التفاسير

< >
عرض

أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ ٱللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ
٤٠
أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱلطَّيْرُ صَآفَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ
٤١
وَللَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَإِلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْمَصِيرُ
٤٢
أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى ٱلْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَآءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِٱلأَبْصَارِ
٤٣
يُقَلِّبُ ٱللَّهُ ٱللَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي ٱلأَبْصَارِ
٤٤
-النور

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما بين سبحانه بهذا المثال أنهم لم يصلوا إلى شيء غير التعب، المثمر للعطب، وكان هذا لا يفعله بنفسه عاقل، ضرب مثالاً آخر بين الحامل لهم على الوقوع في ممثول الأول، وهو السير بغير دليل، الموقع في خبط العشواء كالماشي في الظلام، فقال عاطفاً على { كسراب } قوله: { أو } للتخيير، أي أعمالهم لكونها لا منفعة لها كسراب، ولكونها خالية عن نور الحق { كظلمات } أو للتنويع، فإنها إن كانت حسنة الظاهر فكالسراب، أو قبيحة فكالظلمات، أو للتقسيم باعتبار وقتين كالظلمات في الدنيا والسراب في الآخرة { في بحر } هو مثال قلب الكافر { لجي } أي ذي لج هو اللج، إشارة إلى أنه عميق لا يدرك له قرار، لأن اللج معظم الماء، ويكون جمع لجة أيضاً، والأوفق هنا أن يكون منسوباً إلى الجمع، لأنه أهول، والمقام للتهويل، قال القزاز في ديوانه: ولجة البحر معروفة وهو المرضع الذي لا ترى منه أرضاً ولا جبلاً، وبحر لجي: واسع اللجة، وجمع اللجة لجج ولج. { يغشاه } أي يغطي هذا البحر ويعلوه، أو يلحق الكائن فيه { موج } وهو مثل ما يغشى قلبه من الجهل والشك والحيرة، كائن { من فوقه } أي هذا الموج { موج } آخر { من فوقه } أي هذا الموج الثاني المركوم على الأول { سحاب } قد غطى النجوم، وهو مثال الرين والختم والطبع على القلب، فلا سماء تبصر ولا أرض.
ولما كان هذا أمراً مهولاً، أشار إلى هوله وتصويره بقوله: { ظلمات } أي من البحر والموجين والسحاب { بعضها }. ولما كان المراد استغراق الجهة، لم يثبت الجار فقال: { فوق بعض } متراكمة، فلذلك يبعد كل البعد أن ينفذ فيها بصر، ولذلك قال: { إذا أخرج } أي الكائن في هذا البحر بدلالة المعنى وإن لم يجر له ذكر { يده } وهي أقرب شيء إليه { لم يكد } أي الكائن فيه { يراها } أي يقرب من ذلك فضلاً عن أن يكون، لأن الله قد ستر عنه كل نور بهذه الظلمات المتكاثفة، وهو مثال لعمله وأنه عدم لما تقدم من أن العدم كله ظلمة، فلا عمل له يكون شيئاً ولا يقرب من ذلك لأنه لا أهلية له بوجه { ومن لم يجعل الله } أي الملك الأعظم { له نوراً } من الأنوار، وهو قوة الإيجاد والإظهار { فما له من نور* } أصلاً، لأنه سبحانه يستر نوره وإن كان ملء السماوات والأرض عمن يشاء بحجب الأهوية، لأنه قادر على ما يريد.
