التفاسير

< >
عرض

وَعَلَى ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ ٱلْبَقَرِ وَٱلْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَآ إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ ٱلْحَوَايَآ أَوْ مَا ٱخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذٰلِكَ جَزَيْنَٰهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَٰدِقُونَ
١٤٦
فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ ٱلْقَوْمِ ٱلْمُجْرِمِينَ
١٤٧
سَيَقُولُ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذٰلِكَ كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّىٰ ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَآ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ ٱلظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ
١٤٨
-الأنعام

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما كان قوله { طاعم } نكرة في سياق النفي، يعم كل طاعم من أهل شرعنا وغيرهم، وكان سبحانه قد حرم على اليهود أشياء غير ما تقدم، اقتضت إحاطة العلم أن قال مبيناً لإحاطة علمه وتكذيباً لليهود في قولهم: لم يحرم الله علينا شيئاً، إنما حرمنا على أنفسنا ما حرم إسرائيل على نفسه: { وعلى الذين هادوا } أي اليهود { حرمنا } بما لنا من العظمة التي لا تدافع { كل ذي ظفر } أي على ما هو كالإصبع للآدمي من الإبل والسباع والطيور التي تتقوى بأظفارها { ومن البقر والغنم } أي التي هي ذوات الأظلاف { حرمنا } أي بما لنا من العظمة { عليهم شحومهما } أي الصنفين؛ ثم استثنى فقال: { إلا ما حملت ظهورهما } أي من الشحوم مما علق بالظهر والجنب من داخل بطونهما { أو الحوايا } وهي الأمعاء التي هي متعاطفة متلوية، جمع حوية فوزنها فعائل كسفينة وسفائن، وقيل: جمع حاوية أو حاوياء كقاصعاء { أو ما اختلط } أي من الشحوم { بعظم } مثل شحم الألية فإن ذلك لا يحرم، وهذا السياق بتقدم الجار وبناء الكلام عليه يدل على أن ما عدا المذكور من الصنفين حلال لهم.
ولما كان كأنه قيل: لم حرم عليهم هذه الطيبات؟ قيل: { ذلك } أي التحريم العظيم والجزاء الكبير وهو تحريم الطيبات { جزيناهم } أي بما لنا من العظمة { ببغيهم } أي في أمورهم التي تجاوزوا فيها الحدود، وفي إيلاء هذه الآية - التي فيها ما حرم على اليهود - لما قبلها مع الوفاء بالمقصود من حصر محرمات المطاعم على هذه الأمة وغيرها أمران جليلان: أحدهما بيان اطلاعه صلى الله عليه وسلم على تفصيل ما أوحي إلي من تقدمه ولما يشامم أحداً من أتباعهم ولا دارس عالماً ولا درس علماً قط، فلا دليل على صدقه على الله أعظم من ذلك، والثاني تفضيله هذه الأمة بأنه أحل لها الخبائث عند الضرورة رحمة لهم، وأزال عنها في تلك الحالة ضرها ولم يفعل بها كما فعل باليهود في أنه حرم عليهم طائفة من الطيبات ولم يحلها لهم في حال من الأحوال عقوبة لهم، وفي ذلك أتم تحذير لهذه الأمة من أن يبغوا فيعاقبوا كما عوقب من قبلهم على ما نبه عليه في قوله
{ غير محلي الصيد وأنتم حرم } [المائدة: 1] فبان الصدق وحصحص الحق ولم يبقى لمتعنت كلام، فحسن جداً ختم ذلك بقوله { وإنا لصادقون * } أي ثابت صدقنا أزلاً وأبداً كما اقتضاه ما لنا من العظمة، وتعقيبه بقوله: { فإن } أي وتسبب عن هذا الإيحاء الجامع الوجيز الدال على الصدق الذي لا شبهة فيه أنا نقول ذلك: { كذبوك فقل } والتعبير بأداة الشك مشير إلى أن الحال يقتضي أن يستبعد أن يقع منهم تكذيب بعد هذا { ربكم } أي المحسن إليكم بالبيان والإمهال مع كل امتنان { ذو رحمة واسعة } أي فهو مع اقتداره قضى أنه يحلم عنكم بالإمهال إلى أجل يعلمه.
