل أي الذي في تحمله أشد المشقة - انتهى. ثم عظم المنة بقوله: { كما حملته على الذين من قبلنا } إشارة إلى أنه كان حمل على من سبق من الأحكام ما يهدّ الأركان تأكيداً لما يحمل على الشكر على تخفيف ذلك عنا، وأصل الإصر العاطف، أصره الشيء يأصره: عطفه، ويلزمه الثقل لأن الغصن إذا ثقل مال وانعطف وهو المقصود هنا؛ وتلك الآصار المشار إليها كثيرة جداً، منها ما في السفر الثاني من التوراة في القربان أنه ينضح من دك الذبيحة على زوايا المذبح، ثم قال: ومن تقرب بذبح ثور أو غيره في مكان غير باب قبة الزمان بيت الرب يعاقب ذلك الرجل عقوبة من قتل قتيلاً لأنه سفك دماً ويهلك ذلك الرجل من شعبه، ومن أكل دماً نزل به الغضب وهلك لأن أنفس البهائم هي الدم، وإنما أمروا أن يقربوه على المذبح لغفران خطاياهم وتطهير أنفسهم لأنه إنما يغفر للنفس بالدم، ومن قرب قرباناً أكل منه يوم ذبحه وثانيه، وما بقي في الثالث أحرق بالنار، ومن أكل منه هلك من شعبه؛ ومن ذلك في ذوي العاهات أن من برص من الآدميين يجلس وحده ولا يختلط مع الناس ويكون سكنه خارجاً من محلة بني إسرائيل - حتى ذكر البرص في الثياب والبيوت وغيرها، فما برص من الجلود والثياب يقطع موضع البرص منه، فإن ظهر فيه بعد القطع أحرق كله بالنار، وإن ظهر في بيت برص يهدم وتجمع حجارته وخشبه وترابه خارجاً من القرية ويحرق بالنار؛ وكذا مرض السلس فيه تشديدات كثيرة، منها أن من جلس على ثوب عليه مسلوس يغسل ثيابه ويستحم بالماء ويكون نجساً إلى الليل - ونحو هذا؛ ثم قال: وكلم الرب موسى وقال له: هذه سنة الأبرص الذي يتطهر: يقدم إلى الكاهن ويخرجه خارجاً من العسكر وينظر الحبر إن كانت ضربة البرص قد برأت وتطهر منها يأمر الحبر فيقدم، ويؤتى بعصفورين حيين زكيين، وعود من خشب الأرز، وعهنة حمراء - وعد أشياء أخرى؛ وقرباناً على كيفية مخصوصة صعبة على عين ماء، ويغسل ثيابه وبدنه، ويحلق شعر رأسه ولحيته وحاجبيه وكل شعر جسده، وأنه يمكث خارجاً من بيته سبعة أيام، وفي اليوم الثامن يأتي بقربان آخر فيقرب على كيفية مخصوصة، وينضح الكاهن من دمه على ثياب وبدن هذا الذي تطهر من البرص، وكذا من زيت قربانه، ويصب بقيته على رأسه. وكذا في مرض السلس إذا برأ المسلوس يمكث سبعة أيام، ثم يتطهر ويغسل ثيابه، ويقرب قرباناً في باب قبة الزمان. وقال: وأي رجل أمذى أو خرج منه منيه يغسل جسده كله بالماء، ويكون نجساً إلى الليل؛ ومن دنا من الحائض يكون نجساً إلى الليل وأي ثوب أو فراش وقعت عليه جنابة يغسل بالماء ويكون نجساً إلى الليل وأي ثوب رقدت عليه وهي حائض كان نجساً، ومن دنا من فراشها يغسل ثيابه ويستحم بالماء ويكون نجساً إلى الليل، وكذا المستحاضة. وفيه أيضاً: وكلم الرب موسى وقال له: كلم بني إسرائيل وقل لهم: المرأة إذا حبلت وولدت ذكراً تكون نجسة سبعة أيام كما تكون في أيام حيضها، وفي اليوم الثامن يختن الصبي، وتكون نجسة وتجلس مكانها ثلاثة وثلاثين