التفاسير

< >
عرض

كَغَلْيِ ٱلْحَمِيمِ
٤٦
خُذُوهُ فَٱعْتِلُوهُ إِلَىٰ سَوَآءِ ٱلْجَحِيمِ
٤٧
ثُمَّ صُبُّواْ فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ ٱلْحَمِيمِ
٤٨
ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْكَرِيمُ
٤٩
إِنَّ هَـٰذَا مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ
٥٠
إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ
٥١
فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ
٥٢
يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَقَابِلِينَ
٥٣
كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ
٥٤
-الدخان

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما كان للتذكير بما يعرف شأن عظيم من الإقبال أو التنفير وإن كان دون ما شبه به قال: { كغلي } أي مثل غلي { الحميم * } أي الماء الذي تناهى حره بما يوقد تحته، فهو يثبت كأنه يريد أن يتخلص مما هو فيه من الحر، روى - وقال حسن صحيح - والنسائي وابن ماجة وابن حبان في صحيحه والحاكم - وقال صحيح على شرطهما - عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو أن قطرة من الزقوم قطرت في الدنيا لأفسدت على أهل الدنيا معائشهم فكيف بمن يكون هذا طعامه" . ولما كان كأنه قيل: ما للأثيم يأكل هذا الطعام، وما الحامل له عليه وعلى مقاربة مكانه، أجيب بأنه مقهور عليه، يقتضيه صفة العزة فيه الرحمة لإعادته بأن يقال للزبانية: { خذوه } أي أخذ قهر فلا تدعوه يملك من أمره شيئاً { فاعتلوه } أي جروه بقهر بغلظة وعنف وسرعة إلى العذاب والإهانة بحيث يكون كأنه محمول، وقال الرازي في اللوامع: والعتل أن يأخذ بمجامع ثوبه عند صدره يجره، وقراءة الضم أدل على تناهي الغلظة والشدة من قراءة الكسر { إلى سواء } أي وسط { الجحيم * } أي النار التي في غاية الاضطرام والتوقد، وهي موضع خروج الشجرة التي هي طعامه.
ولما أفهم هذا صار في موضع يحيط به العذاب فيه من جميع الجوانب، بين أن له نوعاً آخر من النكد رتبته في العظمة مما يستحق العطف بأداة التراخي فقال: { ثم صبوا } أي في جميع الجهة التي هي { فوق رأسه } ليكون المصبوب محيطاً بجميع جسمه { من عذاب الحميم } أي العذاب الذي يغلي به الحميم أو الذي هو الحميم نفسه، والتعبير عنه بالعذاب أهول، وهذا في مقابلة ما كان لهم من البركة بما ينزل من السماء من المطر ليجتمع لهم حر الظاهر بالحميم والباطن بالزقوم.
ولما علم بهذا أنه لا يملك من أمر نفسه شيئاً، بل وصل إلى غاية الهوان، دل عليه بالتهكم بما كان يظن في نفسه من العظمة التي يترفع بها في الدنيا على أوامر الله، فقيل بناء على ما تقديره: يفعل به ذلك مقولاً له: { ذق } أي من هذا أوصلك إليه تغررك على أولياء الله. ولما كان أولياء الله من الرسل وأتباعهم يخبرون في الدنيا أنه - لإبائه أمر الله - هو الذليل، وكان هذا الأثيم وأتباعه يكذبون بذلك ويؤكدون قولهم المقتضي لعظمته لإحراق أكباد الأولياء حكى له قولهم على ما كانوا يلفظون به زيادة في تعذيبه بالتوبيخ والتقريع معللاً للأمر بالذوق: { إنك } وأكد بقوله: { أنت } وحدك