التفاسير

< >
عرض

فَلَنُذِيقَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ عَذَاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ ٱلَّذِي كَانُواْ يَعْمَلُونَ
٢٧
ذَلِكَ جَزَآءُ أَعْدَآءِ ٱللَّهِ ٱلنَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الخُلْدِ جَزَآءً بِمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ
٢٨
وَقَال الَّذِينَ كَفَرُواْ رَبَّنَآ أَرِنَا ٱلَّذَيْنِ أَضَلاَّنَا مِنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ ٱلأَسْفَلِينَ
٢٩
إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقَامُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ ٱلْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ
٣٠
-فصلت

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما استحقوا بهذا العقوبة، سبب عن ذلك مؤكداً لإنكارهم قوله تعالى: { فلنذيقن } وأظهر في موضع الإضمار تعميماً بالوصف فقال: { الذين كفروا } أي هؤلاء وغيرهم { عذاباً شديداً } في الدنيا بالحرمان وما يتبعه من فنون الهوان وفي الآخرة بالنيران { ولنجزينهم } أي بأعمالهم. ولما كان من قدر على الأغلظ، قدر على ما دونه قال: { أسوأ } أي جزاء أسوأ العمل { الذين كانوا } بما هو لهم كالغرائز { يعملون * } مواظبين عليه.
ولما أبلغ سبحانه في الترهيب من عقابهم، زاد في تعظيمه وفضله لطفاً لمن أراد هدايته من عباده وإقامة الحجة على غيرهم فقال: { ذلك } أي الجزاء الأسوأ العظيم جداً { جزاء } ولما كانت عداوة من لا يطاق آمراً زائد العظمة، نبه على ذلك بصرف الكلام عن مظهرها إلى أعظم منه فقال: { أعداء الله } أي الملك الأعظم، لأنهم ما كانوا يفعلون ما دون الأسوأ إلا عجزاً عنه لأن جبلتهم تقتضي ذلك، وبينه بقوله: { النار } وفصل بعض ما فيها بقوله: { لهم فيها } أي النار { دار الخلد } أي المحل المحيط بهم الدائر من غير علم من زاوية أو غيرها يعرف به خصوص موضع منه، مع إيذانه بالدوام واللزوم وعدم الانفكاك، أو هو على التجريد بمعنى: هي لهم دار خلود كما كان لهم في الدنيا دار سرور بمعنى أنها كانت لهم نفسها دار لهو وغرور.
ولما كانوا على أعمالهم التي استحقوا بها هذا العذاب مصرين إصراراً يمتنع انفكاكهم عنه، زاد حسناً قوله: { جزاء } أي وفاقاً { بما كانوا } أي جبلة وطبعاً، ورد الكلام إلى مظهر العظمة المقتضي للنكال فقال: { بآياتنا } أي على ما لها من العظمة { يجحدون * } أي ينكرون عناداً من غير مراعاة لعلوها في نفسها ولا علوها بنسبتها إلينا، فلأجل جحودهم كانوا يقدمون على ما لا يرضاه عاقل من اللهو وغيره.
ولما تراءى لهم أن الذي أوجب لهم هذا السوء جلودهم بالشهادة عليهم وقرناؤهم بإضلالهم لهم وكان التباغض والعداوة قد وقع بين الجميع، فصار تمني كل للآخر السوء زيادة في عذابهم، وكانت مساءة جلودهم مساءتهم، خصوا القرناء بإرادة الانتقام منهم، فحكى سبحانه قولهم بقوله عطفاً على { وقالوا لجلودهم } أو على ما تقديره: فعلموا حينئذ أنهم كانوا على ضلال لتقصيرهم في النظر وتقليدهم لغيرهم: { وقال الذين كفروا } أي غطوا أنوار عقولهم داعين بما لو يسمع لهم، فهو زيادة في عقوبتهم، وحكايته لنا وعظ وتحذير: { ربنا } أي أيها الذي لم يقطع قط إحسانه عنا { أرنا } الصنفين { اللّذين أضلاّنا } عن المنهج الموصل إلى محل الرضوان { من الجن والإنس } المزينين لنا ارتكاب