يوماً، لا تدنو من شيء مقدس، ولا تدخل بيت الله سبحانه وتعالى لأن الصلاة محرمة عليها حتى تتم أيام تطهيرها؛ فإن ولدت جارية تكون مثل نجاستها في أيام حيضها أربعة عشر يوماً وتجلس مكانها على الدم الزكي ستة وستين يوماً، فإذا كملت أيام تطهيرها ابناً ولدت أو بنتاً تجيء بحمل حول - فذكر قرباناً في قبة الزمان على يد الكاهن لتطهر مما كان يجري منها من الدم. ومن الآصار ما في السفر الثاني أيضاً من أنهم إذا حصدوا أرضاً أو قطفوا كرماً حرم عليهم الاستقصاء وأمروا أن يتركوا للمساكين، ثم قال: ولا تلتقطوا ما ينتثر من زيتونكم بل دعوه للمساكين والذين يقبلون إليّ لأني أنا الله ربكم، ثم قال: فإذا دخلتم الأرض وغرستم فيها كل شجر يثمر ثماراً تؤكل فدعوها ثلاث سنين ولا تأكلوا من ثمارها، فإذا كان في السنة الرابعة صيروا جميع ثمار شجركم حرمة للرب ومجداً لإكرامه، وفي السنة الخامسة كلوا ثمارها فإنها تنمو وتزداد لكم غلاتها، أنا الله ربكم! وقال في أواخر السفر الخامس وهو آخر أسفارها: لا تحيفوا على المسكين واليتيم والساكن بينكم في القضاء، ولا تأخذوا ثوب الأرملة رهناً، واذكروا أنكم كنتم عبيداً بأرض مصر وأنقذكم الرب من هناك، لذلك آمركم وأقول لكم إنه واجب عليكم أن تفعلوا مثل هذا الفعل، وإذا حصدتم حقل أرضكم ونسيتم حزمة لا ترجعوا في طلب أخذها بل تكون للساكن ولليتيم والأرملة، ليبارك الله ربكم في جميع أعمال أيديكم؛ وإذا نثرتم زيتونكم فلا تطلبوا ما نسيتم في حقلكم بل يكون لليتيم والساكن والأرملة؛ وإذا قطعتم كرومكم لا تستقصوا ما فيها بل دعوها ما يعيش به الساكن واليتيم والأرملة؛ واذكروا أنكم كنتم عبيداً بأرض مصر، لذلك آمركم أن تفعلوا هذا الفعل - وأما ما على النصارى من ذلك فسيأتي كثير منه إن شاء الله تعالى في المائدة عند قوله تعالى
{ وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه } [المائدة: 47].
ولما دعوا بما تضمن الإيمان بما نزل إليهم مما حمل من كان قبلهم من الثقل أتبعوه ما يدل على اعتقادهم أن ذلك عدل منه في القضاء، وأنه له أن يفعل فوق ذلك فيكلف بما ليس في الوسع، لأنه المالك التام المِلك والمَلِك المنفرد بالمُلك، وسألوا التخفيف برفع ذلك فقالوا: { ربنا ولا } وعبر بالتفعيل لما فيه بما يفهم من العلاج من مناسبة التكليف بما لا يطاق فقال: { تحملنا ما لا طاقة } أي قدرة { لنا به }.
ولما كان الإنسان قد يتعمد الذنب لشهوة تدعوه إليه وغرض يحمله عليه أتبعوا ذلك دعاء عاماً فقالوا: { واعف عنا } أي ارفع عنا عقاب الذنوب كلها { واغفر لنا } أي ولا تذكرها لنا أصلاً، فالأول العفو عن عقاب الجسم، والثاني العفو عن عذاب الروح. وقال الحرالي: ولما كان قد يلحق من يعفى عنه ويغفر له قصور في الرتبة عن منال الحظ من الرحمة ألحق تعالى المعفو عنه المغفور له بالمرحوم ابتداء بقوله: { وارحمنا } أي حتى يستوي المذنب التائب والذي لم يذنب قط في منال الرحمة.
