التفاسير

< >
عرض

إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ يُدَبِّرُ ٱلأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمْ فَٱعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ
٣
-يونس

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم

{ إِنَّ رَبَّكُمُ } كلامٌ مستأنفٌ سيق لإظهار بطلانِ تعجُّبهم المذكورِ وما بنَوا عليه من المقالة الباطلةِ غِبَّ الإشارةِ إليه بالإنكار والتعجيبِ وحُقّق فيه حقيةُ ما تعجبوا منه وصِحّةُ ما أنكروه بالتنبـيه الإجمالي على بعض ما يدل عليها من شؤون الخلقِ والتقديرِ وأحوالِ التكوينِ والتدبـيرِ، ويُرشدهم إلى معرفتها بأدنى تذكيرٍ لاعترافهم به من غير نكيرٍ لقوله تعالى: { قُلْ مَن رَّبُّ ٱلسَّمَـٰوَاتِ ٱلسَّبْعِ وَرَبُّ ٱلْعَرْشِ ٱلْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ } [المؤمنون: 86 - 87] وقوله تعالى: { { قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مّنَ ٱلسَّمَاء وَٱلأَرْضِ } [يونس: 31] إلى قوله تعالى: { { وَمَن يُدَبّرُ ٱلأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ ٱللَّهُ } أي إن ربكم ومالكَ أمرِكم الذي تتعجبون من أن يرسِل إليكم رجلاً منكم بالإنذار والتبشيرِ وتُعدّون ما أوحيَ إليه من الكتاب الحكيم سحراً هو { ٱللَّهُ ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ } وما فيهما من أصول الكائنات { فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } أي في ستة أوقاتٍ أو في مقدار ستةِ أيام معهودةٍ فإن نفسَ اليوم الذي هو عبارةٌ عن زمان كونِ الشمس فوق الأرض مما لا يتصور تحققُه حين لا أرضَ ولا سماء، وفي خلقها مدرّجاً ـ مع القدرة التامةِ على إبداعها دفعةً ـ دليلٌ على الاختيار واعتبارٌ للنظّار وحثٌّ لهم على التأنيّ في الأحوال والأطوار، وأما تخصيصُ ذلك بالعدد المعينِ فأمرٌ قد استأثر بعلم ما يستدعيه علامُ الغيوب جلت قدرتُه ودقتْ حكمتُه وإيثارُ صيغةِ الجمعِ في السموات لما هو المشهورُ من الإيذان بأنها أجرامٌ مختلفةُ الطباعِ متباينةُ الآثارِ والأحكام { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ } العرشُ هو الجسمُ المحيطُ بسائر الأجسامِ سمِّي به لارتفاعه أو للتشبـيه بسرير الملِك فإن الأوامرَ والتدابـير منه تنزل، وقيل: هو المُلك ومعنى استوائِه سبحانه عليه استيلاؤُه عليه أو استواءُ أمرِه. وعن أصحابنا أن الاستواءَ على العرش صفةٌ له سبحانه بلا كيف. والمعنى أنه سبحانه استوى على العرش على الوجه الذي عناه منزَّهاً عن التمكن والاستقرار، وهذا بـيانٌ لجلالة مُلكه وسلطانِه بعد زمان عظمةِ شأنِه وسَعة قدرتِه بما مر من خلق هاتيك الأجرامِ العظام.

{ يُدَبّرُ ٱلأَمْرَ } التدبـيرُ النظرُ في أدبار الأمورِ وعواقبِها لتقعَ على الوجه المحمودِ والمرادُ هٰهنا التقديرُ على الوجه الأتمِّ الأكملِ والمرادُ بالأمر أمرُ ملكوتِ السمواتِ والأرضِ والعرشِ وغيرُ ذلك من الجزيئات الحادثةِ شيئاً فشيئاً على أطوار شتى وأنحاء لا تكاد تحصى من المناسبات والمبايناتِ في الذوات والصفاتِ والأزمنةِ والأوقاتِ أي يقدّر ما ذُكر من أمر الكائناتِ الذي ما تعجبوا منه من أمر البعث والوحي فردٌ من جملته وشُعبةٌ من دوحته، ويهيـيء أسبابَ كل منها حدوثاً وبقاءً في أوقاتها المعينةِ ويرتب مصالحَها على الوجه الفائقِ والنمطِ اللائقِ حسبما تقتضيه الحكمةُ وتستدعيه المصلحةُ، والجملةُ في محل النصبِ على أنها حالٌ من ضمير استوىٰ وقد جوز كونُها خبراً ثانياً لإن أو مستأنفةٌ لا محل لها من الإعراب مبنيةٌ على سؤال نشأ من ذكر الاستواءِ على العرش المنبىءِ عن إجراء أحكامِ المُلك. وعلى كل حال فإيثارُ صيغةِ المضارعِ للدلالة على تجدد التدبـيرِ واستمرارِه وقوله عز وجل: { مَا مِن شَفِيعٍ } بـيانٌ لاستبداده سبحانه في التقدير والتدبـيرِ ونفيٌ للشفاعة على أبلغ الوجوهِ فإن نفيَ جميعِ أفرادِ الشفيعِ بمن الاستغراقية يستلزم نفيَ الشفاعةِ على أتم الوجوه كما في قوله تعالى: { { لاَ عَاصِمَ ٱلْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ } [هود: 43] وهذا بعد قوله تعالى: { يُدَبّرُ ٱلأَمْرَ } جارٍ مجرى قوله تعالى: { { وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ } عقيب قوله تعالى: { { قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلّ شَىْء } وقوله تعالى { إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ } استثناءٌ مفرغٌ من أعم الأوقاتِ أي ما من شفيع يشفع لأحد في وقت من الأوقات إلا بعد إذنِه المبنيِّ على الحكمة الباهرةِ، وذلك عند كون الشفيع من المصطَفين الأخيارِ والمشفوعُ له ممن يليق بالشفاعة كقوله تعالى: { { يَوْمَ يَقُومُ ٱلرُّوحُ وَٱلْمَلَـٰئِكَةُ صَفّاً لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ ٱلرَّحْمَـٰنُ وَقَالَ صَوَاباً } [النبأ: 38] وفيه من الدِلالة على عظمة جلالِه سبحانه ما لا يخفى { ذٰلِكُمْ } إشارةٌ إلى المعلوم بتلك العظمةِ أي ذلكم العظيمُ الشأنِ المنعوتُ بما ذكر من نعوت الكمالِ التي عليها يدور استحقاقُ الأُلوهية { ٱللَّهُ } وقوله تعالى: { رَبُّكُـمْ } بـيانٌ له أو بدلٌ منه أو خبرٌ ثانٍ لاسم الإشارةِ، وهذا بعد بـيانِ أن ربَّهم الله الذي خلق السمواتِ والأرضَ الخ، لزيادة التقريرِ والمبالغةِ في التذكير ولتفريع الأمرِ بالعبادة عليه بقوله تعالى: { فَٱعْبُدُوهُ } أي وحّدوه من غير أن تشركوا به شيئاً من ملَك أو نبـيَ فضلاً عن جماد لا يُبصر ولا يَسمع ولا يضر ولا ينفع وآمِنوا بما أنزله إليكم { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } أي تعلمون أن الأمرَ كما فُصل فلا تتذكرون ذلك حتى تقِفوا على فساد ما أنتم عليه فترتدوا عنه.