التفاسير

< >
عرض

أَوْفُواْ ٱلْكَيْلَ وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ ٱلْمُخْسِرِينَ
١٨١
وَزِنُواْ بِٱلْقِسْطَاسِ ٱلْمُسْتَقِيمِ
١٨٢
وَلاَ تَبْخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي ٱلأَرْضِ مُفْسِدِينَ
١٨٣
وَٱتَّقُواْ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ وَٱلْجِبِلَّةَ ٱلأَوَّلِينَ
١٨٤
قَالُوۤاْ إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ ٱلْمُسَحَّرِينَ
١٨٥
وَمَآ أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ ٱلْكَاذِبِينَ
١٨٦
فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ
١٨٧
قَالَ رَبِّيۤ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ
١٨٨
فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ ٱلظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ
١٨٩
-الشعراء

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما كان كأنه قيل: ما الذي تنعى فيه؟ قال: مبيناً أن داءهم حب المال، المفضي لهم إلى سوء الحال، { أوفوا الكيل } أي أتموه إتماماً لا شبهة فيه إذا كلتم كما توفونه إذا اكتلتم لأنفسكم. ولما أمرهم بالإيفاء نهاهم عن النقص على وجه أعم فقال: { ولا تكونوا } أي كوناً هو كالجبلة، ولعله إشارة إلى ما يعرض من نحو ذلك من الخواطر أو الهيئات التي يغلب الإنسان فيها الطبع ثم يرجع عنها رجوعاً يمحوها، ولذلك قال: { من المخسرين* } أي الذين يخسرون - أي ينقصون - أنفسهم أديانها بإخسار الناس دنياهم بنقص الكيل أو غيره من أنواع النقص من كل ما يوجب الغبن، فتكونوا مشهورين بذلك بين من يفعله.
ولما أمر بوفاء الكيل، أتبعه بمثل ذلك في الوزن، ولم يجمعهما لما للتفريق من التعريف بمزيد الاهتمام فقال: { وزنوا } أي لأنفسكم وغيركم { بالقسطاس } أي الميزان الأقوم؛ وأكد معناه بقوله: { المستقيم* }.
ولما أمر بالوفاء في الوزن، أتبعه نهياً عن تركه عاماً كما فعل في الكيل ليكون آكد فقال: { ولا تبخسوا } أي تنقصوا { الناس أشياءهم } أي في كيل أو وزن أو غيرهما نقصاً يكون كالسبخة لا فائدة فيه. ثم أتبع ذلك بما هو أعم منه فقال: { ولا تعثوا } أي تتصرفوا { في الأرض } عن غير تأمل حال كونكم { مفسدين* } أي في المال أو غيره، قاصدين بذلك الإفساد - كما تقدم بيانه في سورة هود عليه السلام.
ولما وعظهم فابلغ في وعظهم بما ختمه بالنهي عن الفساد، خوفهم من سطوات الله تعالى ما أحل بمن هو أعظم منهم فقال: { واتقوا الذي خلقكم } أي فإعدامكم أهون شيء عليه، وأشار إلى ضعفهم وقوة من كان قبلهم بقوله: { والجبلة } أي الجماعة والأمة { الأولين* } الذين كانوا على خلقة وطبيعة عظيمة كأنها الجبال قوة وصلابة لا سيما قوم هود عليه السلام الذين هم عرب مثلكم، وقد بلغت بهم الشدة في أبدانهم، والصلابة في جميع أركانهم، إلى أن قالوا
{ من أشد منا قوة } [فصلت: 15] وقد بلغكم ما أنزل بهم سبحانه من بأسه، لأن العرب أعلم الناس بأخبارهم.
