التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَٱعْبُدُوهُ هَـٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ
٥١
فَلَمَّآ أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنْهُمُ ٱلْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِيۤ إِلَى ٱللَّهِ قَالَ ٱلْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ ٱللَّهِ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَٱشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ
٥٢
رَبَّنَآ آمَنَّا بِمَآ أَنزَلَتَ وَٱتَّبَعْنَا ٱلرَّسُولَ فَٱكْتُبْنَا مَعَ ٱلشَّٰهِدِينَ
٥٣
وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَاكِرِينَ
٥٤
إِذْ قَالَ ٱللَّهُ يٰعِيسَىٰ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوكَ فَوْقَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ
٥٥
فَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ
٥٦
وَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلظَّالِمِينَ
٥٧
ذٰلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَٱلذِّكْرِ ٱلْحَكِيمِ
٥٨
-آل عمران

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما كان كأنه قيل: ما تلك الآية التي سميتها "آية" بعد ما جئت به من الأشياء الباهرة قال: { إن الله } الجامع لصفات الكمال { ربي وربكم } أي خالقنا ومربينا، أنا وأنتم في ذلك شرع واحد، وقراءة من فتح { إن } أظهر في المراد { فاعبدوه هذا } أي الذي دعوتكم إليه { صراط مستقيم * } أنا وأنتم فيه سواء، لا أدعوكم إلى شيء إلا كنت أول فاعل له، ولا أدعي أني إله ولا أدعو إلى عبادة غير الله تعالى كما يدعي الدجال ويغره من الكذبة الذين تظهر الخوارق على أيديهم امتحاناً من الله سبحانه وتعالى لعباده فيجعلونها سبباً للعلو في الأرض والترفع على الناس، وجاء بالتحذير منهم وتزييف أحوالهم الأنبياء، وإلى هذا يرشد قول عيسى عليه السلام فيما سيأتي عن إنجيل يوحنا أن من يتكلم من عنده إنما يطلب المجد لنفسه، فأما الذي يطلب مجد الذي أرسله فهو صادق وليس فيه ظلم؛ وإلى مثل ذلك أرشدت التوراة فإنه جعل العلامة على صدق الصادق وكذب الكاذب الدعوة، فمن كانت دعوته إلى الله سبحانه وتعالى وجب تصديقه، من كذبه هلك، ومن دعا إلى غيره وجب تكذيبه، ومن صدقه هلك؛ قال في السفر الخامس منها: وإذا دخلتم الأرض التي يعطيكم الله ربكم فلا تعملوا مثل أعمال تلك الشعوب، ولا يوجد فيكم من يقبر ابنه أو ابنته في النار نذراً للأصنام، ولا من يطلب تعليم العرافين، ولا من يأخذ بالعين، ولا يوجد فيكم من يتطير طيرة، ولا ساحر، ولا من يرقى رقية، ولا من ينطلق إلى العرافين والقافة فيطلب إليهم ويسألهم عن الموتى، لأن كل من يعمل هذه الأعمال هو نجس بين يدي الله ربكم، ومن أجل هذه النجاسة يهلك الله هذه الشعوب من بين أيديكم؛ ولكن كونوا متواضعين مخبتين أما الله ربكم، لأن هذه الشعوب التي ترثونها كانت تطيع العرافين والمنجمين، فأما أنتم فليس هكذا يعطيكم الله ربكم، بل يقيم لكم نبياً من إخوتكم مثلي، فأطيعوا ذلك النبي كما أطعتم الله ربكم في حوريب يوم الجماعة وقلتم: لا نسمع صوت الله ربنا ولا نعاين هذه النار العظيمة لئلا نموت، فقال الرب: ما أحسن ما تكلموا! سأقيم لهم نبياً