التفاسير

< >
عرض

أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَٰهِيمَ وَأَصْحَـٰبِ مَدْيَنَ وَٱلْمُؤْتَفِكَـٰتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِٱلْبَيِّنَـٰتِ فَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـٰكِن كَانُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
٧٠
وَٱلْمُؤْمِنُونَ وَٱلْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ ٱللَّهُ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
٧١
-التوبة

نظم الدرر في تناسب الآيات والسور

ولما قرر سبحانه بهذه الآية تشابههم في التمتع بالعاجل، وختمها بهذا الختام المؤذن بالانتقام، اتبع ذلك بتخويفهم من متشابهتهم فيما حل بطوائف منهم ملتفتاً إلى مقام الغيبة لأنه أوقع في الهيبة، فقال مقرراً لخسارتهم: { ألم يأتهم } أي هؤلاء الأخابث من أهل النفاق { نبأ الذين من قبلهم } أي خبرهم العظيم الذي هو جدير بالبحث عنه ليعمل بما يقتضيه حين عصوا رسلنا؛ ثم أبدل من ذلك قوله: { قوم نوح } أي في طول أعمارهم وامتداد آثارهم وطيب قرارهم بحسن التمتع في أرضهم وديارهم، أهلكهم بالطوفان، لم يبق عن عصاتهم إنسان، وعطف على قوم القبيلة فقال؛ { وعاد } أي في قوة أبدانهم وعظيم شأنهم ومصانعهم وبنيانهم وتجبرهم في عظيم سلطانهم، أهلكهم بالريح الصرصر، لم يبق ممن كفر منهم بشر { وثمود* } أي في تمكنهم من بلاد الحجر عرضها وطولها، جبالها وسهولها، أهلكوا بالرجفة لم يبق من الكفار منهم ديار { وقوم إبراهيم } أي في ملك جميع الأرض بطولها والعرض، سلب الله منهم الملك بعد شديد الهلك { وأصحاب مدين } أي في جمع الأموال ومد الآمال إلى أخذها من حرام وحلال ونقص الميزان والمكيال فعمهم الله بالنكال { والمؤتفكات } أي في إعراضهم عن صيانة أعراضهم في اتباع لذائذ أغراضهم، فأثمر لهم فعلهم بعد الخسف عموم انقراضهم.
ولما كان كأنه قيل: ما نبأهم؟ قال: { أتتهم رسلهم } أي أتى كل أمة منهم رسولها { بالبينات } أي بالمعجزات الواضحات جداً بسبب أنهم ارتكبوا من القبائح ما أوجب دمارهم { فما } أي فتسبب عن ذلك أنه { ما } { كان الله } أي مع ما له من صفات الكمال مريداً { ليظلمهم } أي لأن يفعل بهم في الإهلاك قبل الإنذار وإنارة البينات فعل من تعدونه فيما بينكم ظالماً، ولكنه أرسل إليهم الرسل فكذبوا ما أتوهم به من البينات، فصار العالم بحالهم إذا سمع بهلاكهم وبزوالهم يقول:ما ظلمهم الله { ولكن كانوا } أي دائماً في طول أعمارهم { أنفسهم } أي لاغيرها { يظلمون* } أي بفعل ما يسبب هلاكها، فإن لم ترجعوا أنتم فنحن نحذركم مثل عذابهم، ولعله خص هؤلاء بالذكر من بين بقية الأمم لما عند العرب من أخبارهم وقرب ديارهم من ديارهم مع أنهم كانوا أكثر الأمم عدداً، وأنبياؤهم أعظم الأنبياء - نبه على ذلك أبو حيان. ولعله قدم أصحاب مدين على قوم لوط وهم بعدهم في الزمان لأن هذا في شأن من وصفوا بأنهم لم يجدوا ما يحميهم مما هم فيه من العذاب بمشاهدة النبي صلى الله عليه وسلم من ملجأ أو مغارات أومدخل كما أن من قبل المؤتفكات جمعهم هذا الوصف، فقوم نوح عليه السلام لم يمنعهم لما أتاهم الماء معقل منيع ولا جبل رفيع مع أنه يقال؛ إنهم هم الذين بنوا الأهرامات، منها ما هو بالحجارة ليمنعهم من الحادث الذي هددوا به إن كان ماء، ومنها ما هو بالطوب التي لتحميهم منه إن كان ناراً، وعاد لما أتتهم الريح بادروا إلى البيوت فقلعت الأبواب وصرعتهم في أجواف بيوتهم، ولم يغنهم ما كانوا يبنون من المصانع المتقنة والقصور المشيدة والحصون الممنعة، وحال ثمود معروف في توسعهم في البيوت جبالاً وسهولاً فما منعتهم من الصيحة التي أعقبت الرجفة، وقوم إبراهيم عليه السلام بنوا الصرح، ارتفاعه خمسة آلاف ذراع أو فرسخان ليتوصل به نمرود كما زعم - إلى السماء فأتى الله بنيانهم من القواعد، ألقت