التفاسير

< >
عرض

ٱلرِّجَالُ قَوَّٰمُونَ عَلَى ٱلنِّسَآءِ بِمَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَآ أَنْفَقُواْ مِنْ أَمْوَٰلِهِمْ فَٱلصَّٰلِحَٰتُ قَٰنِتَٰتٌ حَٰفِظَٰتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ ٱللَّهُ وَٱلَّٰتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَٱهْجُرُوهُنَّ فِي ٱلْمَضَاجِعِ وَٱضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً
٣٤
وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَٱبْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَآ إِن يُرِيدَآ إِصْلَٰحاً يُوَفِّقِ ٱللَّهُ بَيْنَهُمَآ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً
٣٥
-النساء

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ثم بين سبحانه وجه استحقاق بعض المفضلين، فقال - جوباً لسؤال من كأنه قال: ما للرجال فضلوا؟ - { الرجال قوامون } أي قيام الولاة { على النساء } في التأديب والتعليم وكل أمر ونهي، وبين سببي ذلك بقوله: { بما فضل الله } أي الذي له الحكمة البالغة والكمال الذي لا يدانى، هبة منه وفضلاً نم غير تكسب { بعضهم } وهم الرجال، في العقل والقوة والشجاعة، ولهذا كان فيهم الأنيباء والولاة والإمامة الكبرى والولاية في النكاح ونحو ذلك من كل أمر يحتاج إلى فضل قوة في البدن والعقل والدين { على بعض } يعني النساء، فقال للرجال { انفروا خفافاً وثقالاً } [التوبة: 41] وقال للنساء: { وقرن في بيوتكن } [الأحزاب: 33].
ولما ذكر السبب الموهبي أتبعه الكسبي فقال: { وبما أنفقوا } أي من المهور والكسى وغيرها { من أموالهم } أي عليهن، فصارت الزيادة في أحد الجانبين مقابلة بالزيادة من الجانب الآخر.
ولما بان بذلك فضلهم، فأذعنت النفس لما فضلوا به في الإرث وغيره، وكان قد تقدم ذكر نكاحهم للنساء والحث على العدل فيهن؛ حسن بيان ما يلزم الزوجات من حقوقهم وتأديب من جحدت الحق، فقال مسبباً لما يلزمهن من حقوقهم عما ذكر من فضلهم { فالصالحات قانتات } أي مخلصات في طاعة الأزواج، ولذلك ترتب عليه { حافظات للغيب } أي لحقوق الأزواج من الأنفس والبيوت والأموال في غيبتهم عنهن { بما } أي بالأمر الذي { حفظ الله } أي المحيط علماً وقدرة به غيبتهم بفعله فيه فعل من يحفظ من الترغيب في طاعتهم فيما يرضي الله والترهيب من عصيانهم بما يسخطه، ورعي الحدود التي أشار إليها سبحانه من البقرة، وشرحتها سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولما عرف بالصالحات لاستحقاق الإنفاق في اللوازم أتبعه حكم غيرهن فقال: { واللاّتي تخافون نشوزهن } أي ترفعهن عليكم عن الرتبة التي أقامهن الله بها، وعصيانهن لكم فيما جعل الله لكم من الحق، وأصل النشوز: الانزعاج في ارتفاع، قال الشافعي: دلالات النشوز قد تكون قولاً، وقد تكون فعلاً، فالقول مثل أن كانت تلبيه إذا دعاها، وتخضع له بالقول إذا خاطبها، ثم تغيرت؛ والفعل مثل أن كانت تقوم له إذا دخل إليها، أو كانت تسارع إلى أمره، وتبادر إلى فراشه باستبشار إذا التمسها، ثم إذا تغيرت فحينئذ ظن نشوزها؛ ومقدمات هذه الأحوال توجب خوف النشوز { فعظوهن } أي ذكروهن من أمر الله بما يصدع قلوبهن ويرققها ويخيفهن من جلال الله.