من إخوتهم مثلك وأجري قولي فيه ويقول لهم ما آمره به، والرجل الذي لا يقبل قول النبي الذي يتكلم باسمي أنا أنتقم منه، فأما النبي الذي يتكلم ويتجرأ باسمي ويقول ما لم آمره أن يقوله ويتكلم بأسماء الآلهة الأخرى ليقتل ذلك النبي، وإن قلتم في قلوبكم: كيف لنا أن نعرف القول الذي لم يقله الرب، إذا تكلم ذلك النبي باسم الرب فلم يكمل قوله: ولم يتم فلذلك القول لم يقله الرب ولكن تكلم ذلك النبي جراءة وصفاقة وجه، فلا تخافوه ولا تفزعوا منه؛ وقال قبل ذلك بقليل: وإذا أهلك الله الشعوب التي تنطلقون إليها وأبادهم م نبين أيديكم وورثتموهم وسكنتم أرضهم، احفظوا، لا تتبعوا آلهتهم من بعد ما يهلكهم الله من بين أيديكم، ولا تسألوا عن آلهتهم ولا تقولوا: كيف كانت هذه الشعوب تعبد آلهتها حتى نفعل نحن مثل فعلها؟ ولا تفعلوا مثل فعالها أمام الله ربكم، لأنهم عملوا بكل ما أبغض الله وأحرقوا بنيهم وبناتهم لآلهتهم، ولكن القول الذي آمركم به إياه احفظوا وبه اعملوا! لا تزيدوا ولا تنقصوا منه شيئاً فإن قام بينكم نبي أو من يفسر أحلاماً وعمل آية أو عجيبة ويقول: اقبلوا بنا نعبد الآلهة الأخرى التي لا تعرفونها ونتبعها - لا يقبل قول ذلك النبي وصاحب الأحلام، لأنه إنما يريد، أن يجربكم ليعلم هل تحبون الله ربكم، احفظوا وصاياه واتقوا واسمعوا قوله واعبدوه والحقوا به، فأما ذلك النبي وذلك الذي تحلّم الأحلام فليقتل، لأنه نطق بإثم أمام الله ربكم الذي أخرجكم من أرض مصر وخلصكم من العبودية, فأراد أن يضلكم عن الطريق الذي أمركم الله ربكم أن تسيروا فيه، واستأصلوا الشر من بينكم، وإن شوقك أخوك ابن أمك وأبيك أو ابنتك أو حليلتك أو صديقك ويقول لك: هلم بنا نتبع الآلهة الأخرى التي لم تعرفها أنت ولا آباؤك من آلهة الشعوب التي حولكم - القريبة منكم والبعيدة - ومن أقطار الأرض إلى أقصاها - لا تقبل قوله ولا تطعه ولا تشفق عليه ولا ترحمه ولا تلتمّ عليه ولا تتعطف عليه، ولكن اقتله قتلاً، وابدأ به أنت قتلاً، ثم يبدأ به جميع الشعوب، وارجموه بالحجارة وليمت، لأنه أراد أن يضلك عن عبادة الله ربك الذي أخرجك من أرض مصر وخلصك من العبودية، ويسمع بذلك جميع بني إسرائيل، ويفزعون فلا يعودوا أن يعملوا مثل هذا العمل السوء بينكم، وإذا سمعتم أن في قرية من القرى التي أعطاكم الله قوماً قد ارتكبوا خطيئة وأضلوا أهل قريتهم وقالوا لهم: ننطلق فنعبد آلهة أخرى لم تعرفوها، ابحثوا نعماً وسلوا حسناً، إن كان القول الذي بلغكم يقيناً وفعلت هذه النجاسة في تلك القرية اقتلوا أهل تلك القرية بالسيف، واقتلوا كل من فيها من النساء والصبيان والبهائم بالسيف، واجمعوا جميع نهبها خارج القرية وأحرقوا القرية بالنار وأحرقوا كل نهبها أما الله ربكم، وتصير القرية تلاً خراباً إلى الأبد ولا تبنى أيضاً، ولا يلصق بأيديكم من خرابها شيء ليصرف الرب غضبه عنكم ويعطف عليكم ويفيض رحمته عليكم ويجيبكم ويرحمكم ويكثركم كما قال لآبائكم؛ هذا إن أنتم سمعتم قول الله ربكم، وحفظتم وصاياه التي أمرتكم بها اليوم، وعملتم الحسنات أمام الله ربكم، فإذا فعلتم هذا صرتم لله ربكم، لا تأثموا ولا تصيروا شبه الوحش ولا تخدشوا وجوهكم وبين أعينكم على الميت، لأنكم شعب طاهر لله ربكم، وإياكم اختار الله ربكم أن تكونوا له شعباً حبيباً أفضل من جميع شعوب الأمم - انتهى.
