التفاسير

< >
عرض

فَتَقَطَّعُوۤاْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ
٥٣
فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّىٰ حِينٍ
٥٤
أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ
٥٥
نُسَارِعُ لَهُمْ فِي ٱلْخَيْرَاتِ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ
٥٦
إِنَّ ٱلَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيةِ رَبِّهِمْ مُّشْفِقُونَ
٥٧
وَٱلَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبَّهِمْ يُؤْمِنُونَ
٥٨
وَٱلَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ
٥٩
-المؤمنون

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما كان من المعلوم قطعاً أن التقدير: فاتقى الأنبياء الله الذي أرسلهم وتجشموا حمل ما أرسلهم به من عظيم الثقل، فدعوا العباد إليه وأرادوا جمعهم عليه، عطف عليه بفاء السبب قوله معبراً بفعل التقطع لأنه يفيد التفرق: { فتقطعوا } أي الأمم، وإنما أضمرهم لوضوح إرادتهم لأن الآية التي قبلها قد صرحت بأن الأنبياء ومن نجا معهم أمة واحدة لا اختلاف بينها، فعلم قطعاً أن الضمير للأمم ومن نشأ بعدهم، ولذلك كان النظر إلى الأمر الذي كان واحداً أهم، فقدم قوله: { أمرهم } أي في الدين بعد أن كان مجتمعاً متصلاً { بينهم } فكانوا شيعاً، وهو معنى { زبراً } أي قطعاً، كل قطعة منها في غاية القوة والاجتماع والثبات على ما صارت إليه من الهوى والضلال، بكل شيعة طريقة في الضلال عن الطريق الأمم، والمقصد المستقيم، وكتاب زبروه في أهويتهم ولم يرحموا أنفسهم بما دعتهم إليه الهداة من الاجتماع والألفة فأهلكوها بالبغضاء والفرقة، وهو منصوب بأنه مفعول ثان لتقطع على ما مضى تخريجه في الأنبياء، وقد ظهر كما ترى ظهوراً بيناً أن هذه إشارة إلى الناجين من أمة كل نبي بعد إهلاك أعدائهم، أي إن هذه الجماعة الذين أنجيتهم معكم أمتكم، حال كونهم أمة واحدة متفقين في الدين، لا خلاف بينهم، وكما أن جماعتكم واحدة فأنا ربكم لا رب لكم غيري فاتقون ولا يخالف أحد منكم أمري ولا تختلفوا وتفترقوا لئلا أعذب العاصي منكم كما عذبت أعداءكم.
ولما كان هذا مما لا يرضاه عاقل، أجيب من كأنه قال: هل رضوا بذلك مع انكشاف ضرره؟ بقوله: { كل حزب } أي فرقة { بما لديهم } أي من ضلال وهدى { فرحون* } أي مسرورون فضلاً عن أنهم راضون غير معرج الضال منهم على ما جاءت به الرسل من الهدى، ولا على الاعتبار بما اتفق لأممهم بسبب تكذيبهم من الردى.
ولما أنتج هذا أن الضلال وإن وضح لا يكشفه إلا ذو الجلال، سبب عنه سبحانه قوله تسلية لرسوله صلى الله عليه وسلم: { فذرهم } أي اتركهم على شر حالاتهم { في غمرتهم } أي الضلاله التي غرقوا فيها { حتى حين* } أي إلى وقت ضربناه لهم من قبل أن نخلقهم ونحن عالمون بكل ما يصدر منهم على أنه وقت يسير.
ولما كان الموجب لغرورهم ظنهم أن حالهم - في بسط الأرزاق من الأموال والأولاد - حال الموعود لا المتوعد، أنكر ذلك عليهم تنبيهاً لمن سبقت له السعادة، وكتبت له الحسنى وزيادة، فقال: { أيحسبون } أي لضعف عقولهم { أنما } أي الذين { نمدهم } على عظمتنا { به } أي نجعله مدداً لهم { من مال } نيسره لهم { وبنين* } نمتعهم بهم، ثم أخبر عن "أن" بدليل قراءة السلمي بالياء التحتية فقال: { نسارع لهم } أي به بإدرارنا له عليهم في سرعة من يباري آخر { في الخيرات } التي لا خيرات إلا هي لأنها محمودة العاقبة، ليس كذلك بل هو وبال عليهم لأنه استدراج إلى الهلاك لأنهم غير عاملين بما يرضي الرحمن { بل } هم يسارعون في أسباب الشرور، ولا يكون عن السبب إلا مسببه، ولكنهم كالبهائم { لا يشعرون* } أنهم في غاية البعد عن الخيرات
{ { سنستدرجهم من حيث لا يعلمون } [القلم: 44].
ولما ذكر أهل الافتراق، أتبعهم أهل النفاق، فكان كأنه قيل: فمن الذي يكون له الخيرات؟ فأجيب بأنه الخائف من الله، فقيل معبراً بما يناسب أول السورة من الأوصاف، بادئاً بالخشية لأنها الحاملة على تجديد الإيمان: { إن الذين هم } أي ببواطنهم { من خشية ربهم } أي الخوف العظيم من المحسن إليهم المنعم عليهم { مشفقون* } أي دائمو الحذر { والذين هم بآيات ربهم } المسموعة والمرئية، لا ما كان من جهة غيره { يؤمنون* } لا يزال إيمانهم بها يتجدد شكراً لإحسانه إليهم.
ولما كان المؤمن قد يعرض له ما تقدم في إيمانه من شرك جلي أو خفي، قال: { والذين هم بربهم } أي الذي لا محسن إليهم غيره وحده { لا يشركون* } أي شيئاً من شرك في وقت من الأوقات كما لم يشركه في إحسانه إليهم أحد.