التفاسير

< >
عرض

وَإِذَا جَآءَكَ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَٰمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوۤءًا بِجَهَٰلَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٥٤
وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ ٱلآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ ٱلْمُجْرِمِينَ
٥٥
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ ٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ قُلْ لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَآءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ ٱلْمُهْتَدِينَ
٥٦
-الأنعام

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما نهاه صلى الله عليه وسلم عن طردهم، علمه كيف يلاطفهم فقال عاطفاً على ما تقديره: وإذا جاءك الذين يحتقرون الضعفاء من عبادي فلا تحفل بهم: { وإذا جاءك } وأظهر موضع الإضمار دلالة على الوصف الموجب لإكرامهم وتعميماً لغيرهم فقال: { الذين يؤمنون } أي هم أو غيرهم أغنياء كانوا أو فقراء، وأشار بمظهر العظمة إلى أنهم آمنوا بما هو جدير بالإيمان به فقال: { بآياتنا } على ما لها من العظمة بالنسبة إلينا { فقل } أي لهم بادئاً بالسلام إكراماً لهم وتطييباً لخواطرهم { سلام عليكم } أي سلامة مني ومن الله، ونكره لما يلحقهم في الدنيا من المصائب؛ ثم علل ذلك بقوله: { كتب ربكم } أي المحسن إليكم { على نفسه الرحمة } ثم علل ذلك بقوله واستأنف بما حاصله أنه علم من الإنسان النقصان، لأنه طبعه على طبائع الخسران إلا من جعله موضع الامتنان فقال: { أنه من عمل منكم سوءاً } أي أيّ سوء كان ملتبساً { بجهالة } أي بسفه أو بخفة وحركة أخرجته عن الحق والعلم حتى كان كأنه لا يعلم شيئاً { ثم تاب } أي رجع بالندم والإقلاع وإن طال الزمان، ولذا أدخل الجار فقال: { من بعده } أي بعد ذلك العمل { وأصلح } بالاستمرار على الخير { فإنه } أي ربكم بسبب هذه التوبة يغفر له لأنه دائماً { غفور } أي بالغ الستر والمحو لما كان من ذلك { رحيم * } يكرم من تاب هذه التوبة بأن يجعله كمن أحسن بعد أن جعله بالغفر كمن لم يذنب، ومن أصر وأفسد فإنه يعاقبه، لأنه عزيز حكيم، وربما كانت الآية ناظرة إلى ما قذفهم به المشركون من عدم الإخلاص، ويكون حينئذ مرشحاً لأن المراد بالحساب المحاسبة على الذنوب.
ولما أتى في هذه السورة وما قبلها بما أتى من عجائب التفاصيل لجميع الأحوال متضمنة واضح الدلالات وباهر الآيات البينات، قال عاطفاً على { وكذلك فتنا } عطفاً للضد على ضده، فإن في الاختبار نوع خفاء: { وكذلك } أي ومثل الفتن بإيراد بعض ما فيه دقة وخفاء من بعض الوجوه لنضل من نشاء، فيتميز الضال من المهتدي { نفصل الآيات } التي نريد بيانها ليتضح سبيل المصلحين فيتبع { ولتستبين } أي تظهر ظهوراً بيناً { سبيل المجرمين * } فتجتنب، وخص هذا بالذكر وإن كان يلزم منه بيان الأول، لأن دفع المفاسد أهم.
ولما كان محط حالهم في السؤال طرد الضعفاء قصد اتباع أهوائهم، أمره تعالى بأن يخبرهم أنه مباين لهم - لما بين له بالبيان الواضح من سوء عاقبة سبيلهم - مباينة لا يمكن معها اتباع أهوائهم، وهي المباينة في الدين فقال: { قل إني نهيت } أي ممن له الأمر كله { أن أعبد الذين تدعون } أي تعبدون بناء منكم على محض الهوى والتقليد في أعظم أصول الدين، وحقر أمرهم وبين سفول رتبتهم بقوله: { من دون الله } أي الذي لا أعظم منه، فقد وقعتم في ترك الأعظم ولزوم الدون الذي هو دونكم في أعظم الجهل المؤذن بعمى القلب مع الكفر بالمحسن، فمباينتي مبناها على المقاطعة، فكيف تطمع في متابعة! ثم أكد ذلك بأمر آخر دال على أنه لا شبهة لهم في عبادتهم فقال: { قل لا أتبع أهواءكم } أي عوضاً عما أنا عليه من الحكمة البالغة المؤيدة بالبراهين الساطعة والأدلة القاطعة.
ولما كان من المعلوم أن الهوى لا يدعو إلى هدى، بل إلى غاية الردى، حقق ما أفهمته هذه الجملة بقوله: { قد ضللت إذاً } أي إذا اتبعت أهواءكم؛ ولما كان الضال قد يرجع، بين أن هذا ليس كذلك، لعراقتهم في الضلال، فقال معبراً بالجملة الاسمية الدالة على الثبات: { وما أنا } أي إذ ذاك على شيء من الهداية لأعد { من المهتدين * }.