ولما كان قيام الأمور، وظهورها كل ظهور، إنما هو بالنور، حساً بالإيجاد، ومعنى بجعل الموجودات آيات مرئيات تدل على موجدها، قال تعالى دالاً على ما أخبر به من أنه وحده نور السماوات والأرض، أي موجدهما بعلمه وقدرته ومن أن من كساه من نوره فإن في يوم البعث الذي يجازي فيه الخلق على ما يقتضيه العلم الذي هو النور في الحقيقة من مقادير أعمالهم، ومن أعراه من النور هلك: { ألم تر } أي تعلم يا رأس الفائزين برتبة الإحسان علماً هو في ثباته كما بالمشهادة { أن الله } الحائز لصفات الكمال { يسبح له } أي ينزه عن كل شائبة نقص لأجله خاصة بما له فيه من القدرة الكاملة { من في السماوات }. ولما كان مبنى السورة على شمول العلم والقدرة لم يؤكد فقال: { والأرض } أي هما وكل ما فيهما بلسان حاله، أو آلة مقاله، وعرف أن المراد العموم بعطفه بعض ما لا يعقل، وعبر بـ "من" لأن المخبر به من وظائف العقلاء.
ولما كان أمر الطير أدل لأنه أعجب، قال مخصصاً: { والطير صافات } أي باسطات أجنحتها في جو السماء، لا شبهة في أنه لا يمسكهن إلا الله، وإمساكه لها في الجو مع أنها أجرام ثقيلة، وتقديره لها فيه على القبض والبسط حجة قاطعة على كمال قدرته.
ولما كان العلم يوصف به ما هو سبب كالكتاب المصنف ونحوه، ويشتق للشيء اسم فاعل مما لابسه كما يقال: ليله قائم، ونهاره صائم،
{ { ولا تزال تطلع على خائنة منهم } [المائدة: 13] وكانت أسطر القدرة مجودة على كل كائن، شديدة الوضوح في صفحات كل شيء، فكانت الكائنات بذلك دالة على خالقها وما له من كل صفة كمال، صح إطلاق العلم عليها وإسناده إليها فقال: { كل } أي من المخلوقات { قد علم } أي بما كان سبباً له من العلم بما فيه من الآيات الدالة المعلمة بما لموجده من صفات الكمال { صلاته } أي الوجه الذي به وصلته بمولاه ونسبته إليه { وتسبيحه } أي الحال الذي به براءة صانعه من الشين وتعاليه عن النقص، وقد صرحت بذلك ألسن أحوالها، نيابة عن بيان مقالها، هذا بقيامه صامتاً جامداً، وهذا بنموه مهتزاً رابياً، إلجاء وقهراً، وهذا بحركته بالإرادة، وقصد وجوه منافعه، وبعده عن أحوال مضاره بمجرد فطرته وما أودع في طبيعته، وهذا بنطقه وعقله، ونباهته وفضله، مع أن نسبة كل منهم إلى الأرض والسماء واحدة، ويدل على ذلك دلالة واضحة ما روى الإمام أحمد في المسند عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن "النبي صلى الله عليه وسلم "أن نوحاً عليه السلام أوصى ابنه عند موته بلا إله إلا الله، فإن السماوات السبع والأرضين السبع لو كن حلقة مبهمة قصمتهن، وسبحان الله وبحمده، فإنها صلاة كل شيء وبها يرزق الخلق " وقال الغزالي في الإحياء: وروي "أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: تولت عني الدنيا وقلت ذات يدي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأين أنت من صلاة الملائكة وتسبيح الخلائق وبها يرزقون، قال فقلت: وما هي يا رسول الله؟ قال: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم أستغفر الله مائة مرة ما بين طلوع الفجر إلى أن تصلي الصبح، تأتيك الدنيا راغمة صاغرة، ويخلق الله من كل كلمة ملكاً يسبح الله إلى يوم القيامة لك ثوابه" . قال الحافظ زين الدين العراقي: رواه المستغفري في الدعوات عن ابن عمر رضي الله عنهما وقال: غريب من حديث مالك، ولا أعرف له أصلاً من حديث مالك".
ولما كان التقدير: فالله قدير على جميع تلك الشؤون، عطف عليه قوله: { والله } أي المحيط علماً وقدرة { عليم بما يفعلون* } بما ثبت مما أخبركم به في هذه السورة دقائق أقوالكم وأحوالكم، وضمائركم وأفعالكم، وقد تقدم في الأعراف عند
{ { أو لم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض } [الأعراف: 185] ما ينفع هنا.
