التفاسير

< >
عرض

لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُعْتَدُونَ
١٠
فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَٰوةَ فَإِخْوَٰنُكُمْ فِي ٱلدِّينِ وَنُفَصِّلُ ٱلأيَـٰتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ
١١
وَإِن نَّكَثُوۤاْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوۤاْ أَئِمَّةَ ٱلْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ
١٢
أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُوۤاْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ ٱلرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُمْ مُّؤُمِنِينَ
١٣
قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ ٱللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ
١٤
-التوبة

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما أخبر تعالى بعراقتهم في الفسق، دل عليه بأن خيانتهم ليست خاصة بالمخاطبين، بل عامة لكل من اتصف بصفتهم من الإيمان،فمدار خيانتهم على الوصف، فقال: { لا يرقبون في مؤمن إِلاًّ } أي قرابة وأصلاً جيداً ثابتاً { ولا ذمة } أي عهداً أكيداً { وأولئك } أي البعداء من كل خير { هم } أي خاصة لتناهي عدوانهم { المعتدون* } أي عادتهم المبالغة في حمل أنفسهم على أن يعدوا الحدود لعدم ما يردهم عن ذلك من وازع إلهي ورادع شرعي كما فعل عامر بن الطفيل بأهل بئر معونة مع أنهم في جوار عمه وكان من خبرهم أن عمه أبا براء عامر بن مالك بن جعفر ملاعب الأسنة قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: لو بعثت رجالاً من أصحابك إلى أهل نجد رجوت أن يستجيبوا لك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني أخشى عليهم أهل نجد، قال أبو براء: أنا لهم جار. فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم: المنذر بن عمرو أخا بني ساعدة المعنق ليموت في سبعين رجلاً من أصحابه من خيار المسلمين، فما نزلوا بئر معونه بعثوا حرام بن ملحان بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عامر بن الطفيل فلم ينظر في كتابه وعدا عليه فقتله، ثم استصرخ عليهم بني عامر فأبوا وقالوا: لن نخفر أبا براء، فاستصرخ عليهم قبائل من بني سليم: عصية ورعلاً وذكوان فقتلوهم فلم يفلت منهم إلا ثلاثة نفر عمرو بن أمية الضمري أحدهم، فعظم ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ودعا على قتلتهم شهراً؛ قال البغوي: وقال ابن عباس رضي الله عنهما: إن أهل الطائف أمدوهم - يعني قريشاً - بالأموال ليقووهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا الذي أحكمه تعالى من نبذ العهد نظر للدين، لأنه نظر لجميع أهله الذين لا يوجد إلا بهم.
ولما بين ما أوجب بعدهم منهم ومعاداتهم لهم، بين ما يصيرون به أهلاً فقال { فإن تابوا } أي بالإيمان بسبب ما أبديتم لهم من الغلظة { وأقاموا } أي أيدوا ذلك بأن أقاموا { الصلاة } أي بجميع حدودها { وآتوا الزكاة } أي كما حده رسول الله صلى الله عليه وسلم { فإخوانكم } أي هم، وبين أنها ليست أخوة النسب فقال: { في الدين } لهم ما لكم وعليهم ما عليكم، فلا تعرضوا لهم بما يكرهونه.
ولما كان كأنه قيل بعثاً وتحريضاً على تأمل ما فصل: قد فصلنا لكم أمرهم في هذه الآيات تفصيلاً، عطف عليه قوله: { ونفصل } أي في كل أمر يحتاجون جميع { الآيات } وعظم هذه الآيات وحثم على تدبرها بقوله: { لقوم يعلمون* } أي صار العلم لهم صفة فلهم ملكة يتصرفون بها في أصوله وفروعه، لا يغترون بمجرد كلام من شأنه الرداءة والمخالفة بين القول والعمل، والاعتراض بهذا بين هذه الجمل المتلاحمة إشارة إلى عظم الأمر الذي نبه عليه وتحريض على إنعام النظر فيه ليعلم أن مدخوله جليل الأمر عظيم القدر لئلا يظن أنه تكرار.
ولما بين السبب الموجب لمجازاتهم بجنس عملهم، وهو البراءة منهم وما يتبع ذلك إلى أن ختم بتقدير توبتهم، رجع إلى قسيم قوله { فما استقاموا لكم } فقال: { وإن نكثوا أيمانهم } أي التي حلفوها لكم؛ ولما كان النقض ضاراً وإن قصر زمنه، أتى بالجار فقال: { من بعد عهدهم } أي الذي عقدوه { وطعنوا } أي أوقعوا الطعن { في دينكم } أي بقول أو فعل.