ولما ضاعف لهم تعالى عفوه ومغفرته ورحمته أنهاهم بذلك إلى محل الخلافة العاصمة
{ { لا عاصم اليوم من أمر الله إلاّ من رحم } [هود: 43] فلما صاروا خلفاء تحقق منهم الجهاد لأعداء الله والقيام بأمر الله ومنابذة من تولى غير الله، فتحقق أنه لا بد أن يشاققهم أعداء وينابذوهم، فعلمهم الذي رحمهم سبحانه إسناد أمرهم بالولاية إليه قائلاً عنهم: { أنت مولانا } والمولى هو الولي اللازم الولاية القائم بها الدائم عليها لمن تولاه بإسناد أمره إليه فيما ليس هو بمستطيع لها - انتهى بالمعنى. وكان حقيقته الفاعل لثمرة الولاية وهي القرب والإقبال، وذلك أنهم لما سألوا العفو عن عذاب الجسم والروح سألوا ثوابهما، فثواب الجسم الجنة وثواب الروح لذة الشهود وذلك ثمرة الولاية وهي الإقبال على الولي بالكلية، ثم جعل ختام توجه المؤمنين إلى ربهم الدعاء بثمرة الولاية فقال: { فانصرنا } باللسان والسنان، وأشار إلى قوة المخالفين حثاً على تصحيح الالتجاء والصدق في الرغبة بقوله: { على القوم } وأشار إلى أن الأدلة عليه سبحانه في غاية الظهور لكل عاقل بقوله: { الكافرين } أي الساترين للأدلة الدالة لهم على ربهم المذكورين أول السورة، فتضمن ذلك وجوب قتالهم وأنهم أعدى الأعداء، وأن قوله تعالى { { لا إكراه في الدّين } [البقرة: 256] ليس ناهياً عن ذلك وإنما هو إشارة إلى أن الدّين صار في الوضوح إلى حد لا يتصور فيه إكراه بل ينبغي لكل عاقل أن يدخل فيه بغاية الرغبة فضلاً عن الإحواج إلى إرهاب، فمن نصح نفسه دخل فيه بما دله عليه عقله، ومن أبى أدخل فيه قهراً بنصيحة الله التي هي الضرب بالحسام ونافذ السهام. ولما كان الختم بذلك مشيراً إلى أنه تعالى لما ضاعف لهم عفوه عن الذنب فلا يعاقب عليه ومغفرته له بحيث يجعله كأن لم يكن فلا يذكره أصلاً ولا يعاقب عليه ورحمته في إيصال المذنب المعفو عنه المغفور له إلى المنازل العالية أنهاهم إلى رتبة الخلافة في القيام بأمره والجهاد لأعدائه وإن جل أمرهم وأعنى حصرهم كان منبهاً على أن بداية هذه الصورة هداية وخاتمتها خلافة، فاستوفت تبيين أمر النبوة إلى حد ظهور الخلافة فكانت سناماً للقرآن، وكان جماع ما في القرآن منضماً إلى معانيها إما لما صرحت به أو لما ألاحته وأفهمه إفصاح من إفصاحها كما تنضم هي مع سائر القرآن إلى سورة الفاتحة فتكون أماً للجميع - أفاد ذلك الأستاذ أبو الحسن الحرالي. وقد بان بذكر المنزل والإيمان به والنصرة على الكفار بعد تفصيل أمر النفقة والمال الذي ينفق منه رد مقطعها على مطلعها وآخرها على أولها، ومن الجوامع العظيمة في أمرها وشمول معناها المبين لعلو قدرها ما قال الحرالي إنه لما كان منزل هذا القرآن المختص بخاتم النبيين صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين منزلاً حروفاً محيطة المعاني مخاطباً بها النبي والأئمة وتفصيل آيات مخاطباً به عامة الأمة انتظمت هذه السورة صنفي الخطابين فافتتحت بالم حروفاً منبئة عن إحاطة بما تضمنته معانيها من إحاطة القائم من معنى الألف وإحاطة المقام من معنى الميم وإحاطة الوصلة من معنى اللام؛ ولما كانت الإحاطة في ثلاث رتب إحاطة إلهية قيومية وإحاطة كتابية وإحاطة تفصيلية كانت الإحاطة الخاصة بهذه الأحرف