فقد تبين من هذا كله أن عيسى عليه الصلاة والسلام مصدق للتوراة في الدعاء إلى توحيد الله سبحانه وتعالى وأن الآية الكبرى على صدق النبي الحق اختصاصه الله تعالى بالدعوة وتسويته بين نفسه وجميع من يدعوه في الإقبال عليه والتعبد له والتخشع لديه، وأن الآية على كذب الكاذب دعاؤه إلى غير الله؛ وفي ذلك وأمثاله مما سيأتي عن الإنجيل في سورة النساء تحذير من الدجال وأمثاله، فثبت أن المراد بالآية في هذه الآية ما قدمته من الإخبار بأن الله سبحانه وتعالى رب الكل والأمر بعبادته، وهذا كما يأتي من أمر الله سبحانه وتعالى لنبينا صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى:
{ قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم } [آل عمران: 64] إلى قوله: { ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله } [آل عمران: 64].
ولما ختم سبحانه وتعالى هذه البشارة بالآية القاطعة القويمة الجامعة، وكان قوله: في أول السورة { يصوركم في الأرحام كيف يشاء } وقوله هنا { يخلق ما يشاء } مغنياً عن ذكر حملها، طواه وأرشد السياق حتماً إلى أن التقدير: فصدق الله فيما قال لها، فحملت به من غير ذكر فولدته - على ما قال سبحانه وتعالى - وجيهاً وكلم الناس في المهد وبعده، وعلمه الكتاب والحكمة وأرسله إلى بني إسرائيل، فأتم لهم الدلائل ونفى الشبه على ما أمره به الذي أرسله سبحانه وتعالى وعلموا أنه ناسخ لا مقرر، فتابعه قوم وخالفه آخرون فغطوا جميع الآيات وأعرضوا عن الهدى والبينات، ونصبوا له الأشراك والحبائل وبغوه الدواهي والغوائل، فضلوا على علم وظهر منهم الكفر البين واعوجوا عن الصراط المستقيم عطف عليه قوله مسلياً لهذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: { فلما أحس } قال الحرالي: من الإحساس وهو منال الأمر بادراً إلى العلم والشعور الوجداني - انتهى { عيسى منهم الكفر } أي علمه علم من شاهد الشيء بالحس ورأى مكرهم على ذلك يتزايد وعنادهم يتكاثر بعد أن علم كفرهم علماً لا مرية فيه، فاستغاث بالأنصار وعلم أن منجنون الحرب قد دار، فعزم على إلحاقهم دار البوار { قال من أنصاري }.
ولما كان المقصود ثبات الأنصار معه إلى أن يتم أمره عبر عن ذلك بصلة دلت على تضمين هذه الكلمة كلمة توافق الصلة فقال: { إلى } أي سائرين أو واصلين معي بنصرهم إلى { الله } أي الملك الأعظم { قال الحواريون } قال الحرالي: جمع حواري وهو المستخلص نفسه في نصرة من تحق نصرته بما كان من إيثاره على نفسه بصفاء وإخلاص لا كدر فيه ولا شوب - انتهى. وهو مصروف لأن ياءه عارضة { نحن أنصار الله } أي الذي أرسلك وأقدرك على ما تأتي به من الآيات، فهو المحيط بكل شيء عزة وعلماً، ثم صححوا النصرة وحققوا بأن عللوا بقولهم: { آمنا بالله } أي على ما له من صفات الكمال، ثم أكدوا ذلك بقولهم مخاطبين لعيسى عليه الصلاة والسلام رسولهم أكمل الخق إذ ذاك: { واشهد بأنا مسلمون * } أي منقادون لجميع ما تأمرنا به كما هو حق من آمن لتكون شهادتك علينا أجدر لثباتنا ولتشهد لنا بها يوم القيامة.
