التفاسير

< >
عرض

إِذْ قَالَ ٱلْحَوَارِيُّونَ يٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ قَالَ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ
١١٢
قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ ٱلشَّاهِدِينَ
١١٣
قَالَ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ ٱللَّهُمَّ رَبَّنَآ أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنْكَ وَٱرْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ
١١٤
-المائدة

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما كان من المقصود بذكر معجزات عيسى عليه السلام تنبيه الكافر ليؤمن، والمؤمن ليزداد إيماناً، وتسلية النبي صلى الله عليه وسلم وتوبيخ اليهود المدعين أنهم أبناء وأحباء - إلى غير ذلك مما أراد الله، قرعت به الأسماع، ولم يتعلق بما يجيب به يوم القيامة عند أمره بذلك غرض فطوي؛ ولما كان أجلّ المقاصد تأديب هذه الأمة لنبيها عليه السلام لتجلّه عن أن تبدأه بسؤال أو تقترح عليه شيئاً في حال من الأحوال، ذكر لهم شأن الحواريين في اقتراحهم بعدما تقدم من امتداحهم بِعَدِّهم في عداد أولي الوحي ومبادرتهم إلى الإيمان امتثالاً للأمر ثم إلى الإشهاد على سبيل التأكيد بتمام الانقياد وسلب الاختيار، فقال معلقاً بـ "قالوا آمنا" مقرباً لزمن تعنتهم من زمن إيمانهم، مذكراً لهذه الأمة بحفظها على الطاعة، ومبكتاً لبني إسرائيل بكثرة تقلبهم وعدم تماسكهم إبعاداً لهم عن درجة المحبة فضلاً عن البنوة، وهذه القصة قبل قصة الإيحاء إليهم فتكون "إذ" هذه ظرفاً لتلك، فيكون الإيحاء إليهم بالأمر بالإيمان في وقت سؤالهم هذه بعد ابتدائه، ويكون فائدته حفظهم من أن يسألوا آية أخرى كما سألوا هذه بعدما رأوا منه صلى الله عليه وسلم من الآيات: { إذ قال } وأعاد وصفهم ولم يضمره تنصيصاً عليهم لبُعد ما يذكر من حالهم هذا من حالهم الأول فقال: { الحواريون } وذكر أنهم نادوه باسمه واسم أمه فقالوا: { يا عيسى ابن مريم } ولم يقولوا: يا رسول الله ولا يا روح الله، ونحو هذا من التبجيل أو التعظيم { هل يستطيع ربك } بالياء مسنداً إلى الرب وبالتاء الفوقانية مسنداً إلى عيسى عليه السلام ونصب الرب، ومعناهما واحد يرجع إلى التهييج والإلهاب بسبب الاجتهاد في الدعاء بحيث تحصل الإجابة، وتكون هذه العبارة أيضاً للتلطف كما يقول الإنسان لمن يعظمه: هل تقدر أن تذهب معي إلى كذا؟ وهو يعلم أنه قادر، ولكنه يكنى بذلك عن أن السائل يحب ذلك ولا يريد المشقة على المسؤول { أن ينزل } أي الرب المحسن إليك { علينا مائدة } وهي الطعام، ويقال أيضاً: الخوان إذا كان عليه الطعام، والخوان شيء يوضع عليه الطعام للأكل، هو في العموم بمنزلة السفرة لما يوضع فيه طعام المسافر بالخصوص، وهي من ماده - إذا أعطاه وأطعمه.
ولما كان هذا ظاهراً في أنها سماوية، صرحوا به احترازاً عما عوَّدهم به صلى الله عليه وسلم من أنه يدعو بالقليل من الطعام فيبارك فيه فيمده الله فيكفي فيه القيام من الناس فقالوا: { من السماء } أي لا صنع للآدميين فيها لنختص بها عمن تقدمنا من الأمم.
ولما كان المقصود من هذا وعظنا وإرشادنا إلى أن لا نسأل نبينا صلى الله عليه وسلم شيئاً، اكتفاء بما يرحمنا به ربنا الذي رحمنا بابتدائنا بإرساله إلينا لإيصالنا إليه سبحانه، وتخويفاً من أن نكون مثل من مضى من المقترحين الذين كان اقتراحهم سببَ هلاكهم؛ دل على ذلك بالنزوع من أسلوب الخطاب إلى الغيبة فقال مستأنفاً إرشاداً إلى السؤال من جوابهم: { قال } ولم يقل: فقلت { اتقوا الله } أي اجعلوا بينكم وبين غضب الملك الأعظم الذي له الكمال وقاية تمنعكم عن الاجتراء على الاقتراح { إن كنتم مؤمنين * } أي بأنه قادر وإني رسوله، فلا تفعلوا فعل من وقف إيمانه على رؤية ما يقترح من الآيات.
ولما كانت المعجزات إنما تطلب لإيمان من لم يكن آمن، وكان في هذا الجواب أتم زجر لهم، تشوف السامع إلى جوابهم فقيل: لم ينتهوا بل { قالوا } إنا لا نريدها لأجل إزالة شك عندنا بل { نريد } مجموع أمور: { أن نأكل منها } فإنا جياع؛ ولما كان التقدير: فتحصل لنا بركتها، عطف عليه: { وتطمئن قلوبنا } أي بضم ما رأينا منها إلى ما سبق من معجزاتك من غير سؤالنا فيه { ونعلم } أي بعين اليقين وحقه { أن قد صدقتنا } أي في كل ما أخبرتنا به { ونكون عليها } وأشاروا إلى عمومها بالتبعيض فقالوا: { من الشاهدين * } أي شهادة رؤية مستعلية عليها بأنها وقعت، لا شهادة إيمان بأنها جائزة الوقوع { قال عيسى } ونسبه زيادة في التصريح به تحقيقاً ولأنه لا أب له وتسفيهاً لمن أطراه أو وضع من قدره فقال: { ابن مريم اللهم } فافتتح دعاءه بالاسم الأعظم ثم بوصف الإحسان فقال: { ربنا } أي أيها المحسن إلينا { أنزل علينا } وقدم المقصود فقال: { مائدة } وحقق موضع الإنزال بقوله: { من السماء } ثم وصفها بما تكون به بالغة العجب عالية الرتب فقال: { تكون } أي هي أو يوم نزولها { لنا عيداً } وأصل العيد كل يوم فيه جمع، ثم قيد بالسرور فالمعنى: نعود إليها مرة بعد مرة سروراً بها، ولعل منها ما يأتي من البركات حين ترد له عليه السلام - كما في الأحاديث الصادقة، ويؤيد ذلك قوله مبدلاً من "لنا": { لأولنا وآخرنا }.
ولما ذكر الأمر الدنيوي، أتبعه الأمر الديني فقال: { وآية منك } أي علامة على صدقي { وارزقنا } أي رزقاً مطلقاً غير مقيد بها؛ ولما كان التقدير: فأنت خير المسؤولين، عطف عليه قوله: { وأنت خير الرّازقين * } أي فإنك تغني من تعطيه وتزيده عما يؤمله ويرتجيه بما لا ينقص شيئاً مما عندك، ولا تطلب منه شيئاً غير أن ينفع نفسه بما قويته عليه من طاعتك بذلك الرزق { قال الله } أي الملك المحيط علماً وقدرة.