التي افتتحت بها هذه السورة إحاطة كتابية متوسطة، فوقع الافتتاح فيما وقع عليه أمر القرآن في تلاوته في الأرض بالرتبة المتوسطة من حيث هي أقرب للطرفين وأيسر للاطلاع على الأعلى والقيام بالأدنى، فكان ما كان في القرآن من { { الم تلك آيات الكتاب الحكيم } [لقمان: 26] ونحوه تفصيل إحاطة من إحاطة الكتاب التي أنزلت فيها سورة البقرة، فكانت مشتملة على إحاطات الكتب الأربعة: كتاب التقدير الذي كتبه الله سبحانه وتعالى قبل أن يخلق الخلائق بما شاء الله من أمد وعدد، ورد "أن الله كتب الكتاب وقضى القضية وعرشه على الماء" ، و "أن الله سبحانه وتعالى قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلقهم بخمسين ألف عام" وأنه قدر الأرزاق قبل أن يخلق الصور بألفي عام - وكثير من ذلك مما ورد في الأخبار؛ وفي مقابلة هذا الكتاب السابق بالتقدير الكتاب اللاحق بالجزاء الذي كتبه الله سبحانه وتعالى ويكتبه أثر تمام الإبداء باستبقاء الأعمال البادية على أيدي الخلق الذين ينالهم النعيم والجحيم والأمن والروع والكشف والحجاب؛ وهذا الكتاب الآخر مطابق للكيان الأول، ويبين بتطرقهما كتاب الأحكام المتضمن لأمر الدين والدعوة الذي وقعت فيه الهداية والفتنة، ثم كتاب الأعمال الذي كتبه الله سبحانه وتعالى في ذوات المكلفين من أفعالهم وأحوال أنفسهم وما كتب في قلوبهم من إيمان أو طبع علهيا أو ختم عليها بفجور أو طغيان؛ فتطابقت الأوائل والأواخر واختلف كتاب الأحكام وكتاب الأعمال بما أبداه الله سبحانه وتعالى من وراء حجاب من معنى الهدى والفتنة والإقدام والإحجام، فتضمنت سورة البقرة إحاطات جميع هذه الكتب واستوفت كتاب الأقدار بما في صدرها من تبيين أمر المؤمنين والكافرين والمنافقين، وكتاب الأفعال كما ذكر سبحانه وتعالى أمر الختم على الكافرين والمرض في قلوب المنافقين، وما يفصل في جميع السورة من أحكام الدين وما يذكر معها مما يناسبها من الجزاء من ابتداء الإيمان إلى غاية الإيقان الذي انتهى إليه معنى السورة فيما بين الحق والخلق من أمر الدين، وفيما بين الخلق والخلق من المعاملات والمقاومات، وفيما بين المرء ونفسه من الأيمان والعهود، إلى حد ختمها بما يكون من الحق للخلق في استخلاف الخلفاء الذين ختم بذكرهم هذه السورة الذين قالوا: { غفرانك ربنا } إلى انتهائها؛ ولما كان مقصود هذه السورة الإحاطة الكتابية كان ذلك إفصاحها ومعظم آياتها وكانت الإحاطة الإلهية القيومية إلاحتها ونور آياتها، فكان ذلك في آية الكرسي تصريحاً وفي سائر آيها الإحة بحسب قرب الإحاطة الكتابية من الإحاطة الإلهية، وفي بدء سابق أو ختم لاحق أو حكمة جامعة، فلذلك انتظم بالسورة التي ذكرت فيها البقرة السورة التي يذكر فيها آل عمران، لما نزل في سورة آل عمران من الإحاطة الإلهية حتى كان في مفتتحها اسم الله الأعظم، فكان ما في البقرة إفصاحاً في سورة آل عمران إلاحة، وكان ما في البقرة إلاحة في سورة آل عمران إفصاحاً، إلا ما اطلع في كل واحدة منهما من تصريح الأخرى؛ فلذلك هما سورتان مرتبطتان وغيايتان وغمامتان تظلان صاحبهما يوم القيامة، وبما هما من الذكر الأول وبينهما من ظاهر التفاوت ما بين الإحاطة الكتابية وبين الإحاطة الإلهية فلذلك كانت سورة