الريح رأسه في البحر وخر عليهم الباقي وهم تحته، وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون، وأصحاب مدين لما أتاهم العذاب فأخذتهم الرجفة الرجفة لما تغن عنهم مدينتهم، وإن كانوا هم أصحاب الأيكة فإنهم لما اشتد عليهم الحر يوم الظلة قصدوا المغارات فوجدوها أحر من وجه الأرض فخرجوا منها هاربين، فجمعتهم الظلة بنسيم بارد خيلته إليهم ولبست به عليهم، فلما اجتمعوا تحتها أحرقتهم نارها وبقي عليهم عارها، وأما قوم لوط فأتاهم الأمر بغتة، لم يشعروا حتى قلبت مدائنهم بعد أن رفعت إلى عنان السماء، واتبعت حجارة الكبريت تضطرم ناراً،ولعله خص قوم لوط بالذكر من بين من ليس له هذا الوصف لأن العرب كانوا يمرون على مواضع مدائنهم ويشاهدونها، وعبر عنهم بالمؤتفكات لأن القصص للمنافقين الذين مبنى أمرهم على الكذب وصرف الأمور عن ظواهرها وتقليبها عن وجوهها، فالمعنى أن أولئك لما قلبوا فعل النكاح عن وجهه عوقبوا بقلب مدائنهم، فهؤلاء جديرون بمثل هذه العقوبة لقلب القول عن وجهه، ومادة "إفك" بكل ترتيب تدور على القلب، فإذا كافأت الرجل فكأنك قلبت فعله فرددته إليه وصرفته عنك، وأكاف الدابة شبه بالإناء المقلوب، والكذب صرف الكلام عن وجهه فهو إفك لذلك - والله أعلم.
ولما بين سبحانه أن المنافقين بعضهم من بعض وما توعدهم به وما استتبعه من تهديدهم بإهلاك من شابهوه، وختم بما سبب هلاكهم من إصرارهم وعدم اعتبارهم، عطف ببيان حال المؤمنين ترغيباً في التوبة طعماً في مثل حالهم فقال: { والمؤمنون } { والمؤمنات } أي بما جاءهم عن ربهم { بعضهم أولياء } ولم يقل: من، كما قال في المنافقين: من { بعض } دلالة على أن أحداً منهم لم يقلد أحداً في أصل الإيمان ولا وافقه بحكم الهوى، بل كلهم مصوبون بالذات وبالقصد الأول إلى اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدليل القطعي على حسب فهم كل أحد منهم، فذلك دليل على صحة إيمانهم ورسوخهم في تسليمهم وإذعانهم؛ ثم بين ولا يتهم بأنهم يد واحدة على من سواهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر فقال: { يأمرون } أي كلهم على وجه التعاضد والتناصر { بالمعروف } وهو كل ما عرفه الشرع وأجازه { وينهون } أي كذلك { عن المنكر } لا يحابون أحداً.
ولما ذكر الدليل القطعي على صحة الإيمان، أتبعه أفضل العبادات فقال: { ويقيمون الصلاة } أي يوجدونها على صفة تقتضي قيامها بجميع أركانها وشروطها وحدودها مراقبة لربهم واستعانة بذلك على جميع ما ينوبهم { ويؤتون الزكاة } أي مواساة منهم لفقرائهم صلة للخلائق بعد خدمة الخالق، وذلك مواز لقوله في المنافقين { ويقبضون أيديهم } ولما خص أمهات الدين، عم بياناً لأنهم لا ينسون الله طرفة عين بل يذكرونه في كل حال بقوله: { ويطيعون الله } أي الملك الأعظم الذي لا ملك سواه { ورسوله } إشارة إلى حسن سيرتهم وجميل عشرتهم.
ولما ذكر مكارم أفعالهم، أتبعه حسن مآلهم فقال: { أولئك } أي العظماء الشأن { سيرحمهم الله } أي المستجمع لصفات الكمال بوعد لا خلف فيه، وهذا مع الجملة قبله مواز لقوله في المنافقين { نسوا الله فنسيهم } وهو إشارة إلى أن الطريق وعر والأمر شديد عسر، فالسائر مضطر إلى الرحمة، وهي المعاملة بعد الغفران بالإكرام، لا قدرة له على قطع مفاوز الطريق إلا بها، ولا وصول له أصلاً من غير سببها.
ولما بين أن حال المؤمنين مبني على الموالاة وكانت الموالاة فقيرة إلى الإعانة قال: { إن الله } أي الذي له الإحاطة الكاملة { عزيز } أي غالب غير مغلوب بوجه، فهو قادر على نصر من يوالي حزبه وأن ينيله من ثمرات الرحمة ما يريد من غير أن يقدر أحد على أن يحول بينه وبين شيء من ذلك { حكيم* } أي فلا يقدر أحد على نقض ما يحكمه وحل يبرمه، وفي ذلك إشارة إلى أن المؤمنين لا يزالون منصورين على كل مفسد ما داموا على هذه الخلال من الموالاة وما معها من حميد الخصال.