التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِلَىٰ جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ
٣٦
لِيَمِيزَ ٱللَّهُ ٱلْخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ ٱلْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىٰ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْخَاسِرُونَ
٣٧
قُل لِلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الأَوَّلِينَ
٣٨
وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله فَإِنِ انْتَهَوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
٣٩
وَإِن تَوَلَّوْاْ فَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ مَوْلاَكُمْ نِعْمَ ٱلْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ ٱلنَّصِيرُ
٤٠
-الأنفال

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما أخبر سبحانه عن أحوال الكفار في الأعمال البدنية، وكان غلبهم مع كثرتهم وقوتهم مستبعداً، أخبر بما يقربه مبيناً لأعمالهم المالية فقال: { إن الذين كفروا } أي مع كثرتهم لأنهم ستروا مرائي عقولهم التي هي الإنسان بالحقيقة فنقصوا بذلك نقصاً لا يدرك كنهه { ينفقون أموالهم } أي يعزمون على إنفاقها فيما يأتي { ليصدوا } أي بزعمهم أنفسهم وغيرهم { عن سبيل الله } أي عن سلوك طريق - الذي لا يدني عظمته عظمة مع اتساعه ووضوحه وسهولته { فسينفقونها } أي بحكم قاهر لهم لا يقدرون على الانفكاك عنه { ثم تكون } أي بعد إنفاقها بمدة، وعبر بعبارة ظاهرة في مضرتها فقال: { عليهم } وأبلغ في ذلك بأن أوقع عليها المصدر فقال: { حسرة } أي لضياعها وعدم تأثيرها { ثم يغلبون* } أي كما اتفق لهم في بدر سواء، فإنهم أنفقوا مع الكثرة والقوة ولم يغن عنهم شيء من ذلك شيئاً مما أراد الله بهم، بل كان وبالاً عليهم، فإنه كان سبباً لجرأتهم حتى أقدموا نظراً إلى الحاضر وقصوراً عن الغائب كالبهائم فهلكوا، وكان ذلك قوة للمؤمنين فما كان في الحقيقة إلا لهم، وهذا الكلام منطبق على ما كان سبب نزوله الآية وعلى كل ما شاكله، وذلك أنهم لما قهروا في بدر قال لهم أبو سفيان: إنه ينبغي أن تنفقوا مال تلك العير - يعني التي كانت معه - ونحث على حرب محمد، فأجابوا وأنفقوه على غزوة أحد فحصل لهم فيها بعض ظفر ثم تعقبه الحسرة والمغلوبية في بدر الموعد وكل ما بعدها؛ ثم أظهر وصفهم الذي استحقوا به ذلك تعليقاً للحكم به وتعميماً منذراً لهم بما هو أشد من ذلك فقال: { والذين كفروا } أي حكم بدوام كفرهم عامة سواء زادوا على الكفر فعل ما تقدم أم لا { إلى جهنم } أي لا إلى غيرها.
ولما كان المنكى هو الحشر، لا كونه من معين، بني للمفعول قوله: { يحشرون* } أي بعد الموت فهم في خزي دائم دنيا وأخرى، ويجوز أن يتجوز بجهنم عن أسبابها فيكون المعنى أنهم يستدرجون بمباشرة أسبابها إليها ويحملون في الدنيا عليها، وهذه الآيات - مع كونها معلمة بما لهم في الدنيا وما لهم في الآخرة من أن آخر أمرهم في الدنيا الغلب كما كشف عنه الزمان علماً من أعلام النبوة وفي الآخرة جهنم - هي مبينة لكذبهم في قولهم
{ لو نشاء لقلنا مثل هذا } [الأنفال: 31] فإنهم لو كانوا صادقين في دعواهم لقالوا مثله ثم قالوا: لو كان هذا هو الحق لا غيره لما قلنا مثله، موضع قولهم { إن كان هذا هو الحق } [الأنفال: 32] إلى آخره، وأما آية المكاء والتصدية فكأنها تقول: هذا القرآن في أعلى درج البلاغة ولم تؤهلوا أنتم - مع ادعائكم السبق في البلاغة - لأن تعارضوا بشيء له أهلية لشيء من البلاغة، بل نزلتم إلى أصوات الحيوانات العجم حقيقة، فلا أجلى من هذا البيان على ما ادعيتم من الزور والبهتان، وأما آية الإنفاق فقائلة: لو قدرتم في معارضته على إنفاق الأقوال لما عدلتم عنه إلى إنفاق الأموال المفضي إلى مقاساة الأهوال وفساد الأشباح ونفوق ما حوت من الأرواح المؤدي إلى الذل السرمد بالعذاب المؤبد.