البقرة سناماً له والسنام أعلى ما في الحيوان المنكب وأجمله جملة وهو البعير، وكانت سورة آل عمران تاج القرآن والتاج هو أعلى ما في المخلوقات من الخلق القائم المستخلف في الأرض ظاهره وفي جميع المكون إحاطته؛ فوقع انتظام هاتين السورتين على نحو من انتظام الآي يتصل الإفصاح في الآية بإلاحة سابقتها كما تقدم التنبيه عليه في مواضع - انتهى. وسر ترتيب سورة السنام على هذا النظام أنه لما افتتحها سبحانه وتعالى بتصنيف الناس الذين هم للدين كالقوائم الحاملة لذي السنام فاستوى وقام ابتداء المقصود بذكر أقرب السنام إلى أفهام أهل القيام فقال مخاطباً لجميع الأصناف التي قدمها { { يا أيها الناس اعبدوا ربكم } [البقرة: 21] واستمر إلى أن بان الأمر غاية البيان فأخذ يذكر مننه سبحانه على الناس المأمورين بالعبادة بما أنعم عليهم من خلق جميع ما في الوجود لهم بما أكرم به أباهم آدم عليه الصلاة والسلام، ثم خص العرب ومن تبعهم ببيان المنة عليهم في مجادلة بني إسرائيل وتبكيتهم، وهو سبحانه وتعالى يؤكد كل قليل أمر الربوبية والتوحيد بالعبادة من غير ذكر شيء من الأحكام إلا ما انسلخ منه بنو إسرائيل، فذكره على وجه الامتنان به على العرب وتبكيت بني إسرائيل بتركه لا على أنه مقصود بالذات، فلما تزكوا فترقوا فتأهلوا لأنواع المعارف قال معلياً لهم من مصاعد الربوبية إلى معارج الإلهية { { وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو } [البقرة: 163] فلما تسنموا هذا الشرف لقنهم العبادات المزكية ونقاهم أرواحها المصفية فذكر أمهات الأعمال أصولاً وفروعاً الدعائم الخمس والحظيرة وما تبع ذلك من الحدود في المآكل والمشارب والمناكح وغير ذلك من المصالح فتهيؤوا بها وأنها المواردات الغر من ذي الجلال فقال مرقياً لهم إلى غيب حضرته الشماء ذاكراً مسمى جميع الأسماء { { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } [البقرة: 255] ولما كان الواصل إلى أعلى مقام الحرية لا بد عند القوم من رجوعه إلى ربقة العبودية ذكر لهم بعض الأعمال اللائقة بهم، فحث على أشياء أكثرها من وادي الإحسان الذي هو مقام أولي العرفان، فذكر مثل النفقة التي هي أحد مباني السورة عقب ما ذكر مقام الطمأنينة إيذاناً بأن ذلك شأن المطمئن، ورغب فيها إشارة إلى أنه لا مطمع في الوصول إلا بالانسلاخ من الدنيا كلها، وأكثر من الحث على طيب المطعم الذي لا بقاء بحال من الأحوال بدونه، ونهى عن الربا أشد نهي إشارة إلى التقنع بأقل الكفاف ونهياً عن مطلق الزيادة للخواص وعن كل حرام للعوام، وأرشد إلى آداب الدين الموجب للثقة بما عند الله المقتضي بصدق التوكل المثمر للعون من الله سبحانه وتعالى والإرشاد إلى ذلك، توفي النبي صلى الله عليه وسلم وهو متلبس به؛ وبنى سبحانه وتعالى كل ثلث من هذه الأثلاث على مقدمة في تثبيت أمره وتوجه بخاتمة في التحذير من التهاون به، وزاد الثالث لكونه الختام وبه بركة التمام أن أكد عليهم بعد خاتمته في الإيمان بجميع ما في السورة، وختم بالإشارة إلى أن عمدة ذلك الجهاد الذي لذوي الغي والعناد، والاعتماد فيه على مالك الملك وملك العباد، وذلك هو طريق أهل الرشاد، والهداية والسداد والله سبحانه وتعالى هو الموفق للصواب.