ثم لما خاطبوا الرسول أدباً ترقوا إلى المرسل في خطابهم إعظاماً للأمر وزيادة في التأكيد فقالوا مسقطين لأداة النداء استحضاراً لعظمته بالقرب لمزيد القدرة وترجي منزلة أهل الحب: { ربنا آمنا بما أنزلت } أي على ألسنة رسلك كلهم { واتبعنا الرسول } الآتي إلينا بذلك معتقدين رسالته منك وعبوديته لك { فاكتبنا } لتقبّلك شهادتنا واعتدادك بها { مع الشاهدين * } أي الذين قدمت أنهم شهدوا لك بالوحدانية مع الملائكة، ولعله عقب ذلك بقوله: { ومكروا } المعطوف على قوله: { قال من أنصاري إلى الله } بالإضمار الصالح لشمول كل من تقدم له ذكر إشارة إلى أن التمالؤ عليه يصح أن ينسب إلى المجموع من حيث هو مجموع، أما مكر اليهود فمشهور، وأما الحواريون الاثنا عشر فنقض أحدهم وهو الذي تولى كبر الأمر وجر اليهود إليه ودلهم عليه - كما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى في سورة النساء، وترتيب المكر على الشرط يفهم أنهم لما علموا إحساسه بفكرهم خافوا غائلته فأعملوا الحيلة في قتله. والمكر - قال الحرالي - إعمال الخديعة والاحتيال في هدم بناء ظاهر كالدنيا، والكيد أعمال الخدعة والاحتيال في هدم بناء باطن كالتدين والتخلق وغير ذلك، فكان المكر خديعة حس والكيد خديعة معنى - انتهى. ثم إن مكرهم تلاشى واضمحل بقوله: { ومكر الله } أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً.
ولما كان المقام لزيادة العظمة أظهر ولم يضمر لئلا يفهم الإضمار خصوصاً من جهة ما فقال: { والله } أي والحال أنه الذي له هذا الاسم الشريف فلم يشاركه فيه أحد بوجه { خير الماكرين * } بإرادته تأخير حربه لهم إلى وقت قضاه في الأزل فأمضاه, وذلك عند مجيء الدجال بجيش اليهود فيكون أنصاره الذين سألهم ربه هذه الأمة تشريفاً لهم، ثم بين ما فعله بهم من القضاء الذي هو على صورة المكر في كونه أذى يخفى على المقصود به بأنه رفعه إليه وشبه ذلك عليهم حتى ظنوا أنهم صلبوه وإنما صلبوا أحدهم، ويقال: إنه الذي دلهم، وأما هو عليه الصلاة والسلام فصانه عنده بعد رفعه إلى محل أوليائه وموطن قدسه لينزله في آخر الزمان لاستئصالهم بعد أن ضرب عليهم الذلة بعد قصدهم له بالأذى الذى طلبوا به العز إلى آخر الدهر فكان تدميرهم في تدبيرهم، وذلك أخفى الكيد فقال تعالى مخبراً عن ذلك على وجه مبشر له بأنه عاصمه من أن يقتلوه ومميته حتف أنفه: { إذ } أي مكر حين { قال الله } أي ما له من التفرد بصفات الكمال { يا عيسى إني متوفيك } وعبر عن ذلك بطريق الكناية الإيمائية فإن عصمته من قتل الكفار ملزومة للموت حتف الأنف، وأما قول الزمخشري: أي مستوفى أجلك ومعناه: إني عاصمك من أن يقتلك الكفار، ومؤخرك إلى أجل كتبته لك، ومميتك حتف أنفك لا قتلاً بأيديهم - ليكون كناية تلويحية عن العصمة من القتل لأنها ملزومة لتأخيره إلى الأجل المكتوب والتأخير ملزوم للموت حتف الأنف - فلا ينبغي الاغترار به لأنه مبني على مذهب الاعتزال من أن القاتل قطع أجل المقتول المكتوب، وكأن القاضي البيضاوي لم يتفطن له فترجم هذه العبارة بما يؤديها؛ ويجوز أن يكون معنى متوفيك: آخذك إليّ من غير أن يصلوا منك إلى محجم دم ولا ما فوقه من عضو ولا نفس فلا تخش مكرهم. قال في القاموس: أوفى فلاناً حقه: أعطاه وافياً، كوفّاه ووافاه فاستوفاه وتوفاه.
ثم زاد سبحانه وتعالى في بشارته بالرفعة إلى محل كرامته وموطن ملائكته ومعدن النزاهة عن الأدناس فقال: { ورافعك } وزاد إعظام ذلك بقوله: { إليّ ومطهرك من الذين كفروا }.