ولما كان الوعظ موجباً لتحقق الطاعة أو المعصية قال: { واهجروهن } أي إن لم يرجعن بالوعظ { في المضاجع } أي التي كنتم تبيتون معهن فيها من البيت، وفي ضمن الهجر امتناعه من كلامها؛ قال الشافعي: ولا يزيد في هجرة الكلام على ثلاث { واضربوهن } أي إن أصررن ضرب تأديب غير مبرح، وهو ما لا يكسر عظماً ولا يشين عضواً، ويكون مفرقاً على بدناه ولا يوالي به في موضع واحد، ويتقي الوجه لأنه مجمع المحاسن، ويكون دون الأربعين؛ قال الشافعي: الضرب مباح وتركه أفضل { فإن أطعنكم } أي بشيء من الوعظ، والهجر في موضع المبيت من البيت، أو الضرب { فلا تبغوا } أي تطلبوا { عليهن سبيلاً } أي طريقاً إلى الأذى على ما سلف من العصيان من توبيخ على ما سلف نحوه، بما لكم عليهن من العلو، بل اغفروا لهن ما سلف، ولا يحملنكم ما منحكم الله من العلو على المناقشة، ثم علل ذلك بقوله: { إن الله } أي وقد علمتم ما له من الكمال { كان } ولم يزل { علياً كبيراً * } أي له العلو والكبر على الاطلاق بكمال القدرة ونفوذ المشيئة, فهو لا يحب الباغي ولا يقره على بغيه، وقدرته عليكم أعظم من قدرتكم عليهن، وهو مع ذلك يعفو عمن عصاه وإن ملأ الأرض خطايا - إذا أطاعه، ولا يؤاخذه بشيء مما فرط في حقه، بل يبدل سيئاته حسنات، فلو أخذكم بذنوبكم أهلككم؛ فتخلقوا بما قدرتم عليه من صفاته لتنالوا جليل هباته، وخافوا سطواته، واحذروا عقوبته، بما له من العلو والكبر.
ولما بين حال الوفاق وما خالطه من شيء من الأخلاق التي يقوم بإصلاحها الزوج، أتبعه حال المباينة والشقاق المحوج إلى من ينصف أحدهما من الآخر فقال: { وإن خفتم } أي أيها المتقون القادرون على الإصلاح من الولاة وغيرهم { شقاق بينهما } أي الزوجين المفهومين من السياق، يكون كل واحد منهما في شق غير الشق الذي فيه الآخر، ولا يكون ذلك إلا وأحدهما على باطل، وأضاف الشقاق إلى البين ليفيد أن هذا العمل إنما يكون عند الخوف من شقاق خاص، وهو أن يكون البين المضاف إليهما - وهو الذي يميز كل واحد منهما من الآخر - لا تمكن في العادة إزالته ليكونا شيئاً واحداً كما كانا لا بين لهما، وذلك بظن أنه لا صلاح في اجتماعهما { فابعثوا } أي إليهما للإصلاح بينهما بإنصاف المظلوم من الظالم { حكماً من أهله } أي الزوج { وحكماً من أهلها } أي الزوجة، هذا أكمل لأن أهلهما أقرب إلى إزالة أسباب الشقاق من بينهما، لأنهم أجدر بالإطلاع على بواطن أمورهما وعلى حقائق أحوالهما، والزوجان أقرب إلى إطلاعهما إن كانا قريبين على ضمائرهما، وأقرب إلى إخفاء ذلك عن الأجانب؛ وفائدة الحكمين أن يخلو كل منهما بصاحبة ويستكشف حقيقة الحال ليعرف وجه الصلاح.
ثم أجاب من كأنه قال: وماذا عسى أن يضيفا؟ بقوله: { إن يريدا } أي الحكمان { إصلاحاً } أي بينهما، وكأنه نكره لأن الإخلاص ووجود الكمال قليل { يوفق الله } الذي له الإحاطة بعلم الغيب والشهادة { بينهما } أي الزوجين لأن صلاح النية أكبر معين على بلوغ المقاصد، وهذا دالعلى أنه لا يكون شيء إلا بالله، وأن الأسباب إنما هي محنة من الله، يسعد بها من يباشرها ويعتمد على الله دونها، ويشقى بها من يجعلها محط قصده، فيعتمد عليها.
ولما كان المصلح قد يظن مفسداً لصدعه بمر الحق من غير مداراة، والمفسد قد يعد مصلحاً لما يرى منه من المداهنة والمراءاة والمكر، فيظن من يخلق الوعد بالتوفيق غير ما في نفس الأمر؛ قال تعالى مزيلاً لهذا الوهم مرغباً ومرهباً: { إن الله } أي المحيط بجميع صفات الكمال { كان عليماً } أي مطلقاً على ما يمكن الاطلاع عليه وإن غاب عن غيره { خبيراً * } أي لا يخفى عليه من ذلك خفي، ولا يغيب عنه خبيء، فصارت هذه الآيات كفيلة بغالب أحوال النكاح، ولم يذكر سبحانه وتعالى الطلاق عندما ذكر الشقاق لتقدمه في البقرة، ولأن مبنى هذه السورة على التواصل والتوادّ دون التفاصل والترادّ كما قال ابن الزبير، ولهذا - أي لبناء السورة على التواصل والائتلاف دون التفاصل والاختلاف - خصت من حكم تشاجر الزوجين بالإعلام بصورة الإصلاح والعدالة إبقاء لذلك التواصل، فلم يكن الطلاق ليناسب هذا، فلم يقع له هنا ذكر ولا إيماء إلا قوله:
{ وإن يتفرقا يغن الله كلاًّ من سعته } [النساء: 130] - انتهى.