ولما كان الحاصل ما مضى الإعلام بالرسالة، والتحذير من المخالفة، لأنها تؤدي إلى الضلالة إلى أن ختم ذلك بالإشارة بالتعبير بالجبلة إلى أن عذابه تعالى عظيم، لا يستعصي عليه صغير ولا كبير، أجابوه بالقدح في الرسالة أولاً، وباستصغار الوعيد ثانياً، بأن { قالوا إنما أنت من المسحرين* } أي الذين كرر سحرهم مرة بعد أخرى حتى اختبلوا، فصار كلامهم على غير نظام، أو من المعللين بالطعام والشراب كما مضى في صالح عليه السلام، أي فأنت بعيد من الصلاحية للرسالة: ثم أشاروا إلى عدم صلاحية البشر مطلقاً لها ولو كانوا أعقل الناس وأبعدهم عن الآفة بقولهم، عاطفين بالواو إشارة إلى عراقته فيما وصفوه به من جهة السحر والسحر، وأنه لا فرق بينه وبينهم: { وما أنت إلا بشر مثلنا } أي فلا وجه لتخصيصك عنا بذلك، والدليل على أن عطف ذلك أبلغ من إتباعه من غير عطف جزمهم بظن كذبه في قولهم؛ { وإن } أي وإنّا { نظنك لمن الكاذبين* } أي العريقين في الكذب - هذا مذهب البصريين في أن { إن } مخففة من الثقيلة، والذي يقتضيه السياق ترجح مذهب الكوفيين هنا في أن { إن } نافية، فإنهم أرادوا بإثبات الواو في { وما } المبالغة في نفي إرساله بتعداد ما ينافيه، فيكون مرادهم أنه ليس لنا ظن يتوجه إلى غير الكذب، وهو أبلغ من إثبات الظن به، ويؤيده تسبيبهم عنه سؤاله استهزاء به وتعجيزاً له إنزال العذاب بخلاف ما تقدم عن قوم صالح عليه السلام، فقالوا: { فأسقط علينا كسفاً } بإسكان السين على قراءة الجماعة وفتحها في رواية حفص، وكلاهما جمع كسفة، أي قطعاً { من السماء } أي السحاب، أو الحقيقة، وهذا الطلب لتصميمهم على التكذيب، ولو كان فيهم أدنى ميل إلى التصديق لما أخطروه ببالهم فضلاً عن طلبه ولا سيما كونه على وجه التهكم، ولذلك قالوا: { إن كنت } أي كوناً هو لك كالجبلة { من الصادقين* } أي العريقين في الصدق، المشهورين فيما بين أهله، لنصدقك فيما لزم من أمرك لنا باتخاذ الوقاية من العذاب من التهديد بالعذاب، وما أحسن نظره إلى تهديده لهم بما لله عليهم من القدرة في خلقهم وخلق من كانوا أشد منهم قوة وإهلاكهم بأنواع العذاب لما عصوه بتكذيب رسله.
ولما كان عذاب العاصي يتوقف على العلم المحيط بأعماله، والقدرة على نكاله، استأنف تعالى الحكاية عنه في تنبيهه لهم على ذلك بقوله: { قال } مشيراً إلى أنه لا شيء من ذلك إلا إلى من أرسله، وهو متصف بكلا الوصفين، وأما هو فإنه وإن كان عالماً فهو قاصر العلم فهو غير قادر: { ربي أعلم } أي مني { بما تعملون* } لأنه محيط العلم فهو شامل القدرة، فهو يعلم استحقاقكم للعذاب، ومقدار ما تستحقون منه ووقت إنزاله، فإن شاء عذبكم، وأما أنا فليس عليّ إلا البلاغ وأنا مأمور به، فلم أخوفكم من نفسي ولا ادعيت قدرة على عذابكم، فطلبكم ذلك مني ظلم منكم مضموم إلى ظلمكم بالتكذيب.
ولما كان محط كلامهم كله على تكذيبهم له من غير قدح في قدرة الخالق، سبب العذاب عن تكذيبهم فقال: { فكذبوه } أي استمروا على تكذيبه { فأخذهم } أي أخذ ملاك { عذاب يوم الظلة } وهي سحابة على نحو ما طلبوا من قطع السماء، أتتهم بعد حر شديد نالهم حتى من الأسراب في داخل الأرض أشد مما نالهم من خارجها ليعلم أن لا فاعل إلا الله، وأنه يتصرف كيف شاء على مقتضى العادة وغير مقتضاها فوجدوا من تلك الظلة نسيماً بارداً، وروحاً طيباً، فاجتمعوا تحتها استرواحاً إليها واستظلالاً بها، فأمطرت عليهم ناراً فاحترقوا بنحو مما اقترحوا وأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا، فنفذت فيهم سهام القدرة. ولم يجدوا من دونها وقاية ولا سترة من غير أن تدعو حاجة إلى سقوط شيء من جرم السماء، ولا بما دونها من العماء.
ولما كان الحال موجباً للسؤال عن يوم الظلة، قال تعالى مهوّلاً لأمره ومعظماً لقدره: { إنه كان } فأكد بـ "إن" وعظم بـ "كان" { عذاب يوم عظيم* } وزاده عظماً بنسبته إلى اليوم فصار له من الهول، ببديع هذا القول، ما تجب له القلوب وتعظم الكروب.