ولما كان لذوي الهمم العوال، أشد التفات إلى ما يكون عليه خلائفهم بعدهم من الأحوال، بشره سبحانه وتعالى في ذلك بما يسره فقال: { وجاعل الذين اتبعوك } أي ولو بالاسم { فوق الذين كفروا } أي ستروا ما يعرفون من نبوتك بما رأوا من الآيات التي أتيت بها مطابقة لما عندهم من البشائر بك { إلى يوم القيامة } وكذا كان، لم يزل من اتسم بالنصرانية حقاً أو باطلاً فوق اليهود، ولا يزالون كذلك إلى أن يعدموا فلا يبقى منهم أحد.
ولما كان البعث عاماً دل عليه بالالتفات إلى الخطاب فقال تكميلاً لما بشر به من النصرة: { ثم إليّ مرجعكم } أي المؤمن والكافر في الآخرة { فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون * } ثم فصل له الحكم فقال مرهباً لمخالفيه مرغباً لموافقيه، وقدم المخالفين لأن السياق لبيان إذلالهم: { فإما الذين كفروا } أي من الطائفتين { فأعذبهم عذاباً شديداً في الدنيا } بالذل والهوان والقتل والأسر { والآخرة } بالخزي الدائم { وما لهم من ناصرين * } وإن كثر عددهم ولم يقل: وأما الذين اتبعوك - لئلا يلتبس الحال وإن كان من اتبع النبي الأمي فقد اتبعه في بشارته به والأمر باتباعه, بل قال: { وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات } لأن هذه ترجمة الذين اتبعوه حق الاتباع.
ولما كان تمام الاعتناء بالأولياء متضمناً لغاية القهر للأعداء أبدى في مظهر العظمة قوله تعظيماً لهم وتحقيراً لأعدائهم: { فيوفيهم أجورهم } أي نحبهم من غير أن نبخسهم منها شيئاً, أو نظلم أحداً من الفريقين في شيء, فإن الله سبحانه وتعالى متعال عن ذلك { والله } الذي له الكمال كله { لا يحب الظالمين * } من كانوا، أي لا يفعل معهم فعل المحب، فهو يحبط أعمالهم لبنائها على غير أساس الإيمان، فالآية من الاحتباك، ونظمها على الأصل: فنوفيهم لأنا نحبهم والله يحب المؤمنين، والذين ظلموا نحبط أعمالهم لأنا لا نحبهم والله لا يحب الظالمين؛ فتوفية الأجر أولاً ينفيها ثانياً، وإثبات الكراهة ثانياً يثبت ضدها أولاً، وحقيقة الحال أنه أثبت للمؤمنين لازم المحبة المراد منها في حق الله سبحانه وتعالى لأنه أسّر، ولازم المراد من عدمها في الظالمين لأنه أنكأ.
ولما أتم سبحانه وتعالى ما أراد من أمر عيسى عليه الصلاة والسلام من ابتداء تكوينه إلى انتهاء رفعه وما كان بعده من أمر أتباعه مشيراً بذلك إلى ما فيه من بدائع الحكم وخزائن العلوم واللطائف المتنزلة على مقادير الهمم على أتقن وجه وأحكمه وأتمه وأخلصه وأسلمه، وختمه بالتنفير من الظلم، وكان الظلم وضع الشيء في غير موضعه، وكان هذا القرآن العظيم قد حاز من حسن الترتيب ورصانة النظم بوضع كل شيء منه لفظاً ومعنى في محله الأليق به المحل الأعلى، لا سيما هذه الآيات التي أتت بالتفصيل من أمر عيسى عليه الصلاة والسلام، فلم تدع فيه شكاً ولا أبقت شبهة ولا لبساً، أتبع ما تقدم من تفصيل الآيات البينات قوله منبهاً على عظمة هذه الآيات الشاهدات الآتي بها صلى الله عليه وسلم بأوضح الصدق بإعجازها في نظمها وفي العلم بمضامينها من غير معلم من البشر كما تقدم نحو ذلك في
{ { ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك } { هود: 49] { ذلك } أي النبأ العظيم والأمر الجسيم الذي لم تكن تعلم شيئاً منه ولا علمه من شبان قومك { نتلوه } أي نتابع قصه بما لنا من العظمة { عليك } وأنت أعظم الخلق حال كونه { من الآيات } أي التي لا إشكال فيها، ويجوز أن يكون خبر اسم الإشارة، { والذكر الحكيم * } إشارة إلى ذلك لأن الحكمة وضع الشيء في أعدل مواضعه وأتقنها، وأشار بأداة البعد تنبيهاً على علو منزلته ورفيع قدره.