التفاسير

< >
عرض

صۤ وَٱلْقُرْآنِ ذِي ٱلذِّكْرِ
١
بَلِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ
٢
كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ فَنَادَواْ وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ
٣
وَعَجِبُوۤاْ أَن جَآءَهُم مٌّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ ٱلْكَافِرُونَ هَـٰذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ
٤

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما نزه ربنا سبحانه نفسه الأقدس في ختام تلك عن كل شائبة نقص، وأثبت له كل كمال ناصاً على العزة، وأوجب للمرسلين السلامة، افتتح هذه بالإشارة إلى دليل ذلك بخذلان من ينازع فيه فقال: { ص } أي إن أمرك - يا من أمرناه باستفتاء العصاة آخر الصافات وبشرناه بالنصر - مهيأ مع الضعف الذي أنتم به الآن والرخاوة والإطباق، وعلو وانتشار يملأ الآفاق { والقرآن } أي الجامع - مع البيان لكل خير - لأتباع لا يحصيهم العد، ولا يحيط بهم الحد. ولما كان القسم لا يليق ولا يحسن إلا بما يعتقد المقسم له شرفه قال: { ذي الذكر * } أي الموعظة والتذكير بما يعرف، والعلو والشرف والصدق الذي لا ريب فيه عند كل أحد، فكل من سمعه اعتقد شرفه وصدق الآتي به ليملأن شرفه المنزل عليه الأقطار، وليزيدن على كل مقدار، كما تقدمت الدلالة عليه بالحرف الأول، والذين كفروا وإن أظهروا الشك في ذلك وانتقصوه قولاً فإنهم لا ينتقصونه علماً { بل الذين كفروا } بما يظهرون من تكذيبه { في عزة } أي عسر وصعوبة ومغالبة بحمية الجاهلية مظروفون لها، فهي معمية لهم عن الحق لإحاطتهم بهم، وأنثها إشارة إلى ضعفها، وبشارة بسرعة زوالها وانقلابها إلى ذل { وشقاق * } أي إعراض وامتناع واستكبار على قبول الصدق من لساني الحال الذي أفصح به الوجود، والقال الذي صرح به الذكر فهداهم إلى ما هو في فطرهم وجبلاتهم بأرشق عبارة وأوضح إشارة لو كانوا يعقلون، فأعرضوا عن تدبره عناداً منهم لا اعتقاداً فإنهم لا يكذبوك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون، وتنكيرهما للتعظيم، قال الرازي: حذف الجواب ليذهب فيه القلب كل مذهب ليكون أغزر وبحوره أزخر - انتهى.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما ذكر تعالى حال الأمم السالفة مع أنبيائهم في العتو والتكذيب، وأن ذلك أعقبهم الأخذ الوبيل والطويل، كان هذا مظنة لتذكير حال مشركي العرب وبيان سوء مرتكبهم وأنهم قد سبقوا إلى ذلك الارتكاب، فحل بالمعاند سوء العذاب، فبسط حال هؤلاء وسوء مقالهم ليعلم أنه لا فرق بينهم وبين مكذبي الأمم السالفة في استحقاق العذاب وسوء الانقلاب، وقد وقع التصريح بذلك في قوله تعالى { كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد } إلى قوله: { إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب } ولما أتبع سبحانه هذا بذكر استعجالهم في قوله { عجل لنا قطناً قبل يوم الحساب } أتبع ذلك بأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالصبر فقال { اصبر على ما يقولون } ثم آنسه بذكر الأنبياء وحال المقربين الأصفياء { وكلاًّ نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك } - انتهى.