ولما كان هذا الفعل لا يستقل به في الأغلب إلا الرؤساء، أشار إلى ذلك بقوله: { فقاتلوا } ووضع موضع ضميرهم تحريضاً على قتالهم وإشارة إلى أنهم ما نكثوا وأقدموا على هجنة الكذب ولم يستهجنوا الخروج عن عادات الكرام إلا وقد رسخوا في الكفر فقال: { أئمة الكفر } ثم أشار - بقوله معللاً لجواز المقاتله: { إنهم لا أيمان لهم } إلى أن ذلك ولو فعله الأتباع ولم يكفهم الرؤساء فهو عن تمال منهم فابدؤوا بالرؤوس فاقطعوها تنقطع الأذناب، وقراءة ابن عامر بالكسر معناها: لا أمان لهم لأنهم قد نقضوا العهد الموجب له بما وقع منهم، ومن طعن من أهل الذمة في الإسلام طعناً ظاهراً جاز قتله، فإن العهد مأخوذ عليه أن لا يطعن، ثم علل المقاتله بقوله: { لعلهم ينتهون* } أي اجعلوا قصدكم لقتالهم أن يكون حالهم حال من ينتهي عن غيه بما يرى منكم من صادق الجد بماضي الحد، روى البخاري في التفسير عن حذيفة رضي الله عنه قال: ما بقي من أصحاب هذه الآية إلا ثلاثة ولا من المنافقين إلا أربعة احدهم شيخ كبير لو شرب الماء البارد لما وجد برده.
ولما نفى أيمانهم بنفي إيمانهم، شرع يقيم الدليل على ذلك بأمور ارتكبوها، كل منها بسبب باعث على الإقدام عليهم، ويحث على قتالهم في صورة تعجيب ممن يتواني فيه فقال: { ألا } وهو حرف عرض، ومعناه هنا الحض لدخول همزة الإنكار على النافي فنفته فصار مدخولها مثبتاً على سبيل الحث عليه فهو ابلغ مما لو أثبت بغير هذا الأسلوب { تقاتلون قوماً } أي وإن كانوا ذوي منعة عظيمة { نكثوا أيمانهم } أي في قصة عاصم وأصحابه والمنذر وأصحابه والإعانة على خزاعة وغير ذلك، فكان النكث لهم عادة وخلقاً، وهذا يدل على أن قتال الناكثين أولى من قتال غيرهم ليكون ذلك زاجراً عن النقض، وكانت قصة خزاعة أنه كان بينهم وبين بني بكر بن عبد مناة بن كنانة قتل في الجاهلية، وكانت خزاعة قد دخلت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية لما كان لهم فيه من المحبة من مسلمهم وكافرهم لما بينهم من الحلف - كما تقدم آخر الأنفال، ودخلت بنو بكر في عهد قريش فمرت على ذلك مدة، ثم إن أنس بن زنيم الديلي هجا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعه غلام من خزاعة فوقع به فشجه فخرج إلى قومه فأراهم شجته فثار الشر مع ما كان بينهم، وما تطلب بنو بكر من خزاعة من دمائها، فكلمت بنو نفاثة من بني بكر أشراف قريش فوجدوا القوم إلى ذلك سراعاً فأعانوهم بالسلاح والكراع والرجال، فخرج نوفل بن معاوية الديلي وهو يومئذ قائدهم؛ قال ابن إسحاق: وليس كل بني بكر بايعه - وقال الواقدي: واعتزلت بنو مدلج فلم ينقضوا العهد - حتى بيت خزاعة وهم على الوتير ماء لهم، فأصابوا منهم رجلاً وتجاوزوا واقتتلوا وقاتل معهم من قريش من قاتل بالليل مستخفياً متنكرين منتقبين: صفوان بن أمية ومكرز بن حفص بن الأخيف وحويطب بن عبد العزى وعكرمة بن أبي جهل وأجلبوا معهم أرقاءهم، وكانت خزاعة آمنة لمكان العهد والموادعة.
