التفاسير

< >
عرض

لِّتُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً
٩
إِنَّ ٱلَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ يَدُ ٱللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ ٱللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً
١٠
-الفتح

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما ذكر حال الرسالة، ذكر علتها فقال: { لتؤمنوا } أي الذين حكمنا بإيمانهم ممن أرسلناك إليهم - هذا على قراءة ابن كثير وأبي عمرو بالغيب، وعلى قراءة الباقين بالخطاب المعنى. أيها الرسول ومن قضينا بهداه من أمته، مجددين لذلك في كل لحظة مستمرين عليه، وكذا الأفعال بعده، وذلك أعظم لطفاً لما في الأنس بالخطاب من رجاء الاقتراب { بالله } أي الذي لا يسوغ لأحد من خلقه - والكل خلقه - التوجه إلى غيره لاستجماعه لصفات الجلال والإكرام { ورسوله } الذي أرسله من له كل شيء ملكاً وملكاً إلى جميع خلقه.
ولما كان الإيمان أمراً باطناً، فلا يقبل عند الله إلا بدليل، وكان الإيمان بالرسول إيماناً بمن أرسله، والإيمان بالمرسل إيماناً بالرسول، وحد الضمير فقال: { وتعزروه } أي يعينوه ويقووه وينصروه على كل من ناواه ويمنعوه عن كل من يكيده، مبالغين في ذلك باليد واللسان والسيف، وغير ذلك من الشأن فيؤثروه على أنفسهم وغيرها، تعظيماً له وتفخيماً - هذا حقيقة المادة، وما خالفه فهو إما من باب الإزالة كالعزور بمعنى الديوث، وإما من باب الأول كاللوم والضرب دون الحد، فإنه يوجب للملوم والمضروب وتجنب ما نقم عليه فيعظم، فهو من إطلاق الملزوم على اللازم، وهو من وادي ما قيل:

عداي لهم فضل عليّ ومنة فلا أذهب الرحمن عني الأعاديا
هم بحثوا عن زلتي فاجتنبتها وهم نافسوني فاقتنيت المعاليا

ولما كان المعنى يحتمل الإزالة كما ذكر، خلص المراد بقوله: { وتوقروه } أي يجتهدوا في حسن اتباعه في تبجيله وإجلاله بأن يحملوا عنه جميع الأثقال، ليلزم السكينة باجتماع همه وكبر عزمه لزوال ما كان يشعب فكره من كل ما يهمه { وتسبحوه } أي ينزهوه عن كل وصمة من إخلاف الوعد بدخول مكة والطواف بالبيت الحرام ونحو ذلك، ويعتقدوا فيه الكمال المطلق، والأفعال الثلاثة يحتمل أن يراد بها الله تعالى، لأن من سعى في قمع الكفار فقد فعل فعل المعزر الموقر، فيكون إما عائداً على المذكور وإما أن يكون جعل الاسمين واحداً إشارة إلى اتحاد المسميين، في الأمر فلما اتحد أمرها وحد الضمير إشارة إلى ذلك.
ولما كانت محبة الله ورسوله ترضى منها بدون النهاية قال كائناً عن ذلك: { بكرة وأصيلاً * } أي وعشياً إيصاناً لما بين النهار والليل بذلك.
ولما ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم ما أرسله له، وختم الآية بأنه لا يرضى من ذكره وذكر رسوله إلا بالمداومة بالفعل أو بالقوة مع توحيده الضمير إشارة إلى وحدة الإرادة والمداوة بالفعل أو بالقوة مع توحيده الضمير إشارة إلى وحدة الإرادة والمحبة من الرسول والمرسل، أوضح المراد بتوحيد الضمير بقوله مرغباً في اتباعه ومرهباً لأتباعه عن أدنى فترة أو توان فيما دخلوا فيه من الإيمان الذي هو علة الرسال، وما ذكره معه في جواب من يسأل: ما سبب توحيد الضمير والمذكور اثنان؟ مؤكداً لأجل ما غلب على الطباع البشرية من التقيد بالوهم والنكوص عما غاب ولا مرشد إليه سوى العقل: { إن الذين }.
ولما كان المضارع قد يراد به مطلق الوقوع لا بقيد زمن معين كما نقلته في أول سورة البقرة عن أبي حيان وغيره، عبر به ترغيباً في تجديد مثل ذلك والاستمرار عليه فقال: { يبايعونك } أي في بيعة الرضوان وقبلها وبعدها على ما جئت به من الرسالة التي مقصودها الأعظم النذارة التي مبناها على المخالفة التي تتقاضى الشدائد التي عمادها الثبات والصبر، وسميت "مبايعة" لأنهم بايعوا أنفسهم فيها من الله بالجنة وهذا معنى الإسلام، فكل من أسلم فقد باع نفسه سبحانه منه
{ إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم } [التوبة: 111]، الآية. { إنما يبايعون الله } أي الملك الأعظم لأن عملك كله من قول وفعل له { وما ينطق عن الهوى } [النجم: 3].
ولما عظم بيعته بما رغب فيها ترغيباً مشعراً بالترهيب، زادها تعظيماً بما الترهيب فيه أظهر من الأول، فقال مبيناً للأول: { يد الله } أي المتردي بالكبرياء. ولما كان منزهاً. عما قد يتوهم من الجارحة مما فيه شائبة نقص، أومأ إلى نفي ذلك بالفوقية مع ما فيه من الدلالة على تعظيم البيعة فقال: { فوق أيديهم } أي في المبايعة عالية عليهم بالقدرة والقوة والقهر والعزة، والتنزه عن كل شائبة نقص، ولذلك كرر الاسم الأعظم في هذه ثلاث مرات إشارة إلى العظمة الفائتة للوصف والغيب العالي عن الإدراك، ثم أعاد ذكره بالضمير إيذاناً بالغيب المحض، هذا هو المراد من تعظيم البيعة وإجلال الرسول صلى الله عليه وسلم مع العلم القطعي بتنزيه الله سبحانه عن كل شائبة نقص من حلول أو اتحاد كما هو واضح في مجاري عادات العرب ظاهر جداً في دأبهم في محاوراتهم، لا يشك فيه منهم عاقل عالم أو جاهل أصلاً، فلعنة الله على من حمله على الظاهر من أهل العناد ببدعة الاتحاد على من تبعهم على ذلك من الرعاع الطغام الذي شاقوا الله ورسوله عليه الصلاة والسلام، وجميع الأئمة الأعلام، وسائر أهل الإسلام: ورضوا لأنفسهم بأن يكونوا أتباع فرعون اللعين، وناهيك به في ضلال مبين.
ولما كان كلام الله تعالى - وإن جرى مجرى الشرط والتهديد لا بد أن يقع منه شيء وإن قل، وكان من سر التعبير بالمضارع "يبايعونك" الإشارة إلى نكث الجد بن قيس أصل بيعته على الإسلام فإنه اختبأ في الحديبية وقت البيعة في وقت من الأوقات، فلم يبايع، سبب عن ذلك وفصل ترغيباً وترهيباً، فقال معبراً بالماضي إيذاناً بأنه لا ينكث أحد من أهل هذه البيعة: { فمن نكث } أي نقض في وقت من الأوقات فجعلها كالكساء الخلق والحبل البالي الذي ينقض { فإنما ينكث } وعبر بالمضارع إشارة إلى أن من فعل النكث فهو في كل لحظة ناكث نكثاً جديداً { على نفسه } لا على غيرها فإنه بمرأى من الله ومسمع وهو قادر عليه جدير بأن يعاقبه بعد ما عجل لنفسه من العار العظيم في الدنيا ويستحل به على نكثه عذاباً أليماً، ولا يضر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً فإن الله ناصره لا محالة، وكذا كل منكوث به إذا أراد الله نصرته فإن يده سبحانه فوق كل يد.
ولما أتم الترهيب لأنه مقامه للحث على الوفاء الذي به قيام الدين على أبلغ وجه، أتبعه على عادته الترغيب إتماماً للحث فقال تعالى: { ومن أوفى } أي فعل الإتمام والإكثار والإطالة { بما عٰهد } وقدم الظرف اهتماماً به فقال: { عليه الله } أي الملك المحيط بكل شيء قدرة وعلماً من هذه المبايعة وغيرها فإنما وفاؤه لنفسه { فسيؤتيه } أي بوعد لا خلف فيه { أجراً عظيماً * } لا يسع عقولكم شرح وصفه، ومن قرأ بالنون أظهر ما ستر في الجلالة من التعظيم، والآية من الاحتباك: ذكر أولاً أن النكث عليه دليلاً على أن الوفاء له ثانياً، وإيتاء الأجر ثانياً دليلاً على إحلال العقاب أولاً وسره أنه بين أن ما يرديه الناكث من الأذى لغيره إنما هو واقع به، لأن ذلك أعظم في الترهيب عن النكث لما جبل الإنسان عليه من النفرة عن ضر نفسه وبعده عنه، وذكر الأجر للموفي لأنه أعظم في الترغيب، وسبب بيعة الرضوان هذه
"أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فهم من بروك ناقته في الحديبية الإشارة من الله سبحانه وتعالى إلى أنه لم يأذن في دخولهم البلد الحرام في هذه السفرة، فمشى مع إرادته سبحانه وتعالى لأنه ليس فيها مخالفة لما أمر به سبحانه إلى أن وقع الصلح الذي كان الفتح هو بعينه، وكان في غضون ذلك أن أرسل عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه إلى مكة المشرفة ليخبر قريشاً أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجئ لقتال وأنه لا يريد إلا الاعتمار، فأرجف مرجفون بأنه قد قتل، فعزم النبي صلى الله عليه وسلم على مناجزتهم فبايع الصحابة رضي الله عنهم على أن لا يفروا عنه، فبايع كل من كان معه إلا جد بن قيس، فإنه اختبأ تحت إبط بعيره فلم يبايع، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: كلكم مغفور له إلا صاحب الجمل الأحمر
"
.