ولما ذكر حشر الكافرين ذكر علته فقال معلقاً بيحشرون: { ليميز الله } أي الذي له صفات الكمال بذلك الحشر { الخبيث من الطيب } أي إنما جعل للكفار داراً تخصهم ويخصونها لإظهار العدل والفضل بأن يميز الكافر من المؤمن فجعل لكل دار يتميز بها عدلاً في الكافرين وفضلاً على المؤمنين، فيجعل الطيب في مكان واسع حسن { ويجعل الخبيث } أي الفريق المتصف بهذا الوصف { بعضه على بعض } والركم: جمع الشيء بعضه فوق بعض، فكأن قوله: { فيركمه جميعاً } عطف تفسير يؤكد الذي قبله في إرادة الحقيقة مع إفهام شدة الاتصال حتى يصير الكل كالشيء الواحد كالسحاب المركوم، والنتيجة قوله: { فيجعله في جهنم } أي دار الضيق والغم والتهجم والهم.
ولما كان هذا أمراً لا فلاح معه، استأنف قوله جامعاً تصريحاً بالعموم: { أولئك } أي البعداء البغضاء الذين أفهمهم اسم الجنس في الخبيث { هم الخاسرون* } أي خاصة لتناهي خسرانهم، لأنهم اشتروا بأموالهم إهلاك أنفسهم بذلك الحشر.
ولما بين ضلالهم في عبادتهم البدنية والمالية، وكان في كثير من العبارات السالفة القطع للذين كفروا بلفظ الماضي بالشقاء، كان ذلك موهماً لأن يراد من أوقع الكفر في الزمن الماضي وإن تاب، فيكون مؤيساً من التوبة فيكون موجباً للثبات على الكفر، قال تعالى متلطفاً بعباده مرشداً لهم إلى طريق الصواب مبيناً المخلص مما هم فيه من الوبال في جواب من كأنه قال: أما لهم من جبلة يتخلصون بها من الخسارة { قل للذين } أي لأجل الذين { كفروا } أني أقبل توبة من تاب منهم بمجرد انتهائه عن حاله { إن ينتهوا } أي يتجدد لهم وقتاً ما الانتهاء عن مغالبتهم بالانتهاء عن كفرهم فيذلوا لله ويخضعوا لأوامره { يغفر لهم } بناه للمفعول لأن النافع نفس الغفران وهو محو الذنب { ما قد سلف } أي مما اجترحوه كائناً ما كان فيمحي عيناً وأثراً فلا عقاب عليه ولا عتاب { وإن } أي وإن يثبتوا على كفرهم و { يعودوا } أي إلى المغالبة { فقد مضت سنت } أي طريقة { الأولين* } أي وجدت وانقضت ونفذت فلا مرد لها بدليل ما سمع من أخبار الماضين وشوهد من حال أهل بدر مما أوجب القطع بأن الله مع المؤمنين وعلى الكافرين، ومن كان معه نصر، ومن كان عليه خذل وأخذ وقسر
{ { كتب الله لأغلبن أنا ورسلي } } [المجادلة: 21] { و لينصرن الله من ينصره } [الحج: 40] { { والعاقبة للمتقين } [القصص: 128] وإن كانت الحرب سجالاً.
