التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَآءَ وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً وَآتَاكُمْ مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن ٱلْعَٱلَمِينَ
٢٠
يَٰقَوْمِ ٱدْخُلُوا ٱلأَرْضَ ٱلمُقَدَّسَةَ ٱلَّتِي كَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَٰسِرِينَ
٢١
-المائدة

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما ذكر سعة مملكته وتمام علمه وشمول قدرته أتبع ذلك الدلالة عليه بقصة بني إسرائيل في استنقاذهم من أسر العبودية والرق وإعلاء شأنهم وإيراثهم أرض الجبارين بعد إهلاك فرعون وجنوده وغير ذلك مما تضمنته القصة، إظهاراً - بعدم ردهم إلى مصر التي باد أهلها - لتمام القدرة وسعة الملك ونفوذ الأمر, وهي مع ذلك دالة على نقضهم الميثاق وقساوتهم ونقض ما ادعوه من بنوتهم ومحبتهم، وذلك أنها ناطقة بتعذيبهم وتفسيقهم وتبرئهم من الله، ولا شيء من ذلك فعل حبيب ولا ولد، فقال عاطفاً على نعمة في { واذكروا نعمة الله عليكم } [المائدة: 7] تذكيراً لهذه الأمة بنعمة التوثيق للسمع والطاعة التي أباها بنو إسرائيل بعدما رأوا من الآيات، وبما كف عنهم على ضعفهم وشجع به قلوبهم، وألزمهم الطاعة وكره إليهم المعصية بضد ما فعل ببني إسرائيل - وغير ذلك مما يرشد إليه إنعام النظر في القصة: { وإذ } أي واذكروا حين { قال موسى لقومه } أي من اليهود { يا قوم اذكروا } أي بالقلب واللسان، أي ذكر اعتبار واتعاظ بما لكم من قوة القيام بما تحاولونه ليقع منكم الشكر { نعمة الله } أي إنعام الملك الأعظم الذي له الإحاطة بالجلال والإكرام، وعبر عن الإنعام بالغاية لأنها المقصود { عليكم } وعظم ذلك التذكير بالاسم الأعظم، ونبه بذكر ظرفها على أجل النعم، وهي النبوة المنقذة لهم من النار فقال: { إذ } أي حين { جعل فيكم } وبشرهم بمن يأتي بعده من الأنبياء من بني إسرائيل فجمع جمع الكثرة في قوله: { أنبياء } أي يحفظونكم من المهالك الدائمة، ففعل معكم - بذلك وغيره من النعم التي فضلكم بها على العالمين في تلك الأزمان - فعل المحب مع حبيبه والوالد مع ولده، ومع ذلك عاقبكم حين عصيتم، وغضب عليكم إذ أبيتم، فعلم أن الإكرام والإهانة دائران بعد مشيئته على الطاعة والمعصية.
ولما نقلهم من الحيثية التي كانوا فيها عبيداً لفرعون، لا يصلحون معها لملك، ولا تحدثهم أنفسهم به، إلى حيثية الحرية القابلة لأن يكون كل منهم معها ملكاً بعد أن أرسل فيهم رسولاً وبشر بأنه يتبعه من الأنبياء ما لم يكن في أمة من الأمم غيرهم، قال: { وجعلكم ملوكاً } أي فكما جعلكم كذلك بعد ما كنتم غير طامعين في شيء منه، فقد نقله منكم وجعله في غيركم بتلك القدرة التي أنعم عليكم بها، وذلك لكفركم بالنعم وإيثاركم الجهل على العلم، فإنكاركم لذلك وتخصيص النعم بكم تحكم وترجيح بلا مرجح، ويوضح ذلك أن كفر النعمة سبب لزوالها، وقد كانوا يهددون في التوراة وغيرها بما هم فيه الآن من ضرب الذلة والمسكنة التي لا يصلحون معها لملك إن هم كفروا - كما سيأتي بعض ذلك في هذه السورة.
ولما ذكرهم تعالى بما ذكرهم به من النعم العامة، أتبعه التذكير بنعمة خاصة فقال: { وآتاكم ما لم يؤت } أي في زمانكم ولا فيما قبله من سالف الزمان - كما اقتضاه التعبير بلم { أحداً من العالمين * } من الآيات التي أظهرها على يد موسى عليه السلام، فأخرجكم بها من الظلمات إلى النور، والكتاب الذي جعله تبياناً لكل شيء؛ ثم أتبعه ما يقيد به هذه النعم من الشكر بامتثال الأمر في جهاد الأعداء في سياق مؤذن بالنصر معلم بأنه نعمة أخرى يجب شكرها، فلذلك وصله بما قبله وصل المعلول بالعلة فقال: { يا قوم ادخلوا } عن أمر الله الذي أعلمكم بما صنع من الآيات أنه غالب على جميع أمره { الأرض المقدسة } أي المطهرة المباركة التي حكم الله أن يطهرها بأنبيائه ورسله من نجس الشرك وضر المعاصي والإفك، ويبارك فيها، ثم وصفها بما يوجب للمؤمن الإقدام لتحققه النصر فقال: { التي كتب الله } أي الذي له الأمر كله فلا مانع لما أعطى { لكم } أي بأن تجاهدوا أعداءه فترثوا أرضهم التي لا مثل لها، فتحوزوا سعادة الدارين، وهي بيت المقدس والتي وعد أباكم إبراهيم عليه السلام أن تكون ميراثاً لولده بعد أن جعلها مهاجرة.
ولما أمرهم بذلك نهاهم عن التقاعد عنه، فقال مشيراً إلى أن مخالفة أمر الله لا تكون إلا بمعالجة للفطرة الأولى: { ولا ترتدوا } أي تكلفوا أنفسكم الرجوع عن أخذها، وصوَّر لهم الفتور عن أخذها بما يستحيي من له همة من ذكره فقال: { على أدباركم } ولما جمع بين الأمر والنهي، خوفهم عواقب العصيان معلماً بأن ارتدادهم سبب لهلاكهم بغير شك، فقال معبراً بصيغة الانفعال: { فتنقلبوا } أي من عند أنفسكم من غير قالب يسلط عليكم { خاسرين * } أي بخزي المعصية عند الله وعار الجبن عن الناس وخيبة السعي من خيري الدارين.