ولما ذكرهم بمطلق نكثهم في حقهم عامة، وذكرهم بما خصوا به سيدهم بل سيد الخلق كلهم فقال: { وهموا بإخراج الرسول } أي من مكة في عمرة القضاء، بل أمروه بالخروج عند انقضاء الثلاثة الأيام وألحو في ذلك وهو وإن كان قاضاهم على ذلك، لكن قد نقل ابن إسحاق وغيره في قصة النداء بسورة براءة أنه كان في القضية والعهد الذي كان بينه وبينهم أن لا يمنع من البيت أحد جاءه زائراً، ولعلهم هموا بإخراجه قبل الثلاثة الأيام لما داخلهم من الحسد عند ما عاينوا من نشاط أصحابه وكثرتهم وحسن حالهم، وذلك غير بعيد من أفعالهم، وإظهارهم التبرؤ به صلى الله عليه وسلم حتى اجترؤوا - وهو أعلى الخلق مقداراً، وأظهرهم هيئة وأنواراً وأطهرهم رسوماً وآثاراً - على الإلحاح عليه في الخروج من بلد آبائه وأجداده الذين هم أحقهم بها ومسقط رأسه وموضع مرباه، ولكن لم أراه مصرحاً به، وهوعندي على ما فيه أولى مما ذكروه من الهم بإخراجه عند الهجرة على ما لا يخفى، أو يكون المراد ما همّ به ابن أبي المنافق ومن تابعه من أصحابه من إخراج النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة حيث قال في غزوة المريسيع: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الذل بعد إعطائهم العهود على الإيواء والنصرة والإسلام، وذلك لتذكير المؤمنين بمسارعتهم إلى النقض بعد أن أثبت أنهم في الالتحام في كيد الإسلام كالجسد الواحد، فكأنه يقول: إذا ترك هؤلاء إيمانهم فاولئك أحرى أن ينقضوا أيمانهم، وهو بعث للمؤمنين على التبرؤ من الكافرين منافقين كانوا أو مجاهرين مقاربين أو مباعدين.
ولما ذكرهم بالخيانة عامة وخاصة، أتبعها ما حققها بالقتال فقال: { وهم بدءوكم } أي بتطابق من ضمائرهم وظواهرهم { أول مرة } أي بالقتال والصد في الحديبية بعد إخباركم إياهم بأنكم لم تجيئوا للقتال وأنكم ما جئتم إلا زواراً للبيت الحرام الذي الناس فيه سواء وأنتم أحق به منهم، وذلك أول بالنسبة إلى هذا الثاني مثل قوله { إنكم رضيتم بالقعود أول مرة } وقال بعض المفسرين: المراد بأول مرة قتالهم خزاعة، وهو واضح لأنه بعد عقد الصلح، وقيل: في بدر بعد ما سلمت عيرهم وقالوا: لا نرجع حتى نستأصل محمداً وأصحابه، وقيل:المراد به مطلق القتال لأن النبي صلى الله عليه وسلم جاءهم بالكتاب المنير ودعاهم بغاية اللين، وتحداهم به عند التكذيب، فعدلوا عن ذلك إلى القتال فهم البادئون البادىء أظلم.
ولما أمرهم بالقتال وكان مكرهاً إلى النفوس على كل حال. شرع يبين الأسباب الحاملة على التواني عن قتالهم، وحصرها في في الخشية والعاطفة، وقسم العاطفة إلى ما سببه القرب في محاسن الأفعال وإلى ما سببه القرب في النسب والصهر، ونقض الكل وبين أنه لا شيء منها يصلح للسببية، فقال بادئاً بالخشية لأنها السبب الأعظم في ترك المصادمة منكراً عليهم موبخاً لهم ليكون أبلغ في الحث على قتالهم منبهاً على أن التواني عنهم مصحح للوصف بالجبن ورقة الدين: { أتخشونهم } أي أتخافون أن يظفرون بكم في القتال بأن يكونوا على باطلهم أشد منكم على حقكم { فالله } أي الذي له مجامع العظمة { أحق } أي منهم { أن تخشوة } أي بأن يكون مخشياً لكم لما تعلمون من قدرته في أخذه لمن خالفه ولو بعد طول الأناة { إن كنتم مؤمنين* } أي فإن من صدق بانه الواحد الذي تفرد بصفات العظمة لم ينظر إلى غير هيبته.
ولما بكت في التواني عنهم، وعدهم بما يزيل خشيتهم منهم، بل يوجب إقدامهم عليهم ورغبتهم فيهم، فقال مصرحاً فيهم، فقال مصرحاً بما تضمنه الاستفهام الإنكاري في { ألا تقاتلون } من الأمر: { قاتلوهم } أي لله لا لغرض غيره { يعذبهم الله } أي الذي أنتم مؤمنون بأنه المتفرد بصفات الجلال والجمال { بأيديكم } أي بأن تقتلوهم وتأسروهم وتهزموهم { ويخزهم } أي بالذل في الدنيا والفضيحة والعذاب في الأخرى.
ولما كان ذلك قولاً لا يقتضي النصر الذي هو علو العاقبة قال: { وينصركم عليهم } أي فترضوا ربكم بذلك لإذلالة من يعاديه بكم؛ ولما كان نكالهم بما ذكر يثمر لبعض المؤمنين سروراً لهم فيه حظ، بين تعالى أنه لا يؤثر في العمل بعد ثباته على أساس الإخلاص فقال: { ويشف } أي بذلك { صدور قوم مؤمنين* } أي راسخين في الإيمان، أسلفوا إليهم مساوىء أوجبت ضغائن وإحناً كخزاعة وغيرهم ممن أعانوا عليه أو أساؤوا إليه.