السوء خفية وجهراً، قرأ الجماعة بكسر الراء من أرنا، وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب والسوسي عن أبي عمرو وأبو بكر عن عاصم بإسكان الراء هنا خاصة. قال الأصبهاني: يحكى عن الخليل أنك إذا قلت: أرني ثوبك - بالكسر فالمعنى بصرنيه، وإذا قلته بالسكون فهو استعطاء، ومعناه أعطني ثوبك، ونظيره اشتهار الإيتاء في معنى الإعطاء، وأصله الإحضار - انتهى. { نجعلهما تحت أقدامنا } في النار إذلالاً لهما كما جعلانا تحت أمرهما { ليكونا من الأسفلين * } أي من أهل الدرك الأسفل وممن هو دوننا كما جعلانا كذلك في الدنيا في حقيقة الحال بإتباعنا لهما فيما أراد بنا، وفي الآخرة بهذا المال، والظاهر أن المراد أن كل أحد يتمنى أن يعرف من أضله من القبيلتين ليفعل بهم ذلك إن قدر عليه.
ولما ذكر الأعداء وقرناءهم نذارة، أتبعه ذكر الأولياء وأوداءهم بشارة، فقال مبيناً لحالهم القابل للإعراض وثمراته جواباً لمن يسأل عنهم مؤكداً لأجل إنكار المعاندين: { إن الذين } قال أبو حيان: قال ابن عباس رضي الله عنهما: نزلت في الصديق رضي الله عنه وأرضاه. { قالوا } أي قولاً حقيقياً مذعنين به بالجنان وناطقين باللسان تصديقاً لداعي الله في دار الدنيا متذللين حيث ينفع الذل جامعين بين الأسّ الذي هو المعرفة والاعتقاد، والبناء الذي هو العمل الصالح بالقول والفعل على السداد، فإن أصل الكمالات النفسانية يقين مصلح وعمل صالح، تعرف الحق لذاته والخير لتعمل له ورأس المعارف اليقينية ورئيسها معرفة الله، ورأس الأعمال الصالحة الاستقامة على حد الاعتدال من غير ميل إلى طرف إفراط أو تفريط: { ربنا } أي المحسن إلينا { الله } المختص بالجلال والإكرام وحده لا شريك له.
ولما كان الثبات على التوحيد ومصححاته إلى الممات أمراً في علو رتبته لا يرام إلا بتوفيق ذي الجلال والإكرام، أشار إليه بأداة التراخي فقال: { ثم استقاموا } طلبوا وأوجدوا القوام بالإيمان بجميع الرسل وجميع الكتب ولم يشركوا به صنماً ولا ثناً ولا آدمياً ولا ملكاً ولا كوكباً ولا غير بعبادة ولا رياء، وعملوا بما يرضيه وتجنبوا كل ما يسخطه وإن طال الزمان، امتثالاً لما أمر به أول السورة في قوله { إنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه } فمن كان له أصل الاستقامة في التوحيد أمن من النار بالخلود، ومن كان له كمال الاستقامة في الأصول والفروع أمن الوعيد { تتنزل } على سبيل التدريج المتصل { عليهم } من حين نفخ الروح فيهم إلى أن يموتوا ثم إلى أن يدخلوا الجنة باطناً فظاهراً { الملائكة } بالتأييد في جميع ما ينوبهم فتستعلي الأحوال الملكية على صفاتهم البشرية وشهواتهم الحيوانية فتضمحل عندها، وتشرق مرائيهم، ثم شرح ما يؤيدونهم به وفسره فقال: { ألا تخافوا } أي من شي مثله يخيف، وكأنهم يثبتون ذلك في قلوبهم { ولا تحزنوا } أي على شيء فاتكم، فإن ما حصل لكم أفضل منه، فأوقاتكم الأخراوية فيها بل هي كلها روح وراحة، فلا يفوتهم لذلك محبوب ولا يلحقهم مكروه { وأبشروا } أي املأوا صدوركم سروراً يظهر أثره على بشرتكم بتهلل الوجه ونعمة سائر الجسد { بالجنة التي كنتم } أي كوناً عظيماً على ألسنة الرسل { توعدون * } أي يتجدد لكم ذلك كل حين بالكتب والرسل، وقال الرازي في اللوامع: يبشرون في ثلاثة مواضع: عند الموت، وفي القبر، ويوم البعث - انتهى. وهذا محول على الكلام الحقيقي وما قبله على أنهم يفعلون معه ما ترجمته ذلك.