ولما أخبر عن رحمته، نوه بعظيم سطوته فقال: { ولا يرد بأسه } أي إذا أراد الانتقام { عن القوم المجرمين * } أي القاطعين لما ينبغي وصله، فلا يغتر أحد بإمهاله في سوء أعماله وتحقيق ضلاله، وفي هذه الآية من شديد التهديد ما لطيف الاستعطاف ما هو مسبوك على الحد الأقصى من البلاغة.
ولما تم ذلك فعلم أن إقدامهم على الأحكام الدينية بغير حجة أصلاً، اقتضى الحال أن يقال: قد بطل بالعقل والنقل جميع ما قالوه في التحريم على وجه أبطل شركهم، فهل بقي لهم مقال؟ فأخبر سبحانه بشبهة يقولونها اعتذاراً عن جهلهم على وجه هو وحده كاف في الدلالة على حقية ما يقوله من الرسالة، فوقع طبق ما قال عن أهل الضلال، فقال مخبراً بما سيقولونه قبل وقوعه دلالة على صدق رسله وكذب المشركين فيما يخالفونهم فيه: { سيقول } أي في المستقبل، وأظهر موضع الإضمار تنصيصاً عليهم وتبكيتاً لهم فقال: { الذين أشركوا } تكذيباً منهم { لو شاء الله } أي الذي له جميع الكمال عدم إشراكنا وتحريمنا { ما أشركنا } أي بصنم ولا غيره { ولا أباؤنا } أي ما وقع من إشراك { ولا حرمنا من شيء } أي ما تقدم من البحائر والسوائب والزروع وغيرها أي ولكنه لم يشأ الترك وشاء الفعل ففعلنا طوع مشيئته، وهو لا يشاء إلا الحق والحكمة لأنه قادر، فلو لم يكن حقاً يرضاه لمنعنا منه، وهو لم يمنعنا منه فهو حق.
ولما كان هذا عناداً منهم ظاهراً بعد وضوح الأمر بما أقام على صدق رسله من البينات، كان كأنه قيل تعجباً منهم: هل فعل أحد غيرهم مثل فعلهم هذا أو قال مثل ما قالوا؟ فقيل: نعم { كذلك } أي مثل ذلك التكذيب البعيد عن الصواب { كذب الذين } ولما لم يكن التكذيب عاماً أدخل الجار فقال: { من قبلهم } من الأمم الخالية بما أوقعوا من نحو هذه المجادلة في قولهم إذا كان الكل بمشيئة الله كان التكليف عبثاً، فكانت دعوى الأنبياء باطلة، وهذا القول من المشركين عناد بعد ثبوت الرسالات بالمعجزات وإخبار الرسل بأنه يشاء الشيء ويعاقب عليه لأن ملكه تام ومِلكه عام، فهو لا يسأل عما يفعل، وتمادى بهم غرور التكذيب { حتى ذاقوا بأسنا } أي عذابنا لما لنا من العظمة، فإن من له الأمر كله لا يسأل عما يفعل، فلم ينفعهم عنادهم عند ذوق البأس، بل انحلت عزائم همهم فخضعوا لنا وآمنوا برسلنا، فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا، فالآية من الاحتباك: أثبت أولاً الإشراك دليلاً على حذفه ثانياً، وثانياً التكذيب دليلاً على حذفه أولاً، وسيأتي توجيه أنه لا بد من تضليل إحدى الطائفتين المتعاندتين وإن كان الكل بمشيئة الله، لأنه لا مانع من إتيان الأمر على خلاف الإرادة.
ولما كان ما قالوه شبهة بعيدة عن العلم، أعلى درجاتها أن يكون من أنواع الخطابة فتفيد الظن في أعظم مسائل علم الأصول الذي لا يحل الاعتماد فيه إلا على القواطع، أمره أن يقول لهم ما ينبههم على ذلك فقال: { قل } أي لهؤلاء الذين تلقوا ما يلقيه الشيطان إليهم - كما أشير إليه في سورة الحج - تهكماً بهم في بعدهم عن العلم وجدالهم بعد نهوض الحجج { هل عندكم } أيها الجهلة، وأغرق في السؤال فقال: { من علم } أي يصح الاحتجاج به في مثل هذا المقام الضنك { فتخرجوه لنا } أي لي ولأتباعي وإن كان مما يجب أن يكون مكنوناً مضنوناً به على غير أهله مخزوناً، فهو تهكم بهم.
ولما كان جوابهم عن هذا السكوت لأنه لا علم عندهم، قال دالاً على ذلك: { إن } أي ما { تتبعون } أي في قولكم هذا وغالب أموركم { إلا الظن } أي في أصول دينكم وهي لا يحل فيها قول إلا بقاطع { وإن } ي وما { أنتم إلا تخرصون * } أي تقولون تارة بالحزر والتخمين وتارة بالكذب المحض اليقين.