ولما أشار ختم الآية قتالهم إن أصروا، وكان التقدير: فأقدموا عليهم حيثما عادوكم إقدام الليوث الجريئة غير هائبين كثرتهم ولا قوتهم فإن الله خاذلهم، عطف عليه قوله مصرحاً بالمقصود: { وقاتلوهم } أي دائماً { حتى لا تكون فتنة } أي سبب يوجب ميلاً عن الدين أصلاً { ويكون الدين }.
ولما كانت هذه الوقعة قد سرت كتائب هيبتها في القلوب فوجبت أيما وجبت، فضاقت وضعفت صدور الكافرين، وانشرحت وقويت قلوب المؤمنين؛ اقتضى هذا السياق التأكيد فقال: { كله لله } أي الملك الأعظم خالصاً غير مشوب بنوع خوف أو إغضاء على قذى، وأصل الفتن: الخلطة المحيلة، ويلزم ذلك أن يكون السبب عظيماً لأن الشيء لا يحول عن حاله إلا لأمرعظيم لأن مخالفة المألوف عسرة، ومنه النتف، وكذا نفت القدر، وهو أن يغلي المرق فيلزق بجوانبها، والتنوفة: القفر، لأنه موضع ذلك، ويلزمه الإخلاص، من فتنت الذهب - إذا أذبته فتميز جيده من رديئه، وتارة يكون الميل إلى جهة الرديء وهو الأغلب، وتارة إلى الجيد، ومنه
{ { وفتناك فتوناً } [طه:40].
ولما كان لهم حال اللقاء حالان: إسلام وإقبال، وكفر وإعراض وإخلال، قال مبيناً لحكم القسمين: { فإن انتهوا } أي عن قتالكم بالمواجهة بالإسلام فاقبلوا منهم وانتهوا عن مسهم بسوء ولا تقولوا: أنتم متعوذون بذلك غير مخلصين، تمسكاً بالتأكيد بكله، فأنه ليس عليكم إلا ردهم عن المخالفة الظاهرة، وأما الباطن فإلى الله { فإن الله } أي المحيط علماً وقدرة، وقدم المجرور اهتماماً به إفهاماً لأن العلم به كالمختص به فقال: { بما يعملون } أي وإن دقَّ { بصير* } فيجاريهم عليه، وأما أنتم فلستم عالمين بالظاهر والباطن معاً فعليكم قبول الظاهر، والله بما تعملون أنتم أيضاً - من كف عنهم وقتل لله أو لحظّ نفس - بصير، فيجازيكم على حقائق الأمور وبواطنها وإن أظهرتم للناس ما يقيم عذركم، ويكمل لكل منكم أجر ما كان عزم على مباشرته من قتالهم لو لم ينتهوا، وإن لم ينتهوا بل أقدموا على قتالكم، هكذا كان الأصل، ولكنه سبحانه عبر بقوله: { وإن تولوا } أي عن الإجابة تبشيراً لهم بهزيمتهم وقلة ثباتهم لما ألقى في قلوبهم من الرعب، ويؤيد ذلك قوله: { فاعلموا أن الله } أي الذي له الإحاطة الكاملة بكل شيء { مولاكم } أي متولي أموركم فهو يعمل معكم ما يعمل من يتولى امر من يحبه من الاجتهاد في تحصيل ما ينفعه ودفع ما يضره فهو لا محالة ناصركم؛ ثم استأنف مدحه بما هو أهله تعريفاً بقدره وترغيباً في تولية فقال: { نعم المولى } ولم يدخل فاء السبب هنا لأن المأمور به العلم، واعتقاد كونه مولى واجب لذاته لا لشيء آخر، بخلاف ما في آخر الحج، فإن المأمور هناك الاعتصام { ونعم النصير* } أي فلا تخافوهم أصلاً وإن زادت كثرتهم وقويت شوكتهم فلا تبارحوهم حتى لا يكون إلا كلمة الله.