التفاسير

< >
عرض

يٰحَسْرَةً عَلَى ٱلْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ
٣٠
أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ ٱلْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ
٣١
وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ
٣٢
وَآيَةٌ لَّهُمُ ٱلأَرْضُ ٱلْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ
٣٣
-يس

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما أخبر عنهم سبحانه بما هو الحق من أمرهم، ورغبهم بما ضرب لهم من المثل ورهبهم ولم ينفعهم ذلك، أنتج التأسيف عليهم وعلى الممثل بهم ومن شابههم فقال تعالى: { يا حسرة } أي هذا الحال مستحق لملازمة حسرة عظيمة { على العباد } فكأنه قيل لها: تعالى فهذا من أحوالك التي حقك أن تحضري فيها، فإن هؤلاء أحقاء بأن يتحسر عليهم، والحسرة: شدة الندم على ما فات، فأحرق فقده وأعيى أمره، فلا حيلة في رده، ويجوز أن يكون المعنى أن العباد - لكثرة ما يعكسون من أعمالهم - لا تفارقهم أسباب الحسرة ولا حاضر معهم غيرها، فلا نديم لهم إلا هي، ولا مستعلي عليهم وغالب لهم سواها.
ولما كان كأنه قيل: أيّ حال؟ قال مبيناً له ومعللاً للتحسر بذكر سببه: { ما يأتيهم } وأعرق في النفي والتعميم بقوله: { من رسول } أي رسول كان في أيّ وقت كان { إلا كانوا به } أي بذلك الرسول { يستهزءون * } أي يوجدون الهزء، والرسل أبعد الخلق من الهزء حالاً ومقالاً وفعالاً، ومن الواضح أن المستهزئ بمن هذا حاله هالك فهو جدير بملازمة الحسرة وأن يتحسر عليه.
ولما أتم سبحانه الخبر عن أول أمر الممثل بهم وأول أمر المؤمن بهم وآخره، وأذن هذا التحسر بأن هلاك المكذبين أمر لا بد منه، دل عليه معجباً عن عدم نظرهم لأنفسهم ومهدداً للسامعين منهم، ومحذراً من آخر أمر الممثل بهم على وجه اندرج فيه جميع الأمم الماضية والطوائف الخالية بقوله: { ألم يروا } أي يعلم هؤلاء الذين تدعوهم علماً هو كالرؤية بما صح عندهم من الأخبار وما شاهدوه من الآثار: { كم أهلكنا } على ما لنا من العظمة، ودل قوله: { قبلهم } - بكونه ظرفاً لم يذكر فيه الجار - على أن المراد جميع الزمان الذي تقدمهم من آدم إلى زمانهم، وإدخال الجار على المهلكين يدل على أن المراد بعضهم، فرجع حاصل ذلك إلى أن المراد: انظروا جميع ما مضى من الزمان هل عذب فيه قوم عذاب الاستئصال إلا بسبب عصيان الرسل فقال: { من القرون } أي الكثيرة الشديدة الضخمة، والقرن - قال البغوي: أهل كل عصر سموا بذلك لاقترانهم في الوجود { أنهم } أي لأن القرون.
ولما كان المراد من رسول ليس واحداً بعينه، وكانت صيغة فعول كفعيل يستوي فيها المذكر والمؤنث والواحد والجمع، أعاد الضمير للجميع فقال: { إليهم } أي إلى الرسل خاصة من حيث كونهم رسلاً { لا يرجعون * } أي عن مذاهبهم الخبيثة، ويخصون الرسل بالاتباع فلا يتبعون غيرهم أصلاً في شيء من الأشياء الدينية او الدنيوية فاطردت سنتنا ولن تجد لسنتنا تبديلاً في أنه كلما كذب قوم رسولهم أهلكناهم ونجينا رسولهم ومن تبعه، أفلا يخاف هؤلاء أن نجريهم على تلك السنة القديمة القويمة فـ "إن" تعليلية على إرادة حذف لام العلة كما هو معروف في غير موضع، وضمير { أنهم } للمرسل إليهم، وضمير { إليهم } للرسل، لا يشك في هذا من له ذوق سليم وطبع مستقيم، والتعبير بالمضارع للدلالة على إمهالهم والتأني بهم والحلم عنهم مع تماديهم في العناد بتجديد عدم الرجوع، و { يرجعون } هنا نحو قوله تعالى
{ { ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون } [السجدة: 21] أي عن طرقهم الفاسدة - وهذا معنى الآية بغير شك، وليس بشيء قول من قال: المعنى أن المهلكين لا يرجعون إلى الدنيا ليفيد الرد على من يقول بالرجعة لأن العرب ليست ممن يعتقد ذلك، ولو سلم لم يحسن، لأن السياق ليس له، لم يتقدم عنهم غير الاستهزاء، فأنكر عليهم استهزاءهم مع علمهم بأن الله تعالى أجرى سنته أن من استهزأ بالرسل وخالف قولهم فلم يرجع إليه أهلكه، أطرد ذلك من سنته ولم يتخلف في أمة من الأمم كما وقع لقوم نوح وهود ومن بعدهم، لم يتخلف في واحدة منهم، وكلهم تعرف العرب أخبارهم، وينظرون آثارهم، وكذا يعرفون قصة موسى عليه السلام مع فرعون, فالسياق للتهديد, فصار المعنى: ألم ير هؤلاء كثرة من أهلكنا ممن قبلهم لمخالفتهم للرسل، أفلا يخشون مثل ذلك في مخالفتهم لرسولهم؟ وذلك موافق لقراءة الكسر التي نقلها البرهان السفاقسي عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره عن الحسن، وقالوا: إنها استئنافية، فهي على تقدير سؤال من كأنه قال: لم أهلكهم؟ وهذا كما إذا شاع أن الوادي الفلاني ما سلكه أحد إلا أصيب، يكون ذلك مانعاً عن سلوكه، وإن أراد ذلك أحد صح أن يقال له: ألم تر أنه ما سلكه أحد إلا هلك، فيكون ذلك زاجراً له ورادّاً عن التمادي فيه، لكون العلة في الهلاك سلوكه فقط، وذلك أكف له من أن يقال له: ألم تر أن الناس يموتون وكثرة من مات منهم ولم يرجع أحد منهم، غير معلل ذلك بشيء من سلوك الوادي ولا غيره، فإن هذا أمر معلوم له، غير مجدد فائدة، وزيادة عدم الرجوع إلى الدنيا لا دخل لها في العلية أيضاً لأن ذلك معلوم عند المخاطبين بل هم قائلون بأعظم منه من أنه لا حياة بعد الموت لا إلى الدنيا ولا إلى غيرها، وعلى تقدير التسليم فربما كان ذكر الرجوع للأموات أولى بأن يكون تهديداً، فإن كل إنسان منهم يرجع حينئذ إلى ما في يد غيره مما كان مات عليه ويصير المتبوع بذلك تابعاً أو يقع الحرب وتحصل الفتن، فأفاد ذلك أنه لا يصلح التهديد بعدم الرجوع - والله الموفق للصواب.
ولما كان كثير من أهل الجهل وذوي الحمية والأنفة لا يبالون بالهلاك في متابعة الهوى اعتماداً على أن موتة واحدة في لحظة يسيرة أهون من حمل النفس على ما لا تريد، فيكون لهم في كل حين موتات، أخبر تعالى أن الأمر غير منقض بالهلاك الدنيوي، بل هناك من الخزي والذل والهوان والعقوبة والإيلام ما لا ينقضي أبداً فقال: { وإن كل } أي وإنهم كلهم، لا يشذ منهم أحد، وزاد في التأكيد لمزيد تكذيبهم بقوله: { لما } ومن شدد { لما } فالمعنى عنده "وما كل منهم إلا" وأشار إلى أنهم يأتون صاغرين راغمين في حالة اجتماعهم كلهم في الموقف لا تناصر عندهم ولا تمانع, وليس أحد منهم غائب بحال التخلف عن الانتصار عليه فقال: { جميع } وأشار إلى غرابة الهيئة التي يجتمعون عليها بقوله: { لدينا } وزاد في العظمة بإبرازه في مظهرها، وعبر باسم الفاعل المأخوذ من المبني للمفعول جامعاً نظراً إلى معنى { كل } لأنه أدل على الجمع في آن واحد وهو أدل على العظمة: { محضرون * } أي في يوم القيامة بعد بعثهم بأعيانهم كما كانوا في الدنيا سواء، إشارة إلى أن هذا الجمع على كراهة منهم وإلى أنه أمر ثابت لازم دائم، كأنه لعظيم ثباته لم يزل، وأنه لا بد منه، ولا حيلة في التفصي عنه، وأنه يسير لا توقف له غير الإذن، فإذا أذن فعله كل من يؤمر به من الجنود كائناً من كان، وما أحسن ما قال القائل:

ولو أنــا متنــا تركنـــالكـان المـوت راحـة كـل حـي
ولكنـا إذا متنــا بعثنــاونسـأل بعـدهـا عـن كـل شـي

ولما أتم ضرب المثل المفيد لتمام قدرته على الأفعال الهائلة ببشارة ونذارة حتى أن من طبع على قلبه فهو لا يؤمن وإن كان قريباً في النسب والدار، ومن أسكن قلبه الخشية يؤمن وإن شط به النسب والمزار، فتم التعريف بالقسم المقصود بالذات وهو من يتبع الذكر، وختم بالبعث وكانوا له منكرين، وكان قد جعله في صدر الكلام من تمام بشارة من اتبع الذكر، دل عليه بقوله مبتدئاً بنكرة تنويها دال على تعظيمها: { وآية } أي علامة عظيمة { لهم } على قدرتنا على البعث وإيجادنا له { الأرض } أي هذا الجنس الذي هم منه؛ ثم وصفها بما حقق وجه الشبه فقال: { الميتة } التي لا روح لها لأنه لا نبات بها أعم من أن يكون بها نبات وفني فتفتت وصار تراباً أو لم يكن بها شيء أصلاً. ثم استأنف بيان كونها آية بقوله: { أحييناها } أي باختراع النبات فيها أو بإعادته بسبب المطر كما كان بعد اضمحلاله.
ولما كان إخراج الأقوات نعمة أخرى قال: { وأخرجنا منها حباً } ونبه تعالى على عظيم القدرة فيها وعلى عموم نفعها بمظهر العظمة، وزاد في التنبيه بالتذكير بأن الحب معظم ما يقيم الحيوان فقال مقدماً للجار إشارة إلى عد غيره بالنسبة إليه عدماً لعظيم وقعه وعموم نفعه بدليل أنه متى قل جاء القحط ووقع الضرر: { فمنه } أي بسبب هذا الإخراج { يأكلون * } أي فهو حب حقيقة يعلمون ذلك علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين لا يقدرون على أن يدعوا أن ذلك خيال سحري بوجه، وفي هذه الأية وأمثالهم حث عظيم على تدبر القرآن واستخراج ما فيه من المعاني الدالة على جلال الله وكماله، وقد أنشد هنا الأستاذ أبو القاسم القشيريرحمه الله في تفسيره في عيب من أهمل ذلك فقال:

يا من تصدر في دست الإمامة فيمسـائـل الفقـه إمـلاء وتدريســا
غفلت عن حجج التوحيد تحكمهـاشيدت فرعاً وما مهدت تأسيسـا