ولما كان للعلم الذي أراد الله إظهاره في هذا الوجود طريقان: حال ومقال، فأما الحال فهو ما تنطق به أحوال الموجودات التي أبدعها سبحانه في هذا الكون من علوم يدرك منها من أراد الله ما أراد، وأما المقال فهو هذا الذكر الذي هو ترجمة عن جميع الوجود، وكان سبحانه قد قدم الذكر لأنه أبين وأظهر، وأخبر أنهم أعرضوا عنه وشاققوه، وكان من شاقق الملك استحق الهلاك، وكان ما أبدوه من المغالبة أمراً غائظاً للمؤمنين، أتبعه ما يصلح لتخويف الكافرين وترجية المؤمنين مما أفصح به لسان الحال من إهلاك المنذرين، وهو أبين ما يكون من دلالاته، وأظهر ما يوجد من آياته، فقال استئنافاً: { كم أهلكنا } وكأن المنادين بما يذكر كانوا بعض المهلكين، وكانوا أقرب المهلكين إليهم في الزمان، فأدخل الجار لذلك، فقال دالاً على ابتداء الإهلاك: { من قبلهم } وأكد كثرتهم بقوله مميزاً: { من قرن } أي كانوا في شقاق مثل شقاقهم، لأنهم كانوا في نهاية الصلابة والحدة والمنعة - بما دل عليه "قرن". ولما تسبب عن مسهم بالعذاب دلهم قال جامعاً على معنى "قرن" لأنه أدل على عظمة الإهلاك: { فنادوا } أي بما كان يقال لهم: إنه سبب للنجاة من الإيمان والتوبة، واستعانوا بمن ينقذهم، أو فعلوا النداء ذعراً ودهشة من غير قصد منادي، فيكون الفعل لازماً، وقال الكلبي: كانوا إذا قاتلوا فاضطروا تنادوا "مناص" أي عليكم بالفرار، فأجيبوا بأنه لا فرار لهم.
ولما قرر سبحانه في غير موضع أن التوبة لا تنفع إلا عند التمكن والاختيار لا عند الغلبة والاضطراب، قال تعالى مؤكداً لهذا المعنى في جملة حالية بزيادة التاء التي أصلها هاء في "لا" أو في "حين" كما أكدوا بزيادتها في رب وثم، والهاء في أراق والتاء في مثال والان فقالوا: ربت وثمت وأهراق وتمثال وتالان { ولات } أي وليس الحين { حين مناص * } أي فراراً بتحرك بتقدم ولا تأخر، بحركة قوية ولا ضعيفة، فضلاً عن نجاة، قال ابن برجان: والنوص يعبر به تارة عن التقدم وتارة عن التأخر وهو كالجماح والنفار من الفرس، ونوص حمار رفعه رأسه كأنه نافر جامح.
ولما كان جعل المنذر منهم ليس محلاًّ للعجب فعدوه عجباً لما ظهر من تقسيمهم القول فيه، عجب منهم في قوله: { وعجبوا أن } أي لأجل أن { جاءهم } ولما كان تعجبهم من مطلق نذارته لا مبالغته فيها أتى باسم الفاعل دون فعيل فقال: { منذر منهم } أي من البشر ثم من العرب ثم من قريش ولم يكن من الملائكة مثلاً وكان ينبغي لهم أن لا يعجبوا من ذلك فإن كون النذير بما يحل من المصائب من القوم المنذرين - مع كونه أشرف لهم - أقعد في النذارة لأنهم أعرف به وبما هو منطو عليه من صدق وشفقة وغير ذلك، وهو الذي جرت به العوائد في القديم والحديث لكونهم إليه أميل، فهم لكلامه أقبل.
ولما كانوا أعرف الناس بهذا النذير صلى الله عليه وسلم في أنه أصدقهم لهجة وأعلاهم همة وأنه منفي عنه كل نقيصة ووصمة، زاد في التعجيب بأن قال معبراً بالواو دون الفاء لأن وصفهم له بالسحر ليس شبيه هذا العجب: { وقال } ولما كانوا يسترون الحق مع معرفتهم إياه فهم جاحدون لا جاهلون، ومعاندون لا غافلون، أظهر موضع الإضمار إشارة إلى ذلك وإيذاناً بشديد غضبه في قوله: { الكافرون هذا } أي النذير.
ولما كان ما يبديه من الخوارق إعجازاً فعلاً وقولاً يجذب القلوب، وكان أقرب ما يقدحون به فيه السحر قذفوه به ولم يعبروا بصيغة مبالغة لئلا يكون ذلك إيضاحاً جاذباً للقلوب إليه فقالوا: { ساحر } أي لأنه يفرق بما أتى به بين المرء وزوجه، فاعترفوا - مع نسبتهم له إلى السحر وهم يعلمون أنهم كاذبون في ذلك - أن ما أتى به فوق ما لهم من القوى { كذاب * } أي في ادعائه أن ما سحر به حق ليس هو كسحر السحرة، وأتوا بوقاحة بصيغة المبالغة وقد كانوا قبل ذلك يسمونه الأمين وهم يعلمون أنه لم يتجدد له شيء إلا إتيانه بأصدق الصدق وأحق مع ترقيه في معارج الكمال من غير خفاء على أحد له أدنى تأمل.