دون هؤلاء الذين يخبرون بحقارتك { العزيز } أي الذي يغلب ولا يغلب { الكريم * } أي الجامع إلى الجود شرف النفس وعظم الإباء، فلا تنفعك عن ستر مساوئ الأخلاق بإظهار معاليها فلست بلئيم أي بخيل مهين النفس خسيس الإباء، فهو كناية عن مخاطبته بالخسة مع إقامة الدليل على ذلك بما هو فيه من المهالك، وقراءة الكسائي بفتح "إن" دالة على هذا العذاب قولاً وفعلاً على ما كان يقال له من هذا الدنيا ويعتقد هو أنه حق.
ولما دل على أنه يقال هذا لكل من الأثماء ويفعل به على حدته، دل على ما يعمون به، فقال مؤكداً رداً لتكذيبهم سائقاً لهم على وجه مفهم أنه علة ما ذكر من عذابهم: { إن هذا } أي العذاب قولاً وفعلاً وحالاً { ما كنتم } أي جبلة وطبعاً طبعناكم عليه لتظهر قدرتنا في أمركم دنيا وأخرى { به تمترون * } أي تعالجون أنفسكم وتحملونها على الشك فيه وتردونها عما لها من الفطرة الأولى من التصديق بالممكن لا سيما لمن جرب صدقه وظهرت خوارق العادات على يده بحيث كنتم لشدة ردكم له كأنكم تخصونه بالشك.
ولما وصف سبحانه ما للمبالغ في المساوئ وأفرده أولاً إشارة إلى قليل في قوم هذا النبي الكرمي الذي تداركهم الله بدعوته تشريفاً له وإعلاء لمقداره، وجمع آخراً ذاكراً من آثار ما استحق به ذلك من مشاركة في أوزاره، ففهم أن وصفه انقضى، ومر ومضى، فتاقت النفس إلى تعرف ما لأضداده الذين خالفوه في مبدئه ومعاده، قال مؤكداً لما لهم من التكذيب: { إن المتقين } أي العريقين في هذا الوصف { في مقام } أي موضع إقامة لا يريد الحال فيه تحولاً عنه { أمين * } أي يأمن صاحبه فيه من كل ما لا يعجبه.
ولما كان الوصف بعد الوصف شديد الترغيب في الشيء، قال مبدلاً من "مقام": { في جنات } أي بساتين تقصر العقول عن إدراك وصفها كل وصفها { وعيون * } كذلك بحيث تقر بها العيون، ولما كان قد أشار إلى وصف ما للباطن من لذة النظر ولباس الأكل والشرب، أتبعه كسوة الظاهر وما لكل من القرب فقال: { يلبسون }.
ولما وصف ما أعد لهم من اللبس في الجنة، دل على الكثرة جداً بقوله: { من سندس } وهو ما رق من الحرير يعمل وجوهاً، وزاد صنفاً آخر فقال: { وإستبرق } وهو ما غلظ منه يعمل بطائن، وسمي بذلك لشدة بريقه. ولما كان وصف الأثماء بما لهم من القبض الشاغل لكل منهم عن نفسه وغيره بعد ما تقدم في الزخرف في آية الأخلاء ما أعلم بكونهم مدابرين وصف أضدادهم بما لهم من البسط مع الاجتماع فقال: { متقابلين * } أي ليس منهم أحد يدابر الآخر لا حساً ولا معنى، وود أن كلاًّ منهم يقابل الآخر ناظراً إليه، فإذا أرادوا النساء حالت الستور بينهم.
ولما كان هذا أمراً يبهر العقل، فلا يكاد يتصوره، قال مؤكداً له: { كذلك } أي الأمر كما ذكرنا سواء لا مرية فيه. ولما كان ذلك لا يتم السرور به إلا بالأزواج قال: { وزوجناهم } أي قرناهم كما تقرن الأزواج، وليس المراد به العقد لأنه فعل متعد بنفسه وهو لا يكون في الجنة لأن فائدته الحل، والجنة ليست بدار كلفة من تحليل أو تحريم، وذكر مظهر العظمة تنبيهاً على كمال الشرف { بحور } أي على حسب التوزيع بجواري بيض حسان نقيات الثياب { عين * } أي واسعات الأعين.