التفاسير

< >
عرض

تَبَارَكَ ٱلَّذِي نَزَّلَ ٱلْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً
١
ٱلَّذِي لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً
٢
وَٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ آلِهَةً لاَّ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلاَ حَيَـاةً وَلاَ نُشُوراً
٣
-الفرقان

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

{ تبارك } أي ثبت ثبوتاً مع اليمن والخير الذي به سبقت الرحمة الغضب، والتعالي في الصفات والأفعال، فلا ثبوت يدانيه، ولا يكون ذلك كذلك إلا بتمام قدرته، ولا تتم قدرته إلا بشمول علمه، وهذا الفعل مطاوع "بارك" وهو مختص بالله تعالى لم يستعمل لغيره، ولذلك لم ينصرف لمستقبل ولا اسم فاعل؛ ثم وصف نفسه الشريفة بما يدل على ذلك فقال: { الذي }.
ولما كان تكرار الإنذار - الذي هو مقصود السورة - أنفع، وتفريقه في أوقات متراسلة أصدع للقلوب وأردع، وكان إيضاح المشكلات، في الفرق بين الملتبسات، أعون بما يكون علة، عبر بما يدل على الفرق وقدمه فقال: { نزل الفرقان } أي الكتاب الذي نزل إلى سماء الدنيا فكان كتاباً، ثم نزل مفرقاً بحسب المصالح، فسمي لذلك فرقاناً، ولأنه الفارق بين ملتبس، فلا يدع خفاء إلا بينه، ولاحقاً إلا أثبته، ولا باطلاً إلا نفاه ومحقه، فيه انتظام الحياة الأولى والأخرى، فكان قاطعاً على علم منزله، ومن علمه الباهر إنزاله { على عبده } أي الذي لا أحق منه بإضافته إلى ضميره الشريف، لأنه خالص له، لا شائبة لغيره فيه أصلاً، ولم يحز مخلوق ما حاز من طهارة الشيم، وارتفاع الهمم، ولا شك أن الرسول دال على مرسله في مقدار علمه، وكثرة جنده، واتساع ملكه
{ { الله أعلم حيث يجعل رِسَالَتَهُ } [الأنعام: 124] ثم علل إنزاله عليه بقوله: { ليكون } أي العبد أو الفرقان.
ولما كان العالم ما سوى الله، وكان ربما ادعى مدع أن المراد البعض، لأنه قد يطلق اللفظ على جزء معناه بدلالة التضمن، وكان الجمع لا بد أن يفيد ما أفاده المفرد بزيادة، جمع ليعرف أن المراد المدلول المطابقي، مع التصريح باستغراق جميع الأنواع الداخلة تحت مفهوم المفرد، واختار جمع العقلاء تغليباً، إعلاماً بأنهم المقصودون بالذات فقال: { للعالمين } أي المكلفين كلهم من الجن والإنس والملائكة.
ولما كان كل من الكتاب والمنزل عليه بالغاً في معناه، عبر بما يصح أن يراد به المنذر والإنذار على وجه المبالغة فقال: { نذيراً* } أي وبشيراً، وإنما اقتصر على النذارة للإشارة إلى البشارة بلفظ { تبارك } ولأن المقام لها، لما ختم به تلك من إعراض المتولين عن الأحكام، ونفى الإيمان عنهم بانتفاء الإسلام، وفيه إشارة إلى كثرة المستحقين للنذارة، ولا التفات إلى من قال: إن الرازي والبرهان النسفي نقلا الإجماع على أنه صلى الله عليه وسلم لم يرسل الملائكة، فإن عبارة الرازي في بعض نسخ تفسيره: لكنا أجمعنا على أنه لم يرسل إلى الملائكة، وفي أكثر النسخ: بينا - بدل: أجمعنا، على أنه لو اتفقت جميع النسخ عليها لم تضر، لأنها غير صريحة في إرادة الإجماع، ولأن الإجماع لا يثبت بنقل واحد لا سيما في مثل هذا الذي تظافرت الظواهر على خلافه، ولم يرد مانع منه، وأما البرهان النسفي فمن الرازي أخذ، وعبر بعبارته، فصارا واحداً، وقد بينت ذلك عند قوله تعالى في سورة الأنعام