ولما أخبر عما في الكونين بما يستلزم الملك على أنهى وجوه التمام المستلزم للقدرة على البعث، أخبر عنهما بالتصريح به فقال: { ولله } أي الذي لا ملك سواه { ملك السماوات والأرض } مع كونه مالكاً مسخراً مصرفاً لجميع ذلك، فهو جامع للملك والملك.
ولما كان التقدير: ومن الله المبدأ للكل بالإيجاد من العدم، عطف عليه قوله: { وإلى الله } أي الذي له الإحاطة بكل شيء { المصير* } أي لهم كلهم بعد الفناء، وإنما طوي هذا المقدر لأنه لا خلف فيه.
ولما أخبر بذلك فتقرر ملكه وقدرته على البعث على حسب ما وعد به بعد أن تحرر ملكه، دل عليه بتصرفه في العالم العلوي والسفلي بما يدل على القدرة على الإعادة فقال: { ألم تر أن الله } أي ذا الجلال والجمال { يزجي } أي يسوق بالرياح، وسيأتي الكلام عليها في النمل؛ وقال أبو حيان: إن الإزجاء يستعمل في سوق الثقل برفق. { سحاباً } أي بعد أن أنشأه من العدم تارة من السفل، وتارة من العلو، ضعيفاً رقيقاً متفرقاً، قال أبو حيان: وهو اسم جنس واحده سحابة، والمعنى: يسوق سحابة إلى سحابة. وهو معنى { ثم يؤلف بينه } أي بين أجزائه بعد أن كانت قطعاً في جهات مختلفة { ثم يجعله ركاماً } في غاية العظمة متراكباً بعضه على بعض بعد أن كان في غاية الرقة { فترى } أي في تلك الحالة المستمرة { الودق } أي المطر، قال القزاز: وقيل: هو احتفال المطر. { يخرج من خلاله } أي فتوقه التي حدثت بالتراكم وانعصار بعضه من بعض { وينزل من السماء } أي من جهتها مبتدئاً من { من جبال فيها } أي في السماء، وهي السحاب الذي صار بعد تراكمه كالجبال؛ وبعض فقال: { من برد } هو ماء منعقد؛ وبين أن ذلك بإرداته واختياره بقوله: { فيصيب به } أي البرد والمطر على وجه النقمة أو الرحمة { من يشاء } من الناس وغيرهم { ويصرفه عمن يشاء } صرفه عنه؛ ثم نبه على ما هو غاية في العجب في ذلك مما في الماء من النار التي ربما نزلت منها صاعقة فأحرقت ما لا تحرق النار فقال: { يكاد سنا } أي ضوء { برقه } وهو اضطراب النور في خلاله { يذهب } أي هو، ملتبساً { بالأبصار* } لشدة لمعه وتلألئه، فتكون قوة البرق دليلاً على تكاثف السحاب وبشيراً بقوة المطر، ونذيراً بنزول الصواعق؛ ثم ذكر ما هو أدل على الاختيار، فقال مترجماً لما مضى بزيادة: { يقلب الله } أي الذي له الأمر كلهه بتحويل الظلام ضياء والضياء ظلاماً، والنقص تارة والزيادة أخرى، مع المطر تارة والصحو أخرى { الليل والنهار } فينشأ عن ذلك التقليب من الحر والبرد والنمو والينوع واليبس ما يبهر العقول؛ ولهذا قال منبهاً على النتيجة: { إن في ذلك } أي الأمر العظيم الذي ذكر من جميع ما تقدم { لعبرة لأولي الأبصار* } أي النافذة، والقلوب الناقدة، يعبرون منها إلى معرفة ما لمدبر ذلك من القدرة التامة والعلم الشامل الدال قطعاً على الوحدانية.