التفاسير

< >
عرض

لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ ٱلنَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ ٱلْيَهُودَ وَٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّا نَصَارَىٰ ذٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ
٨٢
وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى ٱلرَّسُولِ تَرَىۤ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ ٱلْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَآ آمَنَّا فَٱكْتُبْنَا مَعَ ٱلشَّاهِدِينَ
٨٣
وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَمَا جَآءَنَا مِنَ ٱلْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ ٱلْقَوْمِ ٱلصَّالِحِينَ
٨٤
فَأَثَابَهُمُ ٱللَّهُ بِمَا قَالُواْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذٰلِكَ جَزَآءُ ٱلْمُحْسِنِينَ
٨٥
-المائدة

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما دل كالشمس ميلهُم إلى المشركين دون المؤمنين على أنهم في غاية العداوة لهم، صرح تعالى بذلك على طريق الاستنتاج، فقال دالاً على رسوخهم في الفسق: { * لتجدن أشد الناس } أي كلهم { عداوة للذين آمنوا } أي أظهروا الإقرار بالإيمان فكيف بالراسخين فيه { اليهود } قدمهم لأنهم أشد الفريقين لأنه لا أقبح من ضال على علم { والذين أشركوا } لما جمعهم من الاستهانة بالأنبياء هؤلاء جهلاً وأولئك عناداً وبغياً، فعرف أن من صدق في إيمانه لا يواليهم بقلبه ولا بلسانه، وأنهم ما اجتمعوا على الموالاة إلا لاجتماعهم في أشدّية العداوة لمن آمن، فهذه الآية تعليل لما قبلها، كأنه قيل: هب أنهم لا يؤمنون بالله والنبي، وذلك لا يقتضي موادة المشركين فلِمَ والوهم حينئذ؟ فقيل: لأن الفريقين اجتمعوا في أشدية العداوة للذين آمنوا.
ولما أخبر تعالى بأبعد الناس مودة لهم، أخبر بضدهم فقال: { ولتجدن أقربهم } أي الناس { مودة للذين آمنوا } أي أوجدوا الإيمان بالقلب واللسان { الذين قالوا } وفي التوريك على قولهم إشارة إلى أنهم ما كانوا على حقيقة النصرانية { إنا نصارى } أي لقلة اهتمامهم بالدنيا بمجرد قولهم ذلك ولو لم يكونوا عريقين في الدين وإقبالهم على علم الباطن، ولذلك علله بقوله: { ذلك بأن منهم قسيسين } أي مقبلين على العلم، من القس، وهو ملامة الشيء وتتبعه { ورهباناً } أي في غاية التخلي من الدنيا؛ ولما كان التخلي منها موجباً للبعد من الحسد، وهو سبب لمجانبة التكبر قال: { وأنهم لا يستكبرون * } أي لا يطلبون الرفعة على غيرهم ولا يوجدونها.
ولما كان ذلك علة في الظاهر ومعلولاً في الباطن لرقة القلب قال: { وإذا سمعوا } أي أتباع النصرانية { ما أنزل إلى الرسول } أي الذي ثبتت رسالته بالمعجز، فكان من شأنه أن يبلغ ما أنزل إليه للناس { ترى أعينهم } ولما كان البكاء سبباً لامتلاء العين بالدمع وكان الامتلاء سبباً للفيض الذي حقيقته السيلان بعد الامتلاء، عبر بالمسبب عن السبب فقال: { تفيض من الدمع } أصله: يفيض دمعها ثم تفيض هي دمعاً، فهو من أنواع التمييز، ثم علل الفيض بقوله: { مما عرفوا من الحق } أي وليس لهم غرض دنيوي يمنعهم عن قبوله، ثم بين حالهم في مقالهم بقوله: { يقولون ربنا } أي أيها المحسن إلينا { آمنا } أي بما سمعنا { فاكتبنا }.
ولما كان من شأن الشاهد إحضار القلب وإلقاء السمع والقيام التام بما يتلى عليه ويندب إليه قال: { مع الشاهدين * } أي أمة محمد صلى الله عليه وسلم الذين يشهدون على الأمم يوم القيامة، فإن تقويتنا على ذلك ليست إلا إليك { وما } أي ويقولون: ما، أي أيّ شيء حصل أو يحصل { لنا } حال كوننا { لا نؤمن بالله } أي الذي لا كفوء له ولا خير إلا منه { وما } أي وبما { جاءنا من الحق } أي الأمر الثابت الذي مهما عرض على الواقع طابقه الواقع سواء كان حالاً أو ماضياً أو آتياً.