{ لأنذركم به ومن بلغ } [الأنعام: 19] بياناً شافياً لا ارتياب معه، بل ولو قيل: إن الآية على ظاهرها، لا خصوص فيها بالعقلاء، وتكليف كل شيء بحسبه، لكان وجهاً، وبذلك صرح الإمام تاج الدين السبكي في أول الترشيح في قوله: "وأصلي على نبيه محمد المصطفى المبعوث إلى كل شيء" وكذلك المحب الطبري في آخر "القرى لقاصدي أم القرى" وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم ما دعا جامداً ولا متحركاً غير الإنسان إلا أجابه بما هو مقتضى { { إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها } [الأحزاب: 72] دعا غير مرة عدة من أغصان الأشجار فأتته تسجد له، ثم أمرها بأن ترجع إلى مكانها ففعلت؛ ودعا الضب وغيره من الحيوانات العجم فأطاعته؛ ودعا الأشجار غير مرة فسمعت وسعت إليه؛ وأمر الجبل لما رجف فأذعن؛ وأرسل إلى نخل وأحجار يأمرهن بالاجتماع ليقضي إليهن حاجة ففعلن، ثم أرسل يأمرهن بالرجوع إلى أماكنهن فأجبن؛ وغمز الأرض فنبع منها الماء؛ وأرسل سهمه إلى البئر فجاشت بالرواء - إلى غير ذلك مما هو مضمن في دلائل النبوة، بل ولا دعا طفلاً رضيعاً إلا شهد له لكونه على الفطرة الأولى - إلى غير ذلك مما هو دال على ظاهر الآية المقتضي لزيادة شرفه صلى الله عليه وسلم من غير محذور يلزم عليه ولا نص يخالفة - والله الهادي.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير في برهانه: لما تضمنت سورة النور بيان كثير من الأحكام كحكم الزنى، ورمي الزوجات به، والقذف، والاستئذان، والحجاب، وإسعاف الفقير، والكتابة، وغير ذلك، والكشف عن مغيبات، من تغاير حالات، تبين بمعرفتها والاطلاع عليها الخبيث من الطيب، كاطلاعه سبحانه نبيه والمؤمنين على ما تقوله أهل الإفك، وبيان سوء حالهم، واضمحلال محالهم، في قصة المنافقين في إظهارهم ضد ما يضمرون؛ ثم كريم وعده للخلفاء الراشدين
{ وعد الله الذين آمنوا منكم } [المائدة: 9] ثم ما فضح به تعالى منافقي الخندق { { قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذاً } [النور: 63] إلى آخر الآية، فكان مجموع هذا فرقاناً يعتضد به الإيمان، ولا ينكره مقر بالرحمن، يشهد لرسول الله صلى الله عليه وسلم بصحة رسالته، ويوضح مضمن قوله { { لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم } [النور: 63] من عظيم قدره صلى الله عليه وسلم وعليّ جلالته، أتبعه سبحانه بقوله { تبارك الذي نزل الفرقان على عبده } [الفرقان: 1] وهو القرآن الفارق بين الحق والباطل، والمطلع على ما أخفاه المنافقون وأبطنوه من المكر والكفر { ليكون للعالمين نذيراً } [الفرقان: 1] فيحذرهم من مرتكبات المنافقين والتشبه بهم؛ ثم تناسج الكلام، والتحم جليل المعهود من ذلك النظام، وتضمنت هذه السورة من النعي على الكفار والتعريف ببهتهم وسوء مرتكبهم ما لم يتضمن كثير من نظائرها كقولهم { مالِ هَٰذَا الرسول يأكل الطعام } [الفرقان: 7] الآيات، وقولهم { { لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا } [الفرقان: 21] وقولهم { لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة } } [الفرقان: 32] وقولهم { وما الرحمن } [الفرقان: 60] إلى ما عضد هذه وتخللها، ولهذا ختمت بقاطع الوعيد، وأشد التهديد، وهو قوله سبحانه { { فقد كذبتم فسوف يكون لزاماً } [الفرقان: 77] انتهى.
ولما تقدم ذكر منزل الفرقان سبحانه، وذكر الفرقان والمنزل عليه على طريق الإجمال، أتبع ذلك تفصيله على الترتيب، فبدأ بوصف المنزل سبحانه بما هو أدل دليل على إرادة التعميم في الرسالة لكل من يريد، فقال: { الذي له } أي وحده { ملك السماوات والأرض } فلا إنكار لأن يرسل رسولاً إلى كل من فيهما { ولم يتخذ ولداً } ليتكبر على رسوله { ولم يكن له شريك في الملك } ليناقضه في الرسالة أو يقاسمه إياها، فيكون بعض الخلق خارجاً عن رسالته، أو مراعياً لأمر غير أمره.
ولما كان وقوف الشيء عند حد - بحيث لا يقدر أن يتعداه إلى حد شيء آخر سواه، فهذا حيوان لا يقدر على جعل نفسه جماداً ولا أعلى من الحيوان، وهذا جماد لا يمكنه جعل نفسه حيواناً ولا أسفل من رتبة الجماد إلى غير ذلك مما يعجز الخلق عن شرحه دالاً على أنه مخلوق مربوب، قال تعالى: { وخلق } أي أحدث إحداثاً مراعى فيه التقدير والتسوية { كل شيء } أي مما ادعى فيه الولدية أو الشرك وغيره.
ولما كان قد سوى كل شيء لما يصلح له وهيأه لذلك، قال شارحاً ومحققاً لمعنى "خلق": { فقدره } في إيجاده من غير تفاوت { تقديراً* } أي لا يمكن ذلك الشيء مجاوزته فيما خلق لأجله وهيىء ويسر له إلى غيره بوجه من الوجوه.
ولما ذكرهم بما ركز في فطرهم من العلم، عجب منهم لكل ذي عقل في جملة حالية فيما خالفوا ما لهم من المشاهدة، فقال مضمراً للفاعل إشارة إل استهجان نسبة هذا الفعل إلى فاعل معين توبيخاً لهم وإرشاداً إلى المبادرة من كل سامع إلى نفيه عنه فقال: { واتخذوا } أي كلف أنفسهم عبدة الأوثان أن أخذوا.
ولما كان علوه لا يحد، فكانت الرتب السافلة لا تحصى، نبه على ذلك بالجار فقال: { من دونه } أي بعد ما قام من الدليل على أنه الإله وحده من الحيثيات التي تقدمت { آلهة } المتحدون مشاهدون لأنهم كما قال تعالى: { لا يخلقون شيئاً } أي لا أعجز منهم، لا يكون منهم إيجاد شيء، فيهم دون من عبدهم.
ولما كان المتعنت ربما ادعى أنهم مع ذلك غير مخلوقين قال: { وهم يخلقون } أي بما يشاهد فيهم من التغير والطواعية لمشيئته سبحانه، ومن ذلك أن عبدتهم افتعلوهم بالنحت والتصوير. ولما قرر أنه أنعم على كل شيء، وكانت النعم أكثر وجوداً، وكان أدنى نعمة على الشيء خلقه سبحانه له، أخبر أن ذلك الغير لا يقدر على ضر نفسه ولا بالإعدام، فقال معبراً بأداة العقلاء تهكماً بعابديهم حيث أقاموهم في ذلك المقام، أو تغليباً لأنهم عبدوا الملائكة وعزيراً والمسيح عليهم السلام: { ولا يملكون } أي لا يتجدد لهم بوجه من الوجوه أن يملكوا { لأنفسهم ضراً } ولذلك قدمه، ونكره ليعم.
فلما ثبت بذلك أنهم خلقه، ولكن كان ربما قال متعنت: إنهم يملكون ذلك ولكنهم يتركونه عمداً، لأن أحداً لا يريد ضر نفسه، قال: { ولا نفعاً } أي ولو بالبقاء على حالة واحدة، وعبدتهم يقدرون على ما أراد الله من ذلك على وجه الكسب، فهم أعلى منهم وعبادة الأعلى لمن دونه ليست من أفعال العقلاء.
ولما كان الموت والحياة ما ليس لغيرهما من عظيم الشأن، أعاد العامل فقال: { ولا يملكون } وقدم الموت لأن الحياة أكثر، فقال مبتدئاً بما هو من باب الضر على نسق ما قبله: { موتاً } أي لأنفسهم ولا لغيرهم { ولا حياة } أي من العدم { ولا نشوراً* } أي إعادة لما طوي من الحياة بالموت، وعطفها بالواو وإن كان بعضها مسبباً عما قبله إشارة إلى أن كل واحدة منها كافية في سلب الإلهية عنهم بما ثبت من العجز.