ولما كانوا يهضمون أنفسهم، عبروا بالطمع الذي لا نظر معه لعمل فقالوا: { ونطمع أن يدخلنا ربنا } أي بمجرد إحسانه، لا بعمل منا، ولجريهم في هذا المضمار عبروا بمع دون "في" قولهم: { مع القوم الصالحين * } هضماً لأنفسهم وتعظيماً لرتبة الصلاح.
ولما ذكر قولهم الدال على حسن اعتقادهم وجميل استعدادهم، ذكر جزاءهم عليه فقال: { فأثابهم الله } أي الذي له جميع صفات الكمال { بما قالوا } أي جعل ثوابهم على هذا القول المستند إلى خلوص النية الناشئ عن حسن الطوية { جنات تجري } ولما كان الماء لو استغرق المكان أفسد، أثبت الجار فقال: { من تحتها الأنهار } ولما كانت اللذة لا تكمل إلا بالدوام قال: { خالدين فيها }.
ولما كان التقدير: لإحسانهم، طرد الأمر في غيرهم فقال: { وذلك } أي الجزاء العظيم { جزاء المحسنين * } أي كلهم، واختلفوا في هذه الواقعة بعد اتفاقهم على أنها في النجاشي وأصحابه، وذلك مبسوط في شرحي لنظمي للسيرة النبوية، فمن ذلك أنه لما قدم جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه من مهاجرة الحبشة مع أصحابه رضي الله عنهم قدم معهم سبعون رجلاً بعثهم النجاشي رضي الله عنه وعن الجميع وفداً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، عليهم ثياب الصوف، اثنان وستون من الحبشة، وثمانية من أهل الشام، وهم بحيرا الراهب وأبرهة وإدريس وأشرف وثمامة وقثم ودريد وأيمن، فقرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة يسۤ إلى آخرها، فبكوا حين سمعوا القرآن وآمنوا وقالوا: ما أشبه هذا بما كان ينزل على عيسى! فأنزل الله فيهم هذه الآية { لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا } [المائدة: 82] - إلى آخرها، ذكر ذلك الواحدي في أسباب النزول بغير سند، ثم أسند عن سعيد بن جبير في قوله تعالى: { ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً } [المائدة: 82] قال: بعث النجاشي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيار أصحابه ثلاثين رجلاً، فقرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يسۤ فبكوا، فنزلت فيهم هذه الآية. وإذا نظرت مكاتبات النبي صلى الله عليه وسلم للملوك ازددت بصيرة في صدق هذه الآية، فإنه ما كاتب نصرانياً إلا آمن، أو كان ليناً ولو لم يسلم كهرقل والمقوقس وهوذة بن علي وغيرهم، وغايتهم أنهم ضنوا بملكهم، وأما غير النصارى فإنهم كانوا على غاية الفظاظة ككسرى فإنه مزق كتابه صلى الله عليه وسلم ولم يجز رسوله بشيء، وأما اليهود فكانوا جيران الأنصار ومواليهم وأحبابهم، ومع ذلك فأحوالهم في العداوة غاية، كما هو واضح في السير، مبين جداً في شرحي لنظمي للسيرة، وكان السر في ذلك - مع ما تقدم من باعث الزهد - أنه لما كان عيسى عليه السلام أقرب الأنبياء زمناً من زمن النبي صلى الله عليه وسلم كان المنتمون إليه ولو كانوا كفرة أقرب الأمم مودة لاتباع النبي صلى الله عليه وسلم، وإلى ذلك يشير ما رواه الشيخان في الفضائل عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الدنيا والآخرة، الأنبياء أولاد علات - وفي رواية: أبناء، وفي رواية: إخوة لعلات أمهاتهم شتى ودينهم واحد، وليس بيني وبينه، وفي رواية: وليس بيني وبين عيسى - نبي. وفي رواية لمسلم:
"أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الأولى والآخرة، قالوا: كيف يا رسول الله! قال: الأنبياء إخوة من علات، أمهاتهم شتى ودينهم